مقالات في التنمية

بقلم
رضا التوكابري
ضمان توفير حاجات التونسي من منظور إسلامي (الجزء الثالث والأخير)
 بعد أن تعرضنا في الجزء الأول من المقال إلى الواقع العملي وطرق توفير الحاجات الأساسية في دولة النهج الإسلامي في صدر الإسلام وذكرنا أمثلة من العهد النبوي وأخرى من عهد الخلافة الراشدة وقدمنا في الجزء الثاني استعراضا يؤصّل مسؤوليّة الدّولة في توفير الحاجات الأساسيّة للمواطن ويقدّم مثالا عمليّا لاحتساب الدّخل الأدنى لتوفير الحاجات الأساسيّة للعائلة التونسية ، نختم المقال بتقديم توجهات رئيسيّة نرى أنها تساهم في وضع نظام لتلبية الحاجات الأساسيّة في دولنا تتماشى مع العصر الحديث الذي نعيش فيه:
التوجّه الأول: إصلاح سياسات توزيع الثروة
على دول المسلمين -في هذا العصر-أن تهتمّ بواقع التّوزيع، كما يلزمها تصحيح التّوزيع متى تبيّن أن الثّروة تتركّز على فئة قليلة. وذلك يتمشّى مع النّصوص القرآنية ومع ما قام به السّلف الصّالح. ويصبح اتّخاذ الإجراءات أكثر أهميّة، متى تبيّن-بالدّراسة العلمية-أنّ هناك فئة لا تتمتّع بضرورات الحياة، في حين توجد فئة أخرى منعمة مترفة، وعند ذلك لا بدّ من إستعمال مختلف السّياسات المقبولة شرعا، التي تأخذ من الفئة المنعمة المترفة، وتردّ الى الفقراء ما يكفي حاجتهم ويمنع التّرف والإسراف.
ثانيا: تلبية الحاجات الأساسيّة المتطورة بأقل التكاليف 
واجب مفروض على الدّولة
إن تلبية الحاجات الأساسيّة واجب مفروض على الدّولة، ويلزمها أن تعمل على تحسين أوضاع مواطنيها، وتيسير الأمور المعيشيّة لهم كما ورد في خطبة عمر رضي الله عنه  « وعلى أن أزيد أعطياتكم وأرزاقكم» .
وهي لا تسعى لذلك استجابة لضغوط شعبيّة أو امتصاص نقمة السّاخطين (كما الحال في الدّول الغربيّة  ولا يزال في كثير منها) بل تقوم بهذا الواجب امتثالا لأمر لله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. وإقتداء بما فعله الخلفاء الراشدون. فقد أعطت الدولة الإسلامية-إبّان عظمتها-إعانة ثابتة لكلّ مسلم، وأعطت الفقراء حقوقا ثابتة في أموال الأغنياء، وفرضت الزّكاة  لتردّ على الفقراء وذوي الحاجات، وعد السّكن، والعلاج، وتسديد الدّيون بغير سفه ولا إسراف، وتزويج البكر، وتأمين المواصلات، وأثاث المنزل، وأدوات العلم لمن هو من أهله...حاجات أساسيّة، فلو قارنّا هذه بما توصّلت إليه الدّول الصّناعية اليوم لوجودنا هذا المفهوم لا شكّ أكثر شمولا.
ولا ينبغي ترك هدف توفير الحاجات الأساسيّة لتعارضه مثلا مع أي هدف آخر من الأهداف الإقتصاديّة...كالتنمية الإقتصادية أو الإستقرار الإقتصادي، اللّهم إلا إذا كان فعل ذلك سيضرّ أيضا بهدف توفير الحاجات الأساسيّة، كأن يكون التّوسع في توفير الحاجات الأساسيّة مؤدّيا إلى مزيد من التّضخم لعدم وجود الموارد الماليّة الكافية، ممّا يضطرّ الدّولة إلى أن تلجأ للتّمويل عن طريق الإصدار النّقدي، وهذا لا شكّ سيؤدي إلى الإضرار بهدف تحقيق الحاجات الأساسيّة. ولا ينبغي التّضحية بهدف التنمية الإقتصاديّة كليّا، لأنّ ذلك سيضرّ-في الأمد البعيد-بهدف تحقيق الحاجات الأساسيّة. إذن،لا بد من التنسيق بين هدف الأهداف، بغرض تحقيق أقصى قدر من الحاجات الأساسية بأقل التكاليف الممكنة، وبأقل تضحية ممكنة بالأهداف الأخرى.
