نقاط على الحروف

بقلم
محمد المولدي الداودي
حركة النهضة وفقه المناورة السيّاسيّة - الجزء 4
 تجربة الترويكا: 
تجربة في التجديد السياسي أم هي خضوع لبعض مكاره الحكم؟.
منع القانون الانتخابي (قانون التمثيل النسبي) من استئثار حزب حركة النهضة بالأغلبية المطلقة ومكّنها من نسبة لا تتجاوز 41 بالمائة وما أفرزته الانتخابات من نتائج أكّد رغبة حركة النّهضة في بناء حكم ائتلافي توافقي في المرحلة الانتقاليّة ولم تكن هذه الرّغبة محكومة بشروط التّوافق الفكري أو السّياسي أو التّناسب بين البرامج والأهداف وإنّما كانت محكومة بتوازنات حزبيّة أفرزتها الانتخابات التشريعيّة فكانت الترويكا تجربة من تجارب الحكم التوافقي المحكوم بدوره بكثير من معالم الإكراه السّياسي الذي تجلّت آثاره سريعا في ذلك الاختلاف في منهجيّة التّسيير والتّباين في تبويب الأولويّات بالنّسبة للأحزاب الثّلاثة المكوّنة لأجنحة الحكم في حكومة التّرويكا.
أصاب الخلل المنهجي في مبدأ التّوافق وتناقضاته حزبيّ المؤتمر من أجل الجمهوريّة وحزب التكتّل من أجل العمل والحريّات وطفت على السّطح خلافات جوهريّة كشفت ضعف التّحالف ووهن التّوافق وبدأت مظاهر التّناقض بين أولويّات كلّ حزب من الأحزاب الثّلاثة حاسمة في كشف ملامح الصّراع والتّنافر.
كانت التّرويكا تجربة سياسيّة متسرّعة وارتجاليّة حكمتها نتائج الانتخابات ولم تكن توافقا حقيقيّا في الرّؤية والغايات والمنهج، لقد كانت رسالة سياسيّة حاول من خلالها حزب حركة النّهضة الإجابة عن أسئلة خصوم السّياسة والفكر من الأحزاب التونسيّة وأسئلة الغرب المرتاب من حكم ملوّن بألوان الإسلام السّياسي، ولذلك بدت عناصر الفشل أقوى من عناصر النّجاح واهتزّت في هذه التّجربة عناصر التّرابط الحزبي لمكونيّن أساسييّن هما حزبا المؤتمر والتكتّل وأدركت النّهضة عسر المرحلة وغموض المسار.
في تلك المرحلة الانتقاليّة الأولى خاضت حركة النّهضة صراعا ثنائيّا استنزف جهدها التّنظيمي واستفرغ قدرتها على المناورة، فقد واجه نوّاب حركة النّهضة في المجلس التّأسيسي خصوم السّياسة والايدولوجيا وعمّق تفكّك حزبي المؤتمر والتكتّل عزلة الحركة واستعادت تلك الأحزاب معارك الدّين والدّولة وفي المشهد الحكومي غذّت أحزاب المعارضة المطلبيّة واستعانت بالمنظّمات النقابيّة في توسيع دائرة الاحتجاج الاجتماعي وتجاوزت الخصومة السياسيّة كل حدّ واستعان خصوم النّهضة بآلة إعلاميّة تفنّنت في صناعة معارك وهميّة لتحريف المسار واستنزاف الجهد الثّوري وتزييف الوعي.
الاغتيال السياسـي وفنّ الاستثمار في الدم 
لم يكن اغتيال المناضلين السياسيين  شكري بلعيد يوم 06/02/2013 والحاج محمد البراهمي يوم 25/07/2013 بالحدث العابر في التاريخ التونسي المعاصر بل لقد أضحى الاغتيال السياسي عنصرا من عناصر اللعبة السياسيّة العنيفة والقاتلة والغامضة التي أعادت رسم مكوّنات اللّوحة السياسيّة ضمن إطار من الخوف الذي دفع كل المجموعة الوطنيّة ومنها الأحزاب «الثوريّة» إلى إعادة القراءة في المسارات والمآلات والمنهج والطريقة... بعد الاغتيال لم تعد الثّورة في مفهومها السّياسي (قانون تحصين الثورة) ولا الإداري (مقاومة الفساد) ولا الأمني (الأمن الجمهوري والجيش الوطني) ولا الاجتماعي(التنمية والعدالة ) هي المستهدفة جذريّا وإنّما استهدفت المكوّنات البنائيّة للدّولة ومنها وحدة الشّعب والسّلم الأهلي وفي تلك المرحلة حاولت النّهضة حمل الدّولة بيد وحمل الثّورة باليد الأخرى وأدركت حكمة السّياسة وغلّبت راية الوطن على راية الحزب .
المشهد المصري: العودة إلى دائرة المحنة.
مرّة ثانية يلتقي المشهد السّياسي التّونسي بالمشهد السّياسي المصري ويتناظران، ففي 25 فيفري 2011 التقط الشّارع المصري في القاهرة صدى الثّورة التونسيّة وسار في مساراتها وفي 03/07/2013 وما بعدها التقط الشّارع التّونسي في باردو صدى الانقلاب المصري واستعار منهجه وأدواته ودفع البعض من خصوم السّياسة في تونس المدفوع بمشهد استباحة الدّم المصري في الشّوارع والسّاحات دفع فصيلا من المعارضة إلى محاكاة الواقع المصري غير عابئ بتكلفة الدّم والإنسان، وفي تلك المرحلة تداخلت العناصر المشكّلة للعلامة الانقلابيّة من مكوّنات الدّولة العميقة ورموزها السّياسيّة وخصوم الفكر والسّياسة وأموال الخليج الخائف والمتربّص بالرّبيع العربي والإعلام المدفوع الأجر ودوائر المخابرات العربيّة والأجنبيّة ومحترفي الإرهاب السّياسي والديني...
في تلك المرحلة استفادت حركة النهضة من الدرس المصري القاسي والدّامي وأدركت بحكمة بالغة المسارات وخيّرت السير عبر توازنات دقيقة تحفظ فيها كيان الدّولة وكرامة الثّورة.
محنة النبتة في أرض صلبة صلدة لا تصلح للنّبات ومحنة الفكرة في أرض متحوّلة متحرّكة لا تدرك الثّبات ومحنة السّياسة فكّ لغة الواقع ومحنة التّغيير فهم شروط تحقّقه.
النّهضة جماعة واتّجاه وحركة.. هذا مسار التاريخ في حكايتها وهي المحنة والابتلاء في حديث أهلها وهي مدرسة من مدارس الفكر الإسلامي الحديث جرّبت فتنة الفكرة ومحنة الحكم، وأدركت تلك المسافة الفاصلة بين جاذبيّة الخطاب الإيديولوجي أو السياسي أو الثوري ومعركة البناء الواقعي ..أخطأت أحيانا في تقدير مسافات الفصل والوصل مع بقيّة الأحزاب والمنظّمات والهيئات وأخطأت أحيانا كذلك في اتجاهات السير واكتشاف النهايات ولكنّها لم تخطئ أبدا في عناوين الوطن.
النهضة اليوم جمع من الرؤى الفكرية والدينيّة والسياسيّة يحتاج إلى صهر وصقل وتجربة في الحكم أرست فكرة التوافق تحتاج إلى نضج، والنهضة اليوم جسم حيّ عمره خمسة وأربعون عاما أوّله جيل الدّعوة وآخره جيل الثّورة ....وما بينهما أسئلة التاريخ والإنسان.
-----
- أستاذ تعليم ثانوي
sbibadaoudi@gmail.com