قبل الوداع

بقلم
فيصل العش
في الأصل ... تنوع و اختلاف

”التنوع والتعدد والاختلاف“ آية من آيات الله وسنّة من سننه وهي قانون خلق عليه الكون وما فيه. والقانون لا تبديل فيه ولا تحويل. يقول الله سبحانه وتعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ﴾[الروم:22] ويقول في آية أخرى:﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ۩ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾[فاطر: 27/26]. فالتنوع مظهر من مظاهر الكون والطبيعة شمل كل المخلوقات جمادا ونباتا وحيوانا وبشرا وهي حقيقة واضحة أمام أعيننا ومتجسّدة فينا. وقد بدأ البشر يختلفون ويتنوعون منذ بداية انتشار سلالة آدم في أرجاء الأرض لتتحول إلى  شعوب وقبائل متنوعة على مستوى اللون والعرق واللسان والمعتقدات والعادات والطباع ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُــمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:13]ولا يزال الناس متنوعين ومختلفين تطبيقاً لقوله سبحانه وتعالى ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾[هود: 119/118]. إن انقسام الإنسانية إلى مجتمعات مختلفة وانقسام المجتمعات ذاتها إلى مجموعات عرقية ودينية ولغوية وثقافية متنوعة هو الوضع الطبيعي للمجتمعات الإنسانية وظاهرة أصيلة في تكوينها. فمن الطبيعي أن يتباين الناس في رؤاهم الثقافية والفكرية والسلوكية نتيجة  لاختلاف ظروف عيشهم وبيئتهم وتعدد مداركهم وتباين عقلياتهم ومعارفهم التي يكتسبونها من خلال تجاربهم وتفاعلهم مع الزمان والمكان الذي يعيشون فيه.

والاختلاف والتنوع والتعدد في الفكر والثقافة هي الدّافع الأساسي للتنافس والتدافع والاستباق بين بني البشر ﴿ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 251]. ففي انعدام التعددية والتنوع تغيب دواعي التدافع وحوافز التنافس بين الأفراد والأمم والأفكار والفلسفات والحضارات وبالتالي لا تتحقق عمارة الأرض ولا يحصل تقدّم ورقي في وعي الإنسان وتحقيق خلافته لله في الأرض.

هي إذا سنّة الله في خلقه، خلقنا متنوعين ومختلفين وجعلنا شعوبا ودولا لنتعارف ونتبادل المعارف والتجارب والمكتسبات لا لنتقاتل ونسفك الدماء. إن الذين يعتقدون أن المجتمعات البشرية يجب أن تكون على نمط واحد وأن الحالة الطبيعية للمجتمعات السويّة هي أن تكون على ثقافة واحدة وفكر واحد ودين واحد بل وفهم واحد للدين. والذين يجعلون من مدلولات التنوع والاختلاف سببا للعصبية ومسلكا للصراع والتناحر وحجّة لإقامة حدود وموانع تفصلهم عن غيرهم من البشر هم مخطئون لأنهم يريدون أن يغيروا سنة من سنن الله. 

 ولعل جولة صغيرة عبر تاريخ البشرية تؤكد ما سبق ذكره. فالدول أو الحضارات التي قامت على أنقاض حضارات أخرى سرعان ما لاقت نفس المصير وتفتت عقدها واندثرت. وتاريخ الحضارة الإسلامية يبرز لنا كيف شيّد المسلمون الأوائل حضارتهم على أساس وحدة قائمة على التنوع والقبول به واستيعاب التعددية الدينية والثقافية للمنتسبين إلى الدولة الإسلامية. كما يبرز لنا أن فترات الازدهار الاقتصادي والعلمي والاستقرار الاجتماعي لهذه الحضارة ارتبطت بسيادة «التنوع» في الأفكار والآراء وقبول الآخر. في حين حصلت الانتكاسة والتأخر عندما سيطرت ثقافة رفض الآخر والتضييق عليه.. سواء كان هذا الآخر دينياً أم سياسيا أم مذهبياً. كما لنا في تاريخ أوروبا خير دليل، فقد خلّف الصراع بين مكوناتها تخلفا وتشتتا وصل إلى حدّ التناحر وزهق ملايين الأرواح حتّى اقتنع الأوروبيون بأن الازدهار والتقدم لا يكونان إلا عبر التعاون والقبول بالتنوع ممّا أدّى إلى نشأة الإتحاد الأوروبي. 

كذلك الولايات المتحدة التي ما كانت لتتطور وتصبح قوة عظمى لو لم تقتنع مكوناتها بضرورة وقف الحرب الأهلية الدموية الطويلة التي استنزفت قدراتها المالية والبشرية ووضع دستور يعترف بالتنوع العرقي والديني ويكفل حقوق مختلف مكونات المجتمع، فاتجه الأمريكان إثر ذلك نحو بناء دولتهم التي أضحت من أقوى الأمم وأكثرها غنىً .

إن الشعوب والثقافات التي تؤمن بالتعدد والتنوع وتضمن التعايش بين مكوناتها الفكرية والعرقيّة واللغوية وتتفاعل إيجابيّا مع الثقافات الأخرى وتقتبس منها، تكون أكثر حيويّة وإنتاجا وتطوّرا ويمكنها أن تكتسب مكانة متميزة في العالم ولنا في ماليزيا التي تقطنها عرقيات وأثنيات متباينة حجّة ودليل.

 أمّا المجتمعات التي تختار الانغلاق، فلا تقبل بالتنوع والاختلاف كمحرك للحياة فيها، فهي تفوّت على نفسها فرصة التطور والنماء وتحكم على نفسها بالفناء. 

 إن ما دفعني للكتابة في هذا الموضوع هو تنامي خطاب الإقصاء والشعارات التي تحرض على الصدام ورفض الآخر. خطاب يتبناه ثلّة من اليمين وثلّة من اليسار ويدّعي أصحابه الأفضلية ولا يؤمنون بمشاركة الآخر في المشروع التنموي للبلاد. خطاب يدعو إلى نفي الآخر عبر تخوينه أو ارتباطه بجهات أجنبية واتهامه بعرقلة المشروع الوطني.

إن هؤلاء وأولئك  لن ينجحوا في مسعاهم ولن يفيدوا البلاد في شيء بل سيدفعون بها نحو ”الصراع“ والدوران في حلقات مفرغة مفتوحة على الكراهية والعنف. فلا يوجد طرف يستطيع أن يستغني عن بقية الأطراف، بدعوى أنه قادر على الارتقاء بالبلاد من دون مساعدة البقية والاستفادة من تجاربها وخبراتها. 

لا خيار أمامنا لتحقيق التنمية والازدهار والتقدم سوى تبني ثقافة التعدد والتنوع وتنميتها وتقويتها وبناء وعى اجتماعي وطني جديد يستوعب هذه المعاني ويعمل بها .. والطريق إلى ذلك يمرّ عبر فتح قنوات الحوار بين مختلف مكونات المجتمع وتبني خطاب يجمع ولا يفرّق وتحويل المفاهيم المتعلّقة بنبذ الإقصاء وتعزيز روح المواطنة والمساواة أمام القانون إلى سلوك عام يؤمن به الجميع ويعمل من أجل ترسيخه.

وحتّى نلتقي، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .