في العمق

بقلم
توفيق الشّابي
حول المقاربات الجديدة للنص الديني
 قرأت في العدد 85 من مجلة «الإصلاح» مقالة الأستاذ «عبد المجيد بن براهيم» حول نقد المنظومة الأصوليّة القديمة والتي أشار فيها إلى بعض التّناقضات التي حَوَتْهَا والخلفيّات التي كانت وراءها خاصّة في ما استُحدث من أصول لمواجهة تطورات الواقع وهو ما أثار في ذهني التّساؤل حول منجز ومآلات المقاربات الجديدة للنّص الدّيني بعد عقود من التّفكير بذلك. والحقيقــة أنّ موضوع التّجديد في مقاربة النّص الدّيني والتّراث عموما من المواضيع والأسئلة التي تعود إلى بدايات عصــر النّهضة في القرن التّاسع عشر مع «محمد عبده» و«الطهطاوي» و«قاسم أمين» وغيــرهم في مختلف البلدان العربية .وقد شهدت العقود الأخيرة تراكما كمّيا مهمّا في عــدد الكتب والمقــالات والدّراسات التي تناولت هذا السّؤال بالنّظر. كما ظهرت عدّة مشاريع فكريّة لأسمــاء مهمّة حاملة همَّ دراسة التّراث ومفكّرة في آليات مقاربته وخاصّة مقاربة النّص القرآنــي الذي يمثّل النّص المركزي في التّراث العربى الإسلامي ومن بينهم «محمد أركون» و«حسن حنفي» و«أبو القاسم حاج حمد» و«محمد عابد الجابري» و«عبد المجيد الشّرفي» وآخرين كُثر. وفي الكثير من النّقد الموجّه لهذا التّراث وخاصّة المقاربة القديمـــة في قراءة النّص الدّيني والمحسوبة على «الإمام الشافعي» كمؤسّس لعلم الأصول، نلاحظ نوعا من الاتّهام وتحميل المسّؤولية لعلماء تلك المرحلة بأنّهم بنوا نسقا مغلقا وسياجـا عطّل لقرون عديدة امكانيّة التّطور في تأويل النّص الدّيني في حين أنّ الإشكاليّة هـي في من جاء بعدهم والذين تمسّكوا بالقديم وحتّى إن حاولوا التّجديد فإنّهم لم يستطيعـوا الإتيان ببديل مقنـع. 
من المهم الوعي بأن القدماء اجتهـــدوا ضمن شروط تاريخية معينة ونجحوا ضمن تلك الشّروط الصّعبة في إنجاز بناء كان قادرا على الصّمــود لعقود وبالتّالي فإنّه لا مبرّر لإدانتهم والتّقليل من شأن ابدعاتهم. بالتّأكيد هي في حاجة للمراجعة ومراجعة عميقة أحيانا وذلك ضمن التّطورات الجديدة للواقع والوعي الانسانيّين. إنّ الايمان بنسبية الأفكار وبأهمّية التّراكم في مجال انتاج المعرفة من القيم الضّروريّة التي يجب أن تكون لدى أي باحث لأنّ أيّة معرفة هي تاريخيّة بالضّرورة ولا يمكن أن تكون مطلقـــة، ينطبق ذلك على أيّ منها، قديما كان أم جديدا. 
إنّ قراءة عامّة لما كتب خلال العقود الأخيرة حول المقاربات الجديدة للنّص الدّيني يمكن أن تقودنا إلى بعض الأفكار حول واقع هذه الدراسات:
- اتّساع دائـــــرة المهتمّين بهذا الموضوع. فبعد أن كان يُناقَش في دائرة ضيّقة من نخبة محدودة العدد أصبح أكثر تداولا وعلى نطاق أوسع في المجلات والصّحف والمنتديــــــــات. هذا الأمر يعني ازدياد الوعي بأهمّية الموضوع وإلحاحيته أيضا على الفكر العربي الإسلامي المعاصر والذي لم يستطع إلى حدّ الآن حسم هذه الإشكالية وهو ما شكّل عائقا أمام تقدّم العرب ليكون لهم موقع في المستقبل.
- يمكن اختصار الرؤى الفكرية الجديدة حول مقاربة النّص الدّيني إلى رؤيتين. الرؤية الأولى ذات منحى توفيقي بين التّراث والحداثــة، فهي لا تقطع مع التّراث وتستفيد أكثر ما يمكن من الحداثة وخاصّة على صعيد المناهــج. الرّؤية الثانية أكثر جذريّة في قطعها مع التّراث وتعطي الأولويّة المطلقة للحداثة علــى النّمط الغربي وخاصة في موقفها من الدّين وموقعه في المجتمع. وهي تعتبر التّراث كــلّ التّراث موضوعا للّنقد من أجل البحث عن مزيد من الحجج لتأكيد تخلّف هذا التّراث وضرورة الانخراط في كلّ ما جاءت به الحداثة الغربيّة. ما يمكن ملاحظته هو أنّ جزءا من هذه المقاربات يبدو مشحونا بخلفيّة ايديولوجيّة من شأنها أن تفقدها الموضوعيّة المطلوبة في الدّراسات الفكريّة.
- مع الكمّ المهمّ للدّراسات والبحوث التي كتبت في هذا الموضوع في العقود الأخيرة وبروز عدّة مشاريع فكرّية تتصدّى لهذا الموضوع لمفكرين كـ «الجابري» و«حسن حنفي» و«محمد أركون» وغيرهم، فإنّ المشهد العام لكلّ هذه الكتابات يعكس نوعا من التّشتت. يعني أنّنا لسنا أمام مشروع أو مشاريع متكاملة قادرة على الإحاطة بالسّؤال من كل جوانبه وتقديم إجابات مقنعة يمكن أن تكون بديلا عن المنظومة القديمة في مقاربة النّص الدّيني.
- ربّما التّقدم الذي حصل في تناول الفكر العربي لهذا الموضوع هو تفكيك السّؤال، إن صحّ التعبير، والانتباه إلى عدّة زوايا نظر في مقاربة النّص الدّيني. غير أنّ منهجيّة التّعامل مع النّص الدّيني وموقع العقل والواقع منه وحدود هذا الثّلاثي في العمليّة التّأويلية مازالت لم تتّضح بعد .
إنّ التّأسيس لمنهجيّة واضحة في مقاربة النّص الدّيني من اللّوازم التي لابدّ منها وإلاّ فإنّ عمليّة القراءة ستكون اعتباطيّة ونتائجها غير مقنعة بل قد تقود إلى التّناقض الذي يفقدها المصداقيّة ولن تقدر على أن تكون بديلا عن المنهجيّة التّقليدية في التّعامل مع النّص الدّيني. عندما نتحدّث عن منهجيّة لا نقصد آليّة مغلقة ونهائيّة بل يجب أن تحمل في طياتها القابليّة للتّطور والتّفاعل مع تطورات الواقع والمنجزات الجديدة للعقل البشري. 
-  مع التّقدم المهمّ في التّناول النّظري لهذا الموضوع لدى بعض المفكّرين أصحاب المشاريع، فإنّ الجانب التّطبيقي كان غائبا وحتّى إن وجدت بعض المحاولات التّطبيقية فإنّها بقيت جزئيّة واقتصرت على مواضيع ذات بعد سياسي كموضوع المرأة وقضايا الدّيمقراطية وحقوق الإنسان، لكنّ القضايا الملامسة للمجتمع ولحياة النّاس بقيت غائبة عن المقاربات الجديدة.
- أمام هذا الواقع هل نحن في حاجة إلى وقفة تأمّل في كلّ ما أنجز حول هذا الموضوع؟ أعتقد ذلك، أوّلا من أجل التّجميع والإحاطة بأغلب هذا المنجز ليكون مادّة بحثيّة في متناول الجميع وأيضا لتحديد النّجاحات التي يجب البناء عليها والإخفاقات التي يجب تجاوزها. إنّ هذه الوقفة من شأنها أن تمكّن الأجيال الحاضرة والباحثون الجدد من الانطلاق وهم على وعي بما أنجز وبرؤية واضحة لأهداف البحث ما ييسّر عمليّة التّفكير في الموضوع ويوجّهها إلى الأسئلة الحقيقيّة ويقيها من الاجترار والتّكرار، وهو ما سيمكّننا من ربح الكثير من الوقت خاصّة بعد ضياع أكثر من قرن في تفكير لم يصل بعد إلى نتائج يمكن أن تمثّل بديلا عن المقاربات القديمة. 
أعتقد أن ذلك من شأنه أن يبدأ من قراءات متأنّية لمشاريع أبرز المفكّرين الذين حاولوا أن يقدّموا مشاريع متكاملة مثل «محمد عابد الجابري» و«حسن حنفي» و«مالك بن نبي» و«محمد أركون» و«أبو القاسم حاج حمد» و«طه عبد الرحمان» و«عبد المجيد الشرفي» و«محمد الطالبي» وغيرهم كثير ممّن لهم إسهامات في هذا المجال. طبعا، هذه الوقفة ليست بالأمر الهيّن الذي يمكن أن ينهض به بعض الأفراد إنّما هو جهد جماعي لا يمكن أن تقوم به إلاّ مؤسّسة أو مؤسّسات متخصّصة مؤمنة بهذا المشروع وبحيويته لبناء مستقبل عربي أفضل.
  -----
-  مهندس
tchebbi@yahoo.com