الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
الإنسان و السماء - ج8 - لغة الكون
 رأينا مع مقراب «جاليلاي» أنّ الضّوء الصّادر عن الأجرام السّماوية هو الذي جمعته العدسة بكمّية كافية لتستطيع عين الإنسان إبصار ما كان محجوبا عنها منذ آدم عليه السلام. لذلك يستحق الضّوء كظاهرة طبيعية تسليط «الضّوء» عليه  باعتبار أنّه يمثّل اللّغة الوحيدة – كما سيتبين ذلك لاحقا - التي استطاع بواسطتها الإنسان سبر أغوار المادّة و الكون واستكشاف مكوناته وبنيته وحركتيه وحلّ بعض من ألغازه وأحاجيه مثل أزليته وحجمه وغير ذلك. فأبعاد الكون كما سنرى كبيرة جدّا ويستحيل الوصول أو حتّى الاقتراب من أقرب نجم من مليارات مليارات النّجوم التي يحتويها كوننا لدراسته مباشرة. فماذا عن ماهية الضّوء؟ وكيف تقع عملية الإبصار؟ وأيّ معلومات يمكن أن نستقيها من الضّوء القادم إلينا من الأجرام الموجودة في أعماق السّماء والماضي السحيق لتلك الأجرام؟ لنحاول تتبّع مفهوم الضّوء عبر التّاريخ باقتضاب نأمل ألاّ يخلّ بالغاية المرجوة و هي إدراك أهمّيته كوسيلة أساسيّة في تعاطي الإنسان قديما وحديثا مع السماء. 
الضوء عند الإغريق  
قال أفلاطون (427 ق. م. – 347  ق.م.) بأنّ هناك شعاعا يخرج من عين الإنسان فيحيط بالأشياء التي يراها. إلاّ أن أرسطو خالفه، وهو أستاذه، إذ يقول بأنّ العين ترى الأجسام بدون أن يصدر من تلك الأجسام شيئا. وقال أيضا أنّه لو أنّ العين هي التي تصدر أشعّة الرّؤية لكان من الممكن أن نرى الأشياء في الظلام. فليس للبصر وجود في ذاته بالنّسبة لأرسطو. أما الرّواقيون، تلاميذ الفيلسوف اليوناني زينون (334 ق م – 262 ق م ) الذي كان يعلّمهم في رواق،  فقد ذهبوا إلى أنّ إبصار جسم لا يمكن أن يكون إلاّ بأن يخرج من العين شعاع يلمسه ولذلك عرفوا بأصحاب الشّعاع.
عند تناولنا لنموذج أرسطو للكون قلنا بأنّ العناصر المكوّنة له هي التّراب والماء والنار والهواء بالنسبة للعالم ما تحت القمر والأثير بالنسبة لعالم ما فوق القمر. والأثير في تصور أرسطو للكون هو وسط طبيعي مادّي شفاف يفترض أنّه يملأ الكون كلّه ويعزى إليه خفّة قصوى ومرونة قصوى في آن واحد. فهو أدقّ من الغاز وأمرن من الفولاذ. وقد افترضت تلك المرونة (الصّلابة) لكي تسمح للضّوء بالانتشار بسرعة كبيرة إذ كان يعتقد أنّ الضوء هو عبارة عن نشاط (ارتجاج) ولكي ينتشر لا بدّ له من وسط حامل شأنه شأن الأمواج الاهتزازيّة التي تتكون على سطح ماء بركة. أمّا الصّفة الثانية للأثير فهي ضروريّة لتتمكّن الأجرام السّماوية من الحركة.  فالشّمس إذا هي التي تحدث نشاطا (ارتجاجا) في الأثير فينتج الضّوء واللّون.   
الضوء (النور) عند العرب
إذا توسّلنا معنى لكلمة ما في اللّغة العربيّة فإنّنا نستنجد بالقواميس اللّغوية التي أنجزت. فبالنّسبة لموضوعنا فإنّنا نجد في اللّغة العربيّة كلمتي «الضّياء» و«النور». يقول أهل اللّغة: الضّياء أخصّ من النّور وكان العرب قديماً لا يفرّقون بين الضّياء والنّور فكلاهما عندهم بمعنى الضّوء المنتشر من النيّرات (أي الأجسام المنيرة). ودليل ذلك أنّنا نجد في القواميس العربيّة كمعجم المعاني الجامع أنّ الضَّوْءُ هو النُّورُ، وهما مُتَرَادِفانِ. كما نجد مثلا في قاموس المعاني : « لاَحَ ضَوْءُ القَمَرِ وانْعَكَسَ على سَطْحِ البُحَيْرَةِ فَتَلأْلأَتْ ضِياءً». أمّا في قواميس اللّغة غير العربية (الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة) وهي اللّغات التي جاءت عن طريقها العلوم الحديثة فلا يوجد إلاّ مرادف واحد أي الضّوء ولا تفرّق بين الضّياء والنّور.
في القران الكريم:أشعّة الشّمس ضوء و أشعّة القمر نور
لم يلتزم القرآن الكريم باستعمال التّرادف الذي اتّصفت به كلمتي ضوء ونور في الاستعمال العربي كما تبينا ذلك سابقا في بعض الأمثلة الموجودة في القواميس اللّغوية. فنجد مثلا الآيات التّالية: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ»(يونس: 5)  و«وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا» (نوح: 16 ) و«وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا. وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا» (النبأ:12-13). كان علينا أن ننتظر ما تكشف عن الضّوء من حقائق لكي ندرك لماذا هناك تفرقة بين ضوء الشّمس ونور القمر في القرآن. قلت كان علينا أن ننتظر رغم أن القران الكريم يوضح المسالة. فالله سبحانه وتعالى سمّى الشّمس مرّة بالسّراج، وأخرى بالسّراج الوهّاج، والسّراج في اللّغة هو المصباح الذي يضيء بالزّيت. فالشّمس والمصباح يشتركان إذا في خاصيّة واحدة، كما يقرّر القرآن وهي أنّهما يعتبران مصدراً مباشراً للضّوء. أمّا أشعّة القمر فقد سمّاها الخالق بالنّور، ولم يشبه القمر في أيّ من الآيات بمصباح ممّا يعني أنّ القمر هو مصدر غير مباشر للضّوء وهو ما أصبح معلوما من علم الفلك بالضّرورة.  فكلمة ضوء لا تعني النّور في القرآن بل تعني الشّعاع المنعكس من الأجسام غير المضيئة في ذاتها كما أصبحنا نفهم الآن من ظاهرة انعكاس الضّوء وغيرها من الظواهر التي ارتبطت تاريخيا بعلم فذّ من أعلام المسلمين وهو «الحسن بن الهيثم» الذي يشهد له التاريخ بأكبر ثورة علميّة في البصريّات على المستوى المفاهيمي من جهة وعلى مستوى الأساس التجريبي الذي حدّد معالمه في تلك الثّورة من جهة ثانية وذلك في أوائل القرن الحادي عشر ميلادي. 
الضوء عند ابن الهيثم : إعادة الأمور إلى نصابها
