الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
الإنسان والسماء - الجزء السابع - الجاذبية الثقالية : نموذج نيوتن للكون
 عودة إلى «جاليلاي»
لم تكن مساهمة «جاليلاي» في بحث الإنسان عن حلول لأسرار السّماء تقتصر على الجانب العملي، فرغم ما أحدث اختراعه للمقراب من فتح لآفاق رحبة في مجال سبر أغوار الفضاء السّحيق إلاّ أنّه يعتبر أحد أهم مؤسّسي المنهج العلمي الحديث إن لم يكن الأهم. لم يكن «جاليلاي» مقتنعا بفيزياء «أرسطو» عن الحركة فاشتغل عليها وكانت مقاربته تعتمد أساسا على التّجربة والملاحظة. كما يعود إليه الفضل في وضع أوّل نظريّة فيزيائيّة لسقوط الأجسام بما تسلطه الأرض عليها من قوة جذب. كان تفسير «أرسطو» السّائد لقوة الجذب التي تسلّطها الأرض على الأجسام يقدم في إطار تصوّر لكون هرمي يتكوّن من عالمين مختلفين، ففي عالم ما تحت القمر تمثّل ظاهرة الجذب ألثقالي خاصيّة للأجسام الثّقيلة التي تميل إلى التّحرك نحو «موقعها الطّبيعي» في مركز الأرض الذي يمثّل بدوره مركز الكون. أمّا الأجسام الخفيفة مثل النّار، فإنّها تتحرك طبيعيّا نحو الأعلى. بيّن «جاليلاي» بالتجربة أنّ الأجسام الثّقيلة والخفيفة تسقط على الأرض بنفس التّسارع في غياب المقاومة التي يمارسها الهواء على حركتها. كما مكّنته التّجارب العديدة التي قام بها من تحديد العلاقة الصّحيحة بين القوّة والحركة: فلا يمكن تغيير حالة حركة جسم إلاّ بتسليط قوّة عليه. ففي غياب أيّ قوة يحافظ الجسم إمّا على الثّبات أو على الحركة المنتظمة. بقيت هذه العلاقة ذات طابع كيفي مع «جاليلاي» إلى أن تمكّن «نيوتن» من صياغتها كميّا.
 قانون الجذب العام لنيوتن(1642 – 1727)م
يعتبر «إسحاق نيوتن» أهمّ رموز الثّورة العلميّة. لما له من مساهمات في العديد من المجالات وخاصّة عن الحركة والجاذبيّة الثقالية، تلك القوة الغريبة التي حاول الإنسان فهم كنهها والتّغلب عليها لكنّها فرضت أثرها عليه وجعلته سجين الأرض ليس له أيّة حيلة لكي يبتعد عنها حتى يرتفع في الفضاء وكل من حاول ذلك كان مصيره السقوط والهلاك. لقد ظلّ «حبّ» الأرض للبشر والتي تعبّر عنه بالجذب ألثقالي «حبّا قاتلا» لمن أراد أن يتحرّر منه بالابتعاد عنها نحو الأعلى بالمفهوم الفيزيائي طبعا وليس المجازي. 
واصل «نيوتن» البحث  في طبيعة وخصائص تلك القوة اللّغز التي تسلّطها الأرض على أيّ جسم في محيطها وتمكّن من اكتشاف قانون للجاذبية أظهر أنّ حركة الأجسام على الأرض وحركة الأجرام السّماويّة خاضعة لها ممّا أضاف إسفينا جديدا دُقّ في نعش النّظرية القديمة التي فصلت الأرض عن السّماء منذ «أرسطو» على الأقل وقالت باختلاف العالمين أيّ عالم ما فوق القمر وما تحته. لنيوتن فرضية جريئة تقول بأنّ القمر «يسقط» على الأرض مثل أيّ جسم آخر كالتّفاحة مثلا ولكن بسبب سرعته الأوّلية فإنّه يحافظ على مسار منحن حول الأرض ولا يسقط. عمّم «نيوتن» الفرضيّة على كلّ الأجرام السّماوية وتوصّل إلى القانون التالي : « كلّ جسم في الكون يؤثّر بكتلته  بقوّة جذب على كتلة جسم آخر، ومقدار هذه القوّة يتناسب طردياً مع حاصل ضرب الكتلتين وعكسياً مع مربّع المسافة بينهما». وصف القانون بأنّه قانون الجذب العام (نشر عام 1687 في كتاب«الأصول الرّياضية للفلسفة الرّياضية») لافتراض أنّه صالح في كامل أرجاء الكون أو في العالمين بالمعنى الأرسطي للعوالم. مكّن هذا القانون من فهم حركة القمر ووصفها بدقّة مثل ما مكّن من فهم وتفسير حركة سقوط الأجسام على الأرض وبيّن أنّ القوّة التي تفسّر دوران القمر حول الأرض هي نفسها التي تشدّ الإنسان شدّا على سطحها. تمثّل قوّة الجذب ألثقالي أحد أربع قوى أساسيّة يفسّر بها الفيزيائيّون بنية الكون وتفاعل مكوّناته. لهذه القوة مدى لانهائيّ أمّا شدّتها فترتبط بالكتلة التي تنتجها. يرمز الحرف g إلى التّسارع الذي تمنحه الأرض للأجسام على السّطح أو بالقرب منه. يقاس هذا التّسارع بوحدة  م\ث2  ولها قيمة تقريبية مقدارها 9.81  م\ث2. معنى هذه القيمة أنّه وعند إهمال تأثير الاحتكاك بالهواء فأنّ سرعة السّقوط الحرّ لجسم تزداد بمعدل 9.81 متر في الثّانية في كلّ ثانية.
