شخصيات

بقلم
التحرير الإصلاح
أبو حنيفة النعمان
 ضيفنا في هذا الركن هذه المرّة فقيه وعالم ومؤسس المدرسة الحنفية أحد المذاهب الفقهية الأربعة للمسلمين السّنة، إنّه النعمان بن ثابت وكنيته «أبو حنيفة». 
ولد النعمان بالكوفة من عائلة ميسورة الحال وعاش فيها صباه وشبابه، وفيها حفظ القرآن الكريم وعمل مع والده في التّجارة واحتكّ بمجتمع متنوع يعيش فيه العرب والسريان والفرس وأبناء خراسان وتلتقي فيه فلسفات اليونان والفرس ومذاهب الشيعة والسّنة والخوارج والمعتزلة، وتتضارب آراء الفرق فى السّياسة مثل تضاربها فى العقائد، فتأثّر بما رآه وعاشه فانصرف في سنّ الثانية والعشرين إلى طلب العلم والبحث من دون أن يقطع علاقته بالتجارة التي كانت تدرّ عليه خيرا وفيرا، وتهبه من فضل الله مالا كثيرا.. 
التحق أبو حنيفة بحلقات «علم الكلام» فاستمع وناقش وجادل الفرق المختلفة في مسائل الاعتقاد وما يتصل به، وحفظ القرآن، وعرف قدراً من الحديث، وقدراً من النحو والأدب والشعر ثم انصرف عنها إلى دراسة الفقه، والتحق بحلقة حماد بن أبي سليمان، أحد كبار فقهاء الكوفة، وقد ثبت أن أبا حنيفة لازمه ثماني عشرة سنة إلى أن توفي سنة 120 هـ،  فتولّى أبو حنيفة رئاسة الحلقة، وأخذ يدارس تلاميذه ما يُعرض له من فتاوى ومنحهم قدرا كبيرا من الحريّة، فلم يتركوا مسألة دون نقاش فكانت حلقته مثل خلية نحل تعمل ليلا نهارا نقاشا وبحثا علميا، حتى وَضع تلك الطريقةَ الفقهيةَ التي اشتُق منها المذهب الحنفي.
لاحظ الإمام أبو حنيفة أن فقهاء المسلمين يجتهدون عند الحاجة فقط، لذلك فقد هدف إلى وضع نظام قضائي شرعي ينظّم حياة المسلمين في كلّ الأزمنة والعصور، ويستند إليه القضاة في حلّ قضايا الناس والفصل في النزاعات. ويعتبر أبو حنيفة من الأئمة الذين وضعوا الأسس النظرية للفقه الإصلاحي باعتماده على الرأي والقياس، ولهذا يسمّى المذهب الحنفيّ بمذهب أهل الرأي وقد ارتكز في فقهه على ستّة مصادر هي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والعُرف والعادة.
ويعتبر المذهب الحنفي بصفة عامة مذهبا مجدّدا احتوى على الكثير من الأفكار الجديدة، واعتمد على الإمعان في التعقل، من دون أن يخرج عن الحدّ المألوف عند مدارس الفقه الأخرى في الاجتهاد والرأي. 
كان أبو حنيفة لا يقف عند النصوص، وإنما يبحث في دلالاتها، ويحاول أن يواجه بالأحكام ما يقع من أحداث، وما يتوقع حدوثه من الأقضية والحالات. اتجه في استنباط الأحكام إلي إلحاق الأمور غير المنصوص على أحكامها بما نصّ على حكمه في حدود ما يحقّق مصلحة الأمّة ويتّسق مع عرف البلد وعاداته، إن لم تخالف هذه العادات والأعراف روح الشّريعة أونصوصها. ولأنّ أبا حنيفة عاش في زمن انتشر فيه وضع الحديث خدمة لهذا الجانب أو ذاك من التيارات المتصارعة، فقد وقف من الحديث موقف المتحرّي للرواة ومعاني الأحاديث، ورفض منها ما يشكّ في صدق روّاتها وتقواهم، أو ما يخالف نصّا قرآنيّا، أو سنّة مشهورة، أو مقصدا واضحا من مقاصد الشّريعة. وذهب إلى أن القياس الصّحيح يحقّق مقاصد الشّارع، ويجعل الأحكام أصوب وهو خير من الاعتماد على أحاديث غير صحيحة. وللقياس ضوابط هي تحقيق المصلحة وهذا هو هدف الشّريعة. 