يمثل الضّوء بالنّسبة لابن الهيثم (956 م – 1040م) عاملا أو مؤثّرا موجودا بذاته في العالم الخارجي المستقلّ عن نفس الإنسان وذهنه. وقد أعزى إحساس البصر بالعقل والحواس، وهي أدوات إدراك العالم الخارجي، إلى ذلك العامل ذى الوجود العيني. وانطلاقا من تصوّره لتلك العلاقة بين الإنسان ومداركه من جهة والبيئة الخارجيّة التي يتحرّك فيها من جهة ثانية والقائمة على افتراض وجود عنصر ثالث هو الضّوء، فقد وضع حدّا لذلك التّصور القديم القائل بفكرة خروج شيء من البصر إلى الجسم المرئي ليحقّق عمليّة الإبصار. أمّا عن طبيعة الضّوء فقد افترض ابن الهيثم أنّه جسم مادّي لطيف ينبعث من الأجسام ذات الأضواء الذّاتية فحسب على شكل أشعّة لها أطوال وعرض سمّاها حبال نور. وقال بالطّبيعة الجسيميّة للضّوء وانتشاره في خطوط مستقيمة. شرح ابن الهيثم انعكاس الضّوء عند سقوطه على سطح جسم وانعطافه عند نفوذه من وسط شفّاف إلى وسط شفاف آخر يختلف عنه في الشّفيف وهي خاصّية ترتبط بكثافة الوسط. وقال بأنّ حركة الضّوء في الأجسام الغليظة أبطأ من حركتها في الأجسام اللّطيفة. كما استطاع أن يثبت أنّ للضّوء سرعة محدّدة وليست لانهائيّة مثله مثل الصّوت إلاّ أنّ سرعة الضّوء أكبر بكثير بحيث لا نحسّ بها أصلا وهو يتنقّل. لم يكن ممكنا لابن الهيثم أن يحقّق تلك الثورة في البصريات لو لم يتناول النظريات القديمة بالنقد و التحليل و أتباع منهج علمي صارم يقوم على الاستقراء الذي يبنى على مراحل تبدأ بالملاحظة تتبعها التجربة ثم وضع الفروض النظرية لتفسير ما تتمخض عن التجارب من نتائج. ترك ابن الهيثم رصيدا ضخما في علم البصريّات ترتبط بالدّراسة النّظرية والتجريبيّة للظواهر المميّزة للضّوء كالانتشار والانعكاس والانكسار.
الضوء عند نيوتن : النظرية الجسيمية تفرض نفسها
ينطلق نيوتن (1643-1727) من فرضيّة أنّ الضّوء هو جسيمات مضيئة تصدر عن الأجسام وكأنّها كرات من نّور. وقد عرفت تلك الفرضيّة بـ «فرضيّة الإصدار». وبالاعتماد على تلك الصورة الذهنية للجسيمات الضوئية و نظريته عن الحركة فقد بين نيوتن أنها تنتشر وفق خطوط مستقيمة تدعى بالأشعة الضوئية. وعندما تصطدم الكرات بسطح عاكس كالمرّات فإنّها ترتدّ بزاوية مساوية لزاوية الورود. وعندما يجتاز الشّعاع الضّوئي السّطح الفاصل بين وسطين شفافين مختلفين فإنّه يغيّر مساره (ينكسر) وسرعة انتشاره. صاغ نيوتن رياضياتيّا القوانين التي تصف سلوك الضّوء كالانتشار والانعكاس والانكسار. فرضت تلك النّظرية نفسها لقدرتها على تفسير العديد من الظّواهر مثل الانكسار الظّاهري للقلم عندما يغمس أحد طرفيه في الماء، وظاهرة السّراب ولماذا يبدو قاع بركة ماء أقرب لسطحها ممّا هو عليه حقيقة وغيرها.  
تمكن نيوتن أيضا من إثراء المعارف الإنسانيّة المتعلّقة بالضّوء وذلك بإحداث قوس قزح في مخبره بعد أن أمر شعاعا ضوئيّا في منشور زجاجي. فقد خرج الضّوء من المنشور وقد تفرّق إلى ألوان عدّة أطلق على مجملها «الطّيف المرئي». وقد تطلّب تفسير كيفيّة حدوث ذلك الطّيف قليلا من الزّمن حتّى يقع الالتجاء للنّظرية الجسيميّة. 
ولم يكن أيضا بمقدور نظريّة نيوتن الجسيميّة تفسير لماذا ينتشر الضّوء انتشارا مروحيّا (ظاهرة الحيود) بعدما تجتاز حزمة ضوئية ثقبا صغيرا. فالنّظرية الجسيميّة لا تقول بتغيّر منحى الإشعاع الضّوئي إذا لم يغيّر وسط انتشاره. وقد تطلب الأمر الاستعانة بالظاهرة التموّجية لفهم كيف حدث انعراج الضّوء وحيوده. 
