الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
الإنسان و السماء - ج5 : انهيار التصور التقليدي للكون
 صورة الكون عند حدود العام 1543
سيطرت نظريّة «أرسطو» على البشرية طيلة ألفي سنة. ساد الاعتقاد قبل 1543 ميلادي بأنّ الأرض مركز الكون وأنّ هناك سبعة أجرام تدور حولها في مدارات دائرية وبسرعات ثابتة ومحمولة بكور تحفظ توازنها وهي عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، زحل، الشمس والقمر وكلّها ترى بالعين المجردة. تتوزّع النّجوم على كرة أكبر منها جميعا وتحتويها وليس هناك بعدها شيء إلاّ الخلاء. مثّلت تلك الأجرام السّبعة بالنّسبة للإنسان مصادر للضّوء مثلها مثل النّجوم التي ترصع السّماء وقد سمّيت «أجساما جوالة» Planètes من طرف اليونانيين لأنّها تغيّر مواقعها بالنّسبة لبعضها البعض وبالنسبة للخلفيّة النّجومية التي تبدو فيها المسافات الظاهريّة ثابتة بين النجوم. أمّا عند العرب فقد كان يطلق اسم كوكب على النّجوم كما تدلّ على ذلك معاجم اللّغة. وقد كانوا يطلقون على أكثرها سطوعا مثل الزّهرة أو المشتري «كوكبا درّيا». وفي القرآن الكريم الموحى به في بدايات القرن السّابع الميلادي فهناك تمييز دقيق بين الشّمس والقمر إذ وُصفت الشّمس بسراج ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾ (النبأ 13) أي جسما مشعّا بذاته باعتبار أنّ السّراج هو المصباح الزّاهر الذي يسرج باللّيل كما جاء في لسان العرب ووصف القمر نورا ﴿وَالقمر نورا ﴾  (يونس 5) أي جسما عاكسا للضّوء وهو إقرار باختلاف جوهريّ في طبيعة كلّ منهما وهو اختلاف لم يكن العلم الوضعي قد وصل بعد إلى حقيقته في منتصف القرن السّادس عشر فضلا عن ما كان في اعتقاد النّاس عن الشمس والقمر زمن الوحي.  
وبداية من سنة 1543 وبإصدار كتاب كوبرنيك «حول دوران الأجرام السّماوية» الذي احتوى على فرضيّة مركزيّة الشّمس للكون - التي لم تكن لتتبلور نظريّا أي على صيغة معادلات حسابيّة لو لم تتوفّر لها الأدوات الرّياضياتيّة التي أبدعها علماء الحضارة العربيّة الإسلاميّة - أضيفت الأرض لمجموعة الكواكب واستبعدت الشّمس والقمر بعدما اقتنع العلماء بالنّموذج الكوبرنيكي للكون. ومنذ ذلك الوقت أخذت عائلة الكواكب تتبدّل نتيجة للاكتشافات المتجدّدة والمفهوم المتغيّر الذي تعنيه كلمة «كوكب» إلى سنة 2006  وهي السّنة التي تمّ الاتفاق فيها على تعريف جديد ومحدّد للكوكب إثر عملية  تصويت أجراها أعضاء الاتّحاد الدّولي الفلكي، استبعد على إثره كوكب «بلوتو» من العائلة. فالكوكــــب حسب التّعريـــف الجديــــد جرم سمـــاوي يدور حول نجــــم له كتلـــة كافيــــة ليكون شكله مستديرا ويكون قد تخلّص من أجسام أخرى كانت في جواره.
مازالت المسيرة التّاريخية لتعريف الكوكـــــب متواصلة وهــــــو مـــا يتطلب الحــــذر والحيطة في التّعامـــل مع المصطلحات العلمية. وتجدر الإشارة إلى أنّه وقع اكتشاف كوكبي «أورانوس» و«نبتون» في سنتي 1781 و1846 على التّوالي بعدما فتحت نافذة جديدة على السّماء بفضل المقارب التي دخلت مسرح الفعل العلمي بداية من القرن السّابع عشر.
