قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
آلة قتل عمياء
 لا يكاد يمر يوم من الأيام دون سماع أنباء محزنة من هنا وهناك والأدهي أنّ هذه الأنباء تتعلّق فى معظمها بأناس قتلوا غيلة وظلما من دون أن يكون القاتل عارفا بالمقتول، بل ومن دون أن يكون المقتول قد ارتكب أيّ شيء يدعو إلى قتله. ولسنا هنا بصدد الحديث عن حوادث متفرّقة أو رقعة صغيرة من الأرض وإنّما نحن إزاء رقعة جغرافيّة هائلة وقتلي بالعشرات وبالمئات يوميّا ممّا يجعل مجموع الذين قتلوا في العشريتين الأخيرتين وما قبلهما يصل في منطقتنا العربيّة إلي مئات الآلاف في نزاعات تزداد حدّة وتوسّعا مع مرور الزّمن ممّا يرشّح أعداد الضّحايا الى التّضعيف في وقت وجيز من دون أن يبدو أيّ ضوء في آخر النّفق. فهل يا ترى يمكننا الحديث عن أمل في المدى القريب أو البعيد أم أنّ آلة القتل الأعمي سوف تواصل حصد مزيد من الأرواح؟

(2)ليس هذا القتل المفزع من قريب كما يراد تصوير الأمر لغايات سياسيّة ودينيّة مشبوهة، بل إنّ استفحال الموت قد بدأ فى منطقتنا منذ أوائل الثّمانينات حين أراد «صدام حسين» تحجيم الدّور الإيراني المحتمل ولعب دور الشّرطي فى الخليج، فتولّى توريط البلدين أيّ العراق وإيران معا فى حرب ضروس كان من آثارها المدمّرة قتلى بالملايين من كلا الشّعبين ومآسي أخرى لا حصر لها.أعقب انتهاء هذه الحرب اجتياح القوات العراقيّة للكويت وما تلا ذلك من قتل للكويتيين والعراقيين ثمّ إلى عدوان أمريكي أطلسي على العراق ممّا فتح البلاد على عشريتين من المعاناة والدّماء ما تزال آثارها تستفحل يوما بعد آخر وعاما بعد عام، ليظلّ الانسان العراقي يدفع من دمه وأمنه ضريبة الحمق والتّطرف وصراعات الكبار فلا يصيبه من كل ذلك إلاّ مزيد من القتل.(3)حين اندلعت الثّورات في المنطقة العربيّة ظنّ الكثيرون أنّنا قد استعدنا روحنا الحقيقيّة كشعوب تبحث عن الأمل وعن الغد الأفضل غير أنّنا لا نكاد نلمس شيئا من ذلك بعد أربع سنوات من الثّورة الأولى في تونس، ليس لأنّ توق هذه الشّعوب إلى ما تاقت إليه كان مبالغة منها أو لكونها قد قعدت عن بلوغ أهدافها وإنّما ذلك نتيجة لما عرفته هذه الثورات من تآمر لم يرعو عن استعمال أبشع الطرق بما فيها القتل ولا أدلّ على ذلك من هذا الإرهاب الذي ابتيلت به بلادنا أو تلك المجازر التي ارتكبت في حقّ المصريّين العزّل  أو ما يحدث في ليبيا واليمن ومشاهد الموت المروعة التي لا تنضب حتى في رمضان شهر التقوى الذي تصفّد فيه الشياطين ..(4)إنّ توق الشّعوب للحرّية والحياة الكريمة لم ينقطع منذ جهادها العظيم ضدّ الاستعمار وحتى يومنا هذا. وقد فعلت شعوبنا ما في وسعها لإجبار الأنظمة التى حكمت بعد الاستقلال على تحسين ظروف الحياة على الأقل، في أوطان يزداد فيها الظلم والحيف مع تزايد السّكان. وبعيدا عن كل ما يشاع من مقولات عن التآمر فإنّ الثّورات التي اندلعت كلّها دون استثناء كانت ضرورة تاريخيّة وردّا شعبيّا حاسما على عقود من الظّلم والتّهميش والتّنكيل الذي وصل الى القتل في كثير من الأحيان.لا يختلف بلد عن آخر في رمزيّة الثورة وكونها ترجمان أشواق شعوبنا نحو الحرّية والعدل والمساوات وتعبيرا صادقا عن رغبتها في استعادة أوطانها. ولأنّ هذا الأمر قطعي في دلالاته فقد جاءت الكارثة الكبرى من  تمييز النّظام السّوري نفسه عن بقية النّظم المستبدّة بدعوى كونه نظام مقاومة لا تجوز الثّورة عليه، وموالاة نخب العار لهذا النّظام ولما يدّعيه زورا.(5)أربع سنوات من القتل المحموم الذي لا يتوانى عن أيّ منكر يأتيه، قرى أبيدت وأخرى هجرت وأناس بالآلاف قتلوا في محاولات النّظام استعادة القرى والبلدات التي أُخرج منها. لا تكاد تمرّ ساعة حتى تأتي الأنباء بأخبار عن قافلة جديدة من الموتى الذين تحصدهم آلة عمياء لا ترى للانسان السّوري أيّة قيمة ولا تبقي له أيّ أمل في الحياة. وطن ينهار بالكامل ويتحوّل فيه القتل إلى فعل دائم والأنكى أنّه يفقد مع استمرار الحرب كلّ الروابط الانسانية والحضاريّة ويتّجه نحو ضرب من التّطرف تغذيه قوى الاستعمار لا يرى في البشر إلاّ مشاريع ميّتين.(6)ليست «داعش» في مسلسل القتل المتواصل إلاّ فصلا، قد يكون هو الأشدّ بشاعة والأكثر استعراضا وقد تكون استماتته في استعمال مقولات الدّين أو التّشبه بالمتدينين في اللّباس والخطاب مقصودة في ذاتها لكي يلتبس الأمر على النّاس، غير أنّ ما ينكشف لنا يوما بعد آخر هو أنّ حظّ هذا التّنظيم من السّياسة يكاد يكون صفرا وهو ليس أكثر من عصابات قتل هدفها إطالة أمد شعوبنا مع المعاناة ومع التقتيل والموت الذي يحصد أرواح الأبرياء من أبنائنا بغضّ النظر عن العرق واللّون والدّين.ما زال أمام شعوبنا الكثير من المعاناة طالما أنّها لم تدرك أنّ الحلّ لا يكون إلا في الاهتمام بالانسان وجعله قوة دفع نحو الحق والعدل، دفع بالمحبّة والسّلام والعيش المشترك. .------- مستشار في الخدمة الإجتماعيّةlotfidahwathi2@gmail.com