قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
الثورة والبناء
 انتقلت الثّورات العربيّة في زمن وجيز من مرحلة المدّ الى مرحلة الجزر، بعضها توقّف لهيبها تماما وأخرى بين الانطلاق والأفول كما هو الحال في ليبيا واليمن مثلا. وبغض النّظر عن الأسباب و تشعّبها وسوء تقدير النّخب التي تولّت الحكم لعاملي الزّمن وللحجم الهائل من التّحديات، فإنّنا مازلنا بصدد الحديث عن فرصة الانطلاق نحو تغيير تدريجي للأوضاع التي كانت قائمة قبل الثّورة وتحقيق ما أمكن من أهدافها دون السّماح بانزلاق الوضع الى ما كان عليه من قبل أو الى ما هو أسوء.
لعلّ النّموذج التّونسي يكون الأقرب في الدّلالة على هذا المنهج حيث استطاع التّونسيون الحفاظ علي جسد الدّولة معافى وبناء مؤسّسات للحكم بآليّة الانتخاب وتكوين خريطة حزبيّة آخذة في التّقلص بعد طفرة أملا في الوصول الى عدد من الأحزاب يكون مناسبا وممثّلا لكلّ الحساسيّات الفكريّة والسّياسية المتنوعة . وقد أخذ هذا الأمر من التّونسيين جميعا ما يزيد عن السّنوات الثّلاث وما زال يتطلّب المزيد من الوقت لبناء التّوافق على أسس من الاعتراف بالآخر والبناء المشترك وحماية التّجربة من المتربّصين بها. ولئن كان لظهور الإرهاب أثره في سير الأحداث وتوجيه المجهود نحو مزيد من الجهد في سبيل التّوقي من الأخطار، فإنّ أمراض النّخبة وقلّة التّجربة وثقافة النّفي قد أسهمت في تعطيل الجهد ومحاصرة الأحلام .
لم يثر النّاس حبّا في الثّورة ولكن من أجل التّعبير عن رغبتهم في تغيير أوضاع لم يعد من الممكن السّكوت عليها ولم يدر في خلد الثّائرين والمتعاطفين معهم أنّ صعوبة البّناء لا تقدر بصعوبة الهدم وأنّنا مجتمعات تعرف كيف تهدم ولاتعرف كيف تبني، وتعرف كيف تقود الأوضاع الي الانسداد ولا تعرف كيف تحدث الانفراج .
لقد انطلقت الثّورة بمطالب غلب عليها الطّابع الاجتماعي والاقتصادي ولم تكن السّياسة هاجسها الأول، خرج النّاس من أجل الحصول على الحقّ في الشّغل والكرامة والتنمية وإصلاح الأوضاع ولم تتطوّر الأمور إلى أبعد من الاجتماعي والاقتصادي إلاّ حين صمّ النّظام أذنيه وبحث عن فرص الاحتواء أكثر من بحثه عن فرص التّغيير. ولعلّ هذا ما يفسّر عزوف النّاس عن السّياسة والمشاركة في الانتخابات والعمل العام بعد إمعان النّخب الجديدة التي حكمت في المغالاة والاستعلاء عن مطالب النّاس الحقيقية وأخذها الى مربعات من المناكفة والتّرف الفكري والصراع على المواقع والأنماط وتقسيم المجتمع حسب الأهواء الفكرية و الأوهام الهلامية التي لا تعني المواطن في شئ.
لقد خسرنا للأسف الشّديد أو نكاد فرصة هائلة لبناء إنسان جديد ومجتمع مجدّد بفعل الحراك المعرفي والتنموي والثقافي داخله. ولقد رأينا بأعيننا صعوبة التّغيير الجذري في أكثر من موقع وخاصة في مصر وسوريا ولمسنا بالحجّة الدّامغة أنّ هدم الأوطان والأحلام أسهل ممّا كنا نتصوّر وأن كلفة هذا الهدم قد تساوي ضياع الأوطان والأحلام إلي غير رجعة، ومن يشاهد حجم المأساة في سوريا وما يعتمل داخل الواقع المصري الجديد من عوامل جاهزة لتصنيع مأساة أشدّ دموية وأعظم كلفة أو إلى ما يهدّد ليبيا يدرك أنّنا شعوب كأنّها لا ترى ولا تسمع ولا تدرك ولا تتعظ.
لم ينزلق النّموذج التّونسي إلى ما يشبه ما انزلق اليه غيره - وإن كان الأمان ليس مؤكّدا- و لكن ذلك لا يعفينا من ملاحظة كمّ هايل من الانحرافات والنكوص وانزياح عن أهداف الثّورة وأحلام الشّباب الذي ثار وآمال المواطنين اللّذين ساندوا، والسّؤال الذي يجدر بنا طرحه والاجابة عليه بسرعة قبل أن يصبح طرحه متأخّرا وتصبح الأجابة عنه ضربا من التّرف أو الملهاة هو السّؤال عن كيفيّة التّوقي من المصير المأساوي الذي عرفته الثّورات العربيّة الأخرى ؟ وكيف السّبيل لتحقيق طموحات الشّعب التّونسي كلّه في الحرّية والكرامة والشّغل والعدالة الاجتماعيّة ؟ وهل بامكاننا الرّهان على المخرجات السّياسية لما بعد الثّورة من مؤسّسات وأحزاب وسياسيات من أهمّها سياسة التّوافق أم أنّ علينا إعادة النّظر في كل شئ. 
لقد بدأت الثّورة برغبة في الإصلاح وإلى الإصلاح يجب أن تنتهي وما دون ذلك كلّه هرطقة ولعب بالعقول والأوضاع، ولا سبيل سوى سبيل البناء يمكن نهجه من دون إراقة الدّماء والتباغض والتخوين والتكفير بشقيّه الدّيني وغير الدّيني، وهو بناء لا يزدهر الاّ في ظلّ السلم وفي مناخ من السّلام الاجتماعي بين الجميع والرغبة في التّشارك بدل الصّراع والمساهمة بدل المقاطعة والمساعدة بدل التّعطيل وهو بناء تدريجي ولكنّه مؤسّس وممنهج غايته تحقيق ما أمكن من الازدهار على جميع الأصعدة في إطار من التّحابب والتّدافع السلمي وتوليد للمعاني والقيم الأصيلة.
------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com