لغة الرياضيات تفرض نفسها
فرض قانون الجذب العام نفسه كوصف رياضياتي حسابي للجاذبيّة خاصّة بعدما مكّن من التّوصل إلى اشتقاق رياضي بحت لقوانين جوهانس كيبلر (1571 – 1630) التجريبيّة الثلاثة التي تصف حركة الكواكب والتي اكتشفها بعد مدّة رصد طويلة  ومضنية مهتديا بفكرة الدوران حول الشّمس التي قال بها كل من «كوبرنيك» و«جاليلاي» وباعتماد البيانات الفلكيّة التي ورثها عن «تيكو براهاي». تقول تلك القوانين التي صيغت اعتمادا على المشاهدة وبدون برهنة رياضياتية  أن  :
(1) مدار أي  كوكب شكله اهليلجي وتحتل الشّمس إحدى بؤرتيه.
(2) سرعــة دورانــه متغيّـــرة حيث تنخفض عند الابتعـــاد عـــن الشمــس وتزيــد
     عند الاقتراب منه.
(3) مكعّب معدل المسافة بين الشّمس والكوكب يتناسب طرديّاً مع مربع زمن دوران الكوكب حول الشّمس وعامل التّناسب ثابت بالنّسبة لكلّ أفراد المجموعة الشّمسية.  
صيغ القانون الأول والثّاني سنة 1609 أمّا الثّالث فأنجز بعد عشر سنوات أي عام 1619. يوحي القانون الثّاني بذكاء مبرمج يتحكّم في سرعة دوران الكواكب حول الشّمس. إنّ عدم ارتفاع السّرعة عند الاقتراب من الشّمس يؤدّي إلى سقوطه عليها أمّا إذا حافظ الكوكب على نفس السّرعة عند الابتعاد عن الشّمس فإنّه سيفلت من قبضتها ويهيم في الفضاء. ظلّ قانون الجذب العام أساس فهم وتفسير الميكانيكا السّماوية منذ صياغته أواخر القرن السّابع عشر إلى بداية القرن العشرين حيث شكّكت فيه جزئيّا النسبيّة العامّة لاينشتين عام 1916. وما يجب أن نتذكره دائما أنّ الجذب ألثقالي في تصور نيوتن هو قوّة تنتقل آنيّا بين الأجسام (مستقلّة عن الزّمن مهما كانت المسافة بين الأجسام المتفاعلة)  في الفضاء وأنّ هذا الأخير لا يتفاعل معها. 
نموذج نيوتن للكون
تبنى «نيوتن» تصوّرا للكون باعتماد قانون الجذب العام. يعتبر الكون في نموذج «نيوتن» فضاء واسعا لانهائيّا يحتوي على كميّة محدودة من المادّة. تتجمّع المادّة على المستوى الكوني في شكل أجرام (نجوم، كواكب، أرض، شمس وقمر) متحركة في مدارات محدّدة باستقلال تامّ عن الفضاء «غير المبالي» وذلك وفقا لما يسمح به قانون الجذب العام. لكن، لماذا يجب أن تكون كمّية المادّة نهائيّة في كون «نيوتن»؟ يرتكز النّموذج على قانون الثّقالة العام. ومن نتائج القانون الحتميّة أنّه يؤدّي إلى تجاذب مكونات الكون بعضها لبعض. فلو كانت مادّة الكون غير محدودة لتوفّر الزّمن الكافي لانهياره على ذاته أي لتجمّع كل مادّته في جسم واحد واختفائه. لذلك فإنّ افتراض محدوديّة المادّة هو استجابة إلى ما يبدو عليه الكون من استقرار وثبات وعدم انهيار خاصّة وأنّه يعتبر أزليّا. وثانيا لماذا يجب أن يكون لانهائيّا؟ الإجابة تقدّم طبعا في إطار نظريّة الجذب العام: فلو كان للكون حدّا لكان له مركز تتحرّك باتّجاهه كلّ الكتل المادّية التي ستتجمع في شكل جرم واحد وهو ما لا تؤيّده حالة الكون.
أبعاد قانون نيوتن الدّينية و الفلسفيّة
من التّساؤلات الفلكيّة التي شغلت «نيوتن» تلك التي تتعلّق بظاهرة دوران جميع الكواكب باتّجاه واحد، وفي مستوى واحد تقريبا، حول الشمس. لم يكن «نيوتن» يعتقد بأنّ المصادفة قادرة إطلاقا على جعل الكواكب تتحرّك بنفس الطّريقة في مدارات متّحدة المركز وهو ما عبّر عنه في مؤلّفه الذي صدر عام 1704 والمعنون «أوبتيكس». بل اعتقد أنّ العناية الإلهيّة هي التي وراء ذلك الانتظام الرّائع في النّظام الكوكبي. ولربّما يجب أن نستخلص درسا من هذا الفلكي الفذّ مفاده أنّ المنهج العلمي الذي واجه به الطّبيعة لدراستها ورغم أنّه أوصله إلى نتائج تتعارض مع ما استقر في لاوعيه من عقائد كنسيّة، لم يستطع نزع ذلك الوازع الدّيني والإيمان بالقدرة والعظمة الإلهية. فالانتظام الرّائع في الطبيعة وحتى إن وقع تفسيره علميّا يبقى دائما مؤشّرا أساسيّا على حسن الصّنع وعلى عظمة الصّانع. فلا تناقض ولا تعارض بين ما تؤول إليه منهجيّة البحث العلمي من نتائج والاعتقاد في خالق مدبّر بل يكاد يكون الاعتقاد بالخالق ضرورة تقتضيها مسألة إضفاء معنى على الوجود. إنّ المسألة تتعلّق بالتواضع والإقرار فقط. وسنرى في مقال لاحق أنّ لا بديل عن الاعتقاد في مدبّر وراء نشأة الكون إلاّ الفوضى، صحيح «الخلاّقة»،  لكنّها عبثيّة وبدون معنى. وإلاّ لماذا كان يجب أن يوجد الوعي؟ لماذا كان يجب أن أوجد أنا وأنت وهو ومن استشارنا حتّى نتحمّل عبء التّساؤل عن المعنى؟ وللحديث بقيّة.
«كانط» يحاول تفسير أصل «العالم»
نشر ايمانويل كانط (1804--1724) عام 1755 كتابا عنوانه  التّاريخ العام للطّبيعة ونظريّة السّماء. دافع فيه عن نظرية التّناوب التي حاول أن يوضح فيها أصل العالم وشرح دوران وتناوب الكواكب. لكن ما هو العالم الذي حاول «كانط» وضعه في نموذج وتفسير نشأته؟ إنّه جزء من المجموعة الشّمسيّة طبعا أي ما كان معروفا من الأجرام السّماوية وقتها. انطلق «كانط» من فكرة أنّه إذا كانت الثّقالة بقانون الجذب العام قادرة على تقديم وصف رياضياتي لحالة المجموعة الشّمسية الآن فيجب أن يكون باستطاعتها أيضا تفسير تاريخها وأصلها. انطلق كانط من تصوّر كتلة ضخمة من الغاز وبتأثير من قوى الجذب ألثّقالي انهارت الكتلة على ذاتها وتقلّص حجمها إلى أن ظهرت الشّمس في المركز والكواكب وأقمارها في الأطراف. يعتبر هذا العمل ثورة حقيقيّة في تصوّر الإنسان للسّماء حيث تجد فكرة أزليّة الطّبيعة ولأوّل مرّة بديلا عقليّا يناقضها. فالقول بأنّ للسّماء أصل وتاريخ ينسف ما اعتقده الإنسان منذ وجوده من أنّ العالم أزلي وثابت لا يتغير. 
-----
-  دكتور  بالجامعة التونسية
ghorbel_nabil@yahoo.fr