ثالثا: توفير الحاجات الأساسية بالتدرج حسب امكانيات الدولة
إن دول المسلمين - وهي تسعى لتحقيق الحاجات الأساسيّة- لا ينبغي لها أن تتحمّل جهدا فوق طاقتها، بل يمكن أن تتدرّج في ذلك لتحقيق الحاجات الأساسيّة حسب توافر الموارد الماليّة، فتأخذ بأضيق المذاهب في المرحلة الأولى، بما يخرج الفقراء من حدّ الفقر والمسكنة أو حدّ الكفاف. وعند توافر الموارد الماليّة، يمكن أن تتوسّع الدّولة وتوفّر حدّ الكفاية. إذ أن دراسة الواقع الحالي لدولة المسلمين يسمح بتحديد الحاجات الأساسيّة التي ينبغي أن تتوافر في الدّول الفقيرة، وتلك التي ينبغي توفيرها في الأغنى.
رابعا: شفافية المعاملات في الأسواق وتوفير مناخ  تكاثر فرص العمل حقّ وواجب
على الدولة توفير فرص العمل للقادرين وإلزام القادرين بالعمل. وعليها أن تسعى لمنع الآثار الإحلالية (تعويضية) لأنظمة الضّمان الإجتماعي. ولا شكّ في أن الإسلام حثّ على العمل، والأكل من عمل اليد، ونهى عن أن يأخذ الصدقة غير مستحقيها. فالوازع الديني منوط بسلطة الدّولة وهي التي يقع عليها واجب صياغة النّظام على نحو يقلّل الآثار الإحلاليّة (تعويضية)، والآثار الضارّة بترابط الأسر(كما فعل الخليفة عمر حينما رأى أن الإعانات التي يعطيها الأطفال عند الفطام تؤثر في الإسراع بالفطام) والضّارة بالحوافز على كسب مزيد من الدّخل وعلى حفظ كرامة الإنسان.
وعلى الدولة واجب الإشراف على الأسواق، والتأكّد من أنّ السّلع الضّرورية متوافرة فيها. وعليها مكافحة الإحتكار، ومنع التّظالم بين العاملين وأصحاب العمل، وذلك بوضع القوانين والنّظم اللاّزمة. ولا بدّ أيضا من حماية الأفراد الذين يفقدون أعمالهم نتيجة تغير التِقانة (التكنولوجيا) وذلك بإنشاء مراكز التّدريب ومع إعانات البطالة في الأجل القصير. ولا بدّ من أن توفّر الدّولة الخدمات العامّة الأساسيّة (مثل الصّحة والتّعليم والإسكان) التي يكون لها آثار توزيعية كبيرة.
خامسا: محاربة الفقر دون تمييز مع منع الظلم 
على الدولة أن تعمل على منع الظّلم والتّمييز في المجتمع، وأن توفّر الفرص المتساوية للمواطنين لمنع إستمرار الفقر. وفيما يتعلق بمعاشات التّقاعد: فيجب أن تشمل جميع مواطني الدّولة، وألاّ تميّز تمييزا كبيرا في العمالة بين الموظفين والعمّال، إذ نجد في بعض البلاد  أن العامل يعمل سنوات طويلة ولا يخرج في نهاية خدمته إلاّ بمعاش ضئيل جدا. ولا بدّ من أن تنصر الدّولة الضّعيف كما ذكر عمر رضي الله عنه «رب الصّريمة والغنيمة»* فهؤلاء أحوج بالإعانة، وأيسر على الدّولة من أن تتحمّل نتائج التمييز: الفقر وإضطراب أمور الدّولة السّياسية والإجتماعية. وينبغي تأمين الحاجات الأساسيّة بنفس القدر لغير المسلمين ما أقاموا بدار الإسلام ولم يناصروا عدوّ المسلمين.
سادسا: اللامركزية في ضمان الحاجات الأساسية
يمكن أن تجعل الدّولة تأمين الحاجات الأساسيّة من مسؤولية الحكم المحلّي، كما هو الحال في الزّكاة التي تحصل وتصرف محليّا. وإذا لم تف الإيرادات المحليّة، فإنّ الدّعم يأتي من الحكومة المركزيّة. ذلك أنّ الحكومة المحليّة أقدر على معرفة الحاجات الأساسيّة لمواطنيها، وأقدر على التّنسيق بين الأسرة والأقارب، وهذا لا يقلل من شأن السّياسات القوميّة الأخرى،التي لها تأثير في مجال الاستقرار الاقتصادي، وتوجيه المشروعات الإنتاجية للمناطق الأكثر فقرا، و توسيع حجم الناتج القومي بالنمو الإقتصادي.