و قبل أن نواصل لا بد من الإشارة إلى أن من أعظم ابتكارات نيوتن في الرياضيات و التي ستجعل الطريق سالكا لمزيد التعرف على الطبيعة المراوغة للضوء هي «المعادلات التفاضلية». فما هي أهمية تلك المعادلات؟ إنها صيغ حسابية قادرة على وصف حركة الأجسام التي تخضع بشكل ناعم لتغيرات متناهية الصغر في الزمان و المكان مثل حركة الأمواج و السوائل و الغازات و غيرها. فما الرابط بين المعادلات التفاضلية و طبيعة الضوء؟
مفهوم «الحقل» 
لنتذكر قليلا قانون نيوتن في الثقالة. في هذا القانون هناك شيئا ما لم يكن نيوتن نفسه مرتاحا له وهو وجود قوّة جذب تنتشر فوريّا وبسرعة لانهائيّة من الشّمس إلى باقي الكواكب لتتكوّن المنظومة الشّمسية. فما هي طبيعة تلك القوّة القادرة على الانتشار بدون وسيط؟ غموض طبيعة تلك القوّة الفيزيائيّة استفزّ العديد من العقول من بينها مايكل فراداي (1791 م – 1867 م). قام فراداي بالتّجربة التّالية : وضع برادة (قطعا دقيقة) من الحديد فوق سطح يسمح بنقل التّأثير المغنطيسي النّاتج عن وجود مغنطيس أسفل السّطح. كانت النتيجة لافتة للنّظر. توزّعت برادة الحديد على هيئة خطوط سمّاها خطوط القوّة. ما الذي حدث؟ إنّ المكان الفارغ ليس كذلك بالنّسبة لفراداي بل مملوء بخطوط قوة هي التي (أي القوة) فرضت ذلك التوزيع الهندسي الجميل لقطع الحديد. أما التجربة الثانية التي ستكمل الصورة فهي التالية : حرك فراداي  عام 1831 مغنطيسا صغيرا قرب سلك فلاحظ ولادة تيّار كهربائي أي أنّ حقل القوّة المغنطيسي حرّك الالكترونات في السّلك عبر الفضاء الفارغ خالقا تيّارا كهربائيّا. استنتج من التّجربتين أنّ «حقول القوة» ليست رسوما خاملة كما اعتقد سابقا بل هي قوى مادّية حقيقيّة قادرة على تحريك الأجسام و توليد طاقة. وقد تابع التّجارب التي أثبتت أنّ التّأثير عن بعد الذي حيّر نيوتن يمكن أن يفسّر بوجود حقول قوّة وأنّ حقول القوّة المغنطيسيّة والكهربائيّة هما وجهان لظاهرة واحدة هي «الكهرمغنطيس» باعتبار أنّ الحقول المغنطيسيّة تتحوّل إلى حقول كهربائية والعكس صحيح. لكن ما علاقة حقول قوة فراداي بالضّوء؟ جيمس كليرك ماكسويل (1831 – 1879) سيجيبنا على السؤال.
الضوء موجة
ماذا فعل ماكسويل  بالضبط؟ كتب ماكسويل أوصاف فراداي لحقول القوة بلغة الرياضيات مستعملا المعادلات التفاضلية كأداة للتعبير عنها. لكن لماذا المعادلات التفاضلية؟ الإجابة بسيطة. فتلك المعادلات تصف حركة الأجسام التي تخضع بشكل ناعم لتغيرات متناهية الصغر في الزمان و المكان و من طبيعة خطوط حقول قوة فراداي أنها تظهر بدورها تغيرات طفيفة في شكلها مما يجعلها موضوعا للمعادلات التفاضلية.  واصل ماكسويل اشتغاله على حقول القوة و تساءل ماذا لو افترضنا أن تحول إحدى القوتين إلى الأخرى يستمر بدون توقف ؟ أجابته المعادلات الرياضياتية بان ذلك سيعطي أمواجا كأمواج البحر تنتقل بسرعة قريبة جدا من سرعة الضوء وهو ما مثل له سببا قويا لاستنتاج أن الضوء نفسه هو تموج كهر مغنطيسي. و مع معادلات ماكسويل اتضح سر الضوء و أصبح بمقدورنا وصف العديد من المظاهر الطبيعية كأشعة الشمس و ألوان الطيف المرئي و تلالا النجوم  و ظاهرة الحيود التي كان تصور نيوتن عاجزا على تفسيرها. و لنا عودة لظاهرة الضوء كموجة. 
  -----
           -  دكتور  بالجامعة التونسية
          ghorbel_nabil@yahoo.fr