وقاده منهجه في الاجتهاد إلى عديد من الآراء الحرّة من بينها الدّعوة إلى المساواة بين الرّجل والمرأة، في عصر بدأت المرأة فيه تتحوّل إلي حريم للمتاع! فأفتى بحقّ الحرّة البالغة في أن تزوّج نفسها وتختار زوجها. وأفتى بحقّ المرأة في تولّي كلّ الوظائف العامّة بلا استثناء بما فيها القضاء. وفي كلّ أمر من أمور الحياة تتعرّض فيه حرّية الإنسان لأيّ قيد، أفتى الإمام أبو حنيفة باحترام الحرّية وكفالتها، لأنّ في ضياع حريّة الإنسان أذى لا يعدله أذى ولأنّ سوء استخدام الحريّة أخفّ ضررا من تقييدها.. لقد أفتى بكلّ ما ييسر الدّين والحياة على الإنسان فذهب إلى أنّه لا يحقّ لأحد أن يمنع المالك من التّصرف في ملكه. ولا يحقّ لأحد أن يحكم على مسلم بالكفر ما ظلّ على إيمانه بالله ورسوله حتّى لو ارتكب المعاصي. ومن كفّر مسلما فهو إثم. 
وقد أغنت آراؤه في الفقه وجدان النّاس، وأيقظت ضمائرهم، وحرّكتهم للدّفاع عن حرياتهم في التّصرفات، متمسّكين في ممارستهم للحريّة بمبادئ الدّين وأصوله .. وكانت هذه الآراء كلّها تناقض روح العصرالذي عاش فيه وهو عصر يقوم نظام الحكم فيه على تكفير الخصوم، وإهدار دمائهم، وتقييد الحرّيات، وإطلاق يد الحاكم، وتمكين ذوي السّطوة من الضعفاء. من أجل ذلك اتّهمه خصومه من الفقهاء أصحاب المناصب (على رأسهم ابن أبي ليلى وتابعه شبرمة) بالخروج عن الإسلام وتعرض في حياته وبعد وفاته إلى هجمات الذمّ والقدح واللّغط والتّشنيع والتّطاول، تنتقص منه وترميه بالمجون تارة وتتهمه بالإسراف في الرّأي وتخرجه عن الملّة تارة أخرى . 
وقد رفض أبو حنيفة منصب القضاء أيام الأمويين والعباسيين على حدّ سواء، الأمر الذي عرضه إلى غضب الخلفاء والتعذيب والسّجن أكثر من مرّة. وكانت وجهة نظره أنّ الإمام لا يجب أن يصير قاضيا وأنّ تحمّل المسؤولية في عهد يحكمه الظالمون المستبدّون،إنّما هو مشاركة في الظّلم وإقرار للاستبداد وقد مات الإمام أبو حنيفة في السجن نتيجة رفضه تولي القضاء سنة 150 للهجرة (767 للميلاد) ودفن في بغداد.
رحل أبو حنيفة النعمان لكنه ظلّ خالدا فى تاريخ الإسلام بما مكّنَ للشريعة السّمحة من التعميم والانتشار لتظل كما أنزلها اللـه حيّة فى كل عصر بفضل خصاله وأفكاره القائمة على الحرية والتّسامح قاوم بها طغيان الأمير والخليفة والسجان وطغيان التقاليد والجمود والتعصب لينشئ مدرسة الرأى فى الإسلام لتكون أم الفقه الإسلامى ومنبعه على مرّ الدهور، ليحقّ القول فيه من معاصريه فى القرن الثانى الهجرى من أنّ أبا حنيفة النعمان كان «مخّ العالم».