تصوّر النّظام الكوني عند «كوبرنيكوس» 
وقبل تناول ما ستحدثه الأرصاد من ثورة معرفية ومن دعم لنموذج «كوبرنيك» تجدر الإشارة إلى أنّ هذا النّموذج لم يكن يمثّل عند العديد من الفلكيين سوى حيلة حسابيّة تمكّن من حساب مواقع الأجرام السّماوية بدقّة أكبر ممّا كانت تعطيه الحسابات في إطار نموذج «بطليموس» ولكنّه يفتقر لدليل صلب على مصداقيته الطبيعية. ومن بين هؤلاء نذكر «تيخو براهاي» (1546 – 1601) الذي لم يكن أيضا مقتنعا بالدّقة التي تقدّمها الجداول الفلكيّة المستعملة آنذاك واعتبر أنّ تطور علم الفلك لا يمكن أن يحدث إلاّ عبر المزيد من الأرصاد الدّقيقة. مكّن حرص «براهاي» على الأرصاد من مشاهدة ظهور نجم جديد وذلك سنة 1572 وهو في الحقيقة نجم كان موجودا من قبل لكنّه انفجر بعدما بلغ آخر مراحل تطوّره وحرّر كميّة هائلة من الطّاقة جعلته يبدو وكأنه جديد. تمكّن «براهاي» من البرهنة وذلك لأول مرّة في كتاب صدر سنة 1573 عنوانه «النجم الجديد» من أنّ هذا النّجم لا يوجد في عالم ما تحت القمر بل في عالم النّجوم الثّابتة وهو ما يعتبر ضربة لنظريّة «أرسطو» باعتبار أنّ عالم ما فوق القمر ليس فيه لا فناء ولا ولادة بل كلّ ما فيه أزليّ. شاءت الأقدار أن تتنوّع الظّواهر الفلكيّة في تلك الفترة لترجّ من جديد فيزياء «أرسطو». ومّرة أخرى تمكن «براهاي» وآخرون من مشاهدة سلسلة من المذنّبات وذلك بداية من سنة 1577 وقد بيّنوا أنّها أجرام أبعد من القمر بعدما كان الاعتقاد السّائد بأنّها ظواهر تحدث في الغلاف الجوي.
كيف يمكن فهم هذه الظّواهر باعتماد نموذج الكرات المتداخلة والموحّدة المركز في حين أنّ أفلاك المذنّبات تتقاطع معها؟ وما هو البديل عن الكرات لتفسير حركة الأجرام في السّماء وبقائها في أفلاكها دون أن تسقط؟  يجب انتظار «نيوتن» ونظريته في الجاذبية الثقالية للحصول على الإجابة.
مقراب  جاليلاي البصري (1609) م.
صنع «جاليلاي جاليليو» الذي كان فيزيائيا وليس فلكيّا  (1564 – 1642) منظارا بوضع عدستين في طرفي أنبوب من الرّصاص ووجّهه إلى السّماء سنة 1609 م. أسّست هذه الأداة البصريّة لعهد جديد ساهمت فيه بشكل ناجع في استكشاف ومعرفة ما كان يبدو للعين المجرّدة حقيقة طيلة آلاف السّنين. ومبدأ العدسة بسيط، إنّها جسم شفّاف ذو شكل محدّد يستخدم لتجميع الأشعّة الضّوئية الصّادرة من مصدر خافت لم يكن بوسع العين أن تشاهده فيصبح بواسطتها مشاهدا. إنّها امتداد للعين كوسيلة اتّصال مع العالم الخارجي. فالعين رغم أنّ لها بدورها عدسة تمكّنها من رؤية الأشياء بعد تجميع الضّوء الصادر عنها في الشّبكية الموجودة في خلفيتها إلاّ أنّ قدرتها محدودة جدّا قياسا بقدرات العدسات الصّناعية التي استحدثت.
بدأت بعض حقائق «عالم ما فوق القمر» إذا تتجلّى بفضل الأداة الثوريّة بعد أن سبقتها مشاهدات وحسابات «براهي» وبدأت الصّورة القديمة للكون تنهار. أصدر «جاليلاي» سنة 1610 كتابا صغيرا عنوانه « Messager céleste» عدّد فيه اكتشافاته . فالقمر ليس كرة ذات سطح أملس كما كان يبدو للعين المجرّدة بل مغطّى بالتّضاريس التي تشبه التّضاريس الأرضيّة من جبال ومنخفضات وفوهات. أمّا كوكب المشتري فهو «نظام كوكبي» صغير اكتشف «جاليلاي»  أربع من أقماره عام 1610 وهي  جانيماد، أوربا، أيّو وكاليستو كما بدا الزّهرة من خلال عدسة المنظار كوكبا ذي أطوار مثله مثل القمر الذي يغيّر أطواره كل ليلة من بدر إلى محاق مرورا بالأهلّة ذات الأحجام المتغيّرة.
