فلسطين بوصلتنا

بقلم
مصطفى يوسف اللدّاوي
في ظل الفوضى مفاهيم استراتيجية إسرائيلية
 لا تنفك النخب الإسرائيلية ومعها لفيفٌ كبيرٌ من الباحثين والمهتمين الصهاينة اليهود، إضافةً إلى أعدادٍ كبيرة من الخبراء والباحثين الأمنيين والعسكريين، الأمريكيين والأوروبيين وغيرهم، وجلهم من أصحاب المواقع الحسّاسة والمناصب الرّفيعة السّابقة، ممّن أدّوا أدواراً حقيقية، ونفّذوا مهمّاتٍ صعبة، وأشرفوا على ملفّاتٍ حسّاسةٍ، واضطلعوا لسنواتٍ طويلة بمهام حماية الكيان الصّهيوني، وضمان أمنه وسلامته، وقد أثبتوا خلال سنوات خدمتهم إخلاصهم للكيان الصّهيوني ودفاعهم عنه، الأمر الذي يجعلهم محلّ ثقة الإسرائيليّين، الذين يأنسون لرأيهم، ويؤمنون بحرصهم، ويأخذون بنصيحتهم، ولا يشكّون أبداً في ولائهم، ولهذا فهم يدعونهم دوماً للمشاركة في حلقات البحث والمؤتمرات التي تناقش مستقبل كيانهم، وتبحث في الأخطار المستجدّة والمحيطة بهم، ويمنحونهم الفرصة الكافية للحديث والتعبير عن آرائهم.
وفي هذه الأيام يشهد الكيان الصّهيوني على مستوى الجامعات ومراكز الدّراسات والمؤسّسات الأمنيّة والعسكريّة، ندواتٍ وحلقاتِ بحثٍ تعقد على الدّوام ولا تتوقّف، ويبدو عليها الجدّية والاهتمام، والقلق والخوف، وهي تتابع التّطورات، وتجمع المعلومات، وتحلّل المعطيات، وتخرج بالتّوصيات والنّتائج، وتوصي بالحلول والمقترحات، التي يرون أنّها قد تجنّب الكيان وسكّانه الأخطار المحيطة، فهم لا يