قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
رمضان القادم
 (1)
يوم يعقب يوما وشهر يلي شهرا، هكذا ودعنا شهر رمضان المعظم واستقبلنا شهرا آخر من شهور الحياة الدّنيا ولكنّنا لا نزال نحمل طعم هذا الشهر الفضيل في حلوقنا ونكاد لا نغادره في عاداتنا وعباداتنا وفي أمنياتنا أيضا، ومهما فصلنا من القول في حقّ هذا الشّهر الكريم فلن نستطيع أن نوفيه حقّه من التّعظيم فهو عند المسلمين قاطبة من أعظم الشهور.
وليس تعظيمنا للشّهر من باب التّقديس فقط ولكن من باب كونه يدخل على حياتنا حالة من التّجديد لا نراها في غيره من الشهور، حالة عجيبة من التّغيير في كلّ مناحي الحياة وفي حجم العبادات وتواترها أيضا ولكنّنا للأسف لم ندرك بعد كأفراد وكأمّة أيضا مقدار ما يمكن أن يحدثه هذا الشّهر من قدرة على الدّفع بنا كأمّة وكشعوب نحو بلوغ أهدافنا فى الرّفعة والرّقي والتّقدم، غيرأنّنا وللأسف الشّديد نودّعه كما ودّعنا سابقيه من الشّهور ونحن من هزيمة إلى أخرى ومن أزمة إلى أزمة أشدّ ولم نعد خير أمّة أخرجت للنّاس.
(2)
ليس في هذا الكلام جديد، سوف يقول الكثيرون وفي قولهم صدق ولكنّه الصّدق الأكثر إيلاما، فنحن أمّة يزداد أمرها سوءا حتّى لكأنّها لم تعد تبالي لولا قلّة من النّاس تكابد العناء في سبيل استنهاضها من جديد ولا تكاد تفلح.
قبل الاستعمار كنّا متخلّفين ولولا تخلّفنا لما تجرأ علينا الذين كانوا دوننا وبعد الاستقلال توهّمنا أنّنا سوف نبني أوطانا راقية متقدّمة يحلو فيها العيش وتزداد مع الزّمن تقدما حتى صُدمنا بأنظمة أذاقتنا من العذاب ألوانا ولم نفلح في التّخلّص منها إلاّ بعد الثّورات المباركة وبعضها ما يزال جاثما على صدور النّاس لا يريهم إلاّ ما يرى ولا يهديهم سبيل الرّشاد.
أما بعد الثورة فقد انكشفت لنا مواطن ما كان العقل يتخيّلها وبواطن من الأمور ما كان للأرجح عقلا والأعظم فطنة أن يتنبّأ بها. 
(3)
بعد الثّورة اكتشفنا صعوبة التّغيير وأنّنا رغم كثرة المشترك بيننا كشعب إلاّ أنّ الخلاف طغى علينا، وهكذا بدأنا نتخلّي تدريجيّا عن كلّ مطالبنا التي ناضلت من أجلها نخبنا الفكريّة والسّياسيّة، ووضعنا بأيدينا كلّ العراقيل الممكنة ولم نأل جهدا كلّ من موقعه في إسقاط أهداف الثّورة واحدا إثر آخر، ومارسنا بدلا من ذلك كلّ ما في وسعنا من طاقة لتوليد الخلاف والاختلاف وبدل التّصدي للبناء والعمل في وحدة كاملة بين النّخب والشّعب تُهنا في متاهات التّشضّي واستبدلنا أهداف الثّورة من تنمية وتشغيل وحرية وكرامة بأخرى هي من أوهام النّخب المنبتّة، وأوغلنا في الاستبداد بالرأي والبحث عن مواضع الشّقاق حتى كاد المجلس التّأسيسي والأحزاب وما أصطلح على تسميته بالمجتمع المدني يصبح أضحوكة أو مجموعات منعزلة لا هي من الشّعب ولا الشّعب منها. لم نستطع رغم الزّخم الثّوري أن نؤسّس شيئا ذا قيمة يعتزّ به النّاس ويتمسكون به سوى دستور لم نعد نرى له فاعليّة بعد ذهاب مؤسّسيه رغم المديح والبهجة اللّذين رافقا المصادقة عليه.
(4)
ليست النّكبة في النّخبة وحدها ولا هي في ما انكشف لنا لاحقا من عجزنا حكاما ومحكوميين وأحزابا وجمعيات، بل النّكبة في غياب القيم والعجز عن توليد المعاني السّامية التي تصنع شعوبا واعية بحاضرها حريصة على مستقبلها. وليست القضيّة في الزّمن أيضا فقد كنت أعتقد شخصيّا و- علي سبيل المثال- أنّ حولين فقط من رمضان إلى آخر يليه بعد سنتين كافيين للقضاء نهائيّا على الفقر والحاجة والحرمان عبر العمل الجادّ كلّ من موضعه في محاربة الفقر وتأهيل المناطق الفقيرة، عملا يكون جادّا يسعي له الجميع مستغلّين قيم الدّين الحنيف ودعواه الدّائمة للبرّ وما يلحّ عليه من إنفاق للعفو من المال عند الأغنياء وما يفرضه علي أتباعه من الزّكاة والصّدقة وغيرها، وما في هذا الدّين العظيم من حرص على جعل الإنسان أخ للإنسان بغضّ النّظر عن كل أختلاف.
(5)
لنا أن نسأل بعد سنين أربع أو تزيد من عمر الثّورة إن كنّا قد فعلنا الشّيء الذي يجب فعله حقّا في تحقيق التّلازم بين ما نريده كشعب من الثّورة وبين ما بذلناه من أجل تحقيق أهدافها كلّ من موضعه. وهل تستقيم الدّيمقراطية والمشاركة والكرامة مع شعب نسبة كبيرة منه فقراء ومهمشون؟ وأي معني للدّين وطقوسه وللتّدين وحاجتنا إليه إذا لم يكن حافزا لنا للعمل جميعا من أجل تحقيق أهدافنا ومن أجل الوحدة.
تفتح الصّحف فلا تجد إلا ّحديثا عن «داعش» والإرهاب وما يدبّر لنا، وتفتح التّلفاز فلا ترى فيه إلاّ الحرص على التّفاهة والخواء، وتتكلّم مع النّاس فلا تسمع منهم إلاّ نفورا من السّياسة والسّياسيين واحتجاجا على الواقع الذي يزداد تردّيا، فهل نحن أمام فصل آخر من فصول المعاناة والانهيار القيمي والمادّي أم  يمكننا التّفاؤل لعلّ رمضان القادم يعود علينا بما لم يعد به رمضان الذي مضى .
 .------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com