 وبالنسبة لدرب التّبانة، ذلك الشّريط الأبيض الذي يظهر كالضّباب الممتد عبر القبّة السّماوية وكان يعتقد أنّه ناتج عن تبخّر للغلاف الجوي، فقد اتّضح جزء من حقيقته إذ بدا عالما مكوّنا من آلاف النّجوم والغيوم مختلفة الألوان والسّطوع. لم تعد الشّمس كما يقول «كوبرنيك» جرما مركزيّا الكلّ يدور حوله، فالمشتري يمثّل بدوره مركزا لأجرام أخرى. ولم يعد عالم ما فوق القمر عالم الكمال. وقد دعم «جاليلاي» اكتشافاته بنشر مقال جديد سنة 1613 ذكر فيه أنّ سطح الشّمس يظهر بقعا لم يكن ممكنا رصدها من قبل.  
الصدام المروع بين الكنيسة و العلم
 توالت أرصاد «جاليلاي» التي صبّت كلّها في خانة توحيد عالم ما تحت القمر وما فوقه بعدما كانا عالمين مستقلين بالكامل عن بعضهما. لم تكن نتائج المشاهدات الفلكية مرحّبا بها من طرف حرّاس العقيدة المسيحيّة خاصّة وإنّها صعبة الإنكار نظرا لإمكانية التّأكد منها لمن يريد ذلك. فكيف يمكن قبول عدم مركزيّة الأرض بالنّسبة للكون وقد بنيت عليها عقيدة أفضليّة الإنسان ومركزيته في الكون؟ كتب «جاليلاي» في ديسمبر 1613 رسالة للكنيسة يبيّن فيها أنّ مركزيّة الشّمس ليس مناقضا لتأويل صحيح للكتاب المقدّس. لم يقنع «جاليلاي» واستدعي لتحذيره لكي يتراجع عن ما قاله بل أكثر من ذلك طلبوا منه أن لا يدرس أفكاره وأن لا ينشرها لا كتابيّا ولا شفويّا. أصبح كلّ من يعلن ما من شأنه حتّى التّشكيك  في الصّورة القديمة التي بنت الكنيسة بعض عقائدها على أساسها يكون عرضة لمحاكـــم التّفتيش ومهـــدّدا بعقوبات تصل إلى الإعدام حرقا كما وقع لجوردانو برونو (1548 – 1600). لقد اعتنق «برنو» بعدما انتقل إلى الفلسفة وقد كان راهبا مسيحيا، نظرية «كوبرنيك» التي حرّمها رجال الدّين لأنّها كافرة ومهرطقة وتناقض الحقائق المقدّسة. ولم يكتف بذلك بل تجاوز ما قاله «كوبرنيك» بافتراض وجود مجموعات شمسيّة أخرى في الكون وكواكب حولها مأهولة بكائنات عاقلة. دافع «برونو» عن تصوّراته من خلال محاضرات كان يلقيها ممّا تسبّب له في مصاعب بدأت بملاحقته ثم قطع لسانه وأخيرا قتله حرقا. ومثل هذا الحدث الوحشي لا يمكن أن يمر بدون أثر خاصّة عند الفئات المتعلّمة والتي بدأت تستشعر أهمّية الاكتشافات الجديدة وضرورة الدّفاع عنها رغم الأخطار الحقيقية المحدقة بهم. 
إنّ الحقيقة حقيقة ولا ينفع تغليف ما دونها بهالة القداسة حتّى ترقى إلى ذلك المقام. فالصّورة التي تبنتها المسيحيّة عن الكون وأضافت عليها القداسة الجديرة بجعلها من اليقينيات المطلقة لم تعد لتصمد أمام نتائج الأرصاد الفلكية رغم التّشكيك الذي صاحب بدايات استعمال المنظار في ما تظهره عدساته من ناحية ورغم التّحذير الذي كتب في مقدمة كتاب «كوبرنيكوس» وبدون علم منه والذي يؤكّد فيه ناشر الكتاب على الطابع الافتراضي للنّموذج الجديد للكون والهادف فقط إلى «إنقاذ الظواهر» أي القدرة فقط على الوصف بدون أن يكون صورة حقيقيّة للواقع. ومثلما فتحت العدسة البصريّة آفاق الفضاء فإنّ الرّياضيات لازالت كما كانت تمارس فعلها التّنويري وتدفع العقل نحو آفاق أرحب وأوسع وهو ما ستقوم به معادلات «نيوتن» الرياضياتية في مجال ما لم تفقه له البشرية كنها وهو جاذبية الأرض. 
           -----
           -  دكتور  بالجامعة التونسية
          ghorbel_nabil@yahoo.fr