سابعا: التمييز الإجابي لتحقيق التوازن الاقتصادي بين الجهات
كذلك يمكن أن تستعمل الدولة-في بعض الأحيان-سياسة توفير الحاجات الأساسيّة، لتحقيق نتائج إقتصاديّة، أو أهداف قوميّة أخرى، بحيث تعطى مساعدات أكبر لبعض المناطق لتشجيع الهجرة إليها. فاكتظاظ المدن بالسّكان اليوم، وخلو الهجر (الرّيف) من السكان.. وما ينتج عن ذلك من مشكلات اجتماعيّة واقتصاديّة، كزيادة معدلات الجّريمة، وتفكّك روابط الأسر، وزيادة الحاجة إلى الخدمات العامّة. ربّما يستدعي ذلك عكس السّياسة التي انتهجت من قبل في تفضيل أهل الحاضرة على البادية في العطاء.
ثامنا: سبل توفير الموارد المالية لتغطية الحاجات الاساسية
لا شك في أن إنشاء نظام يقوم بتوفير الحاجات الأساسيّة بصورة متكاملة، يحتاج إلى توفير موارد مالية ضخمــــة. والمورد المالــــي من الخـــراج، بجانب الزّكــــــاة هو الذي سمح في صدر الإسلام بدفع عطاء لكلّ مسلم، وإعانة لكلّ ذي حاجة، مسلما أو غير مسلم. ويمكن الإستفادة من أنظمة الضّمان الإجتماعي السّائدة الآن وطرقها في التّمويل، وبخاصّة للذين يحصلون على دخول عالية في فترة من حياتهم، فيمكن الإستقطاع منهم لتأمين ضمانات لمعايشهم عند بلوغهم سنّ الشّيخوخة، إلاّ أنّ النّظام الإسلامي يوفّر الحاجات الأساسيّة للمحتاجين، سواء إستطاعوا المساهمة في مشروعات الضّمان أم لم يستطيعوا، لأنّ ذلك واجب على الدولة والمجتمع.
تاسعا: توفير الحاجات الأساسيّة ليست مسؤولية الدولة فقط
ولا بد من أن نشير إلى توفير الحاجات الأساسيّة في الإسلام، لا يقع عبؤه على الدّولة فقط، وهو واجب على الأسرة والأقارب والمجتمع... بجانب الدّولة. وذلك في توجيهات القرآن والسّنة النبوية الشّريفة وهو ما يجعل إلتزامات الدّولة المالية التي ضعف فيها مفهوم الأسرة كما في الغرب. والأوامر الأخلاقية في المجتمع المسلم تدفع القادرين على الإهتمام بمشروعات البرّ والإحسان في المجتمع، مثل: إنشاء الملاجئ، والمستشفيات، ومشروعات البر المختلفة. وللمصارف الإسلاميّة التي تعمل في إطار لا ربوي دور في هذا المجال، وذلك بتوفير التّمويل-على أساس المشاركة في الرّبح-لأصحاب المهن لمساعدتهم، وللرّاغبين في تنفيذ مشروعات أثبتت جدواها دون إشتراط القدرة الماليّة. وهذا لا يجعل التّمويل قاصرا على المقتدرين-كما هو الحال في المجتمعات الرأسمالية-وإنما يعمّم في فئات المجتمع.
الخاتمة
وأخيرا... فإنّ الدّراسات المقبلة في هذا المجال يجب أن تنحو منحا عمليّا، وذلك بإجراء أبحاث عن كل دولة من دول المسلمين على حدة، والنّظر في ما نفذته من برامج لتوفير الحاجات الأساسيّة، ومدى اقترابها من التّصور الإسلامي. ويمكن أن تكون الدّراسة التجريبيّة في إطارين: إطار يشمل الدّول ذات الموارد الماليّة القليلة والكثافة السّكنية الكبيرة، والدّول ذات الموارد المالية الكبيرة والكثافة القليلة، وإطار يفترض أن كل دولة سوف تعمل بمفردها ثم النظر في حالة قيام تعاون أوثق بين الدّول ذات النهج الإسلامي لتأمين هذه الحاجات بما يخدم قضية توفير الحاجات الأساسيّة لكل مسلم. ممّا يحمي كرامته ويجعله أكثر قدرة على الدّفاع عن أرضه ومعتقداته وعلى نشر دعوة الله في الأرض.
-----
- خبير 
ri2kbri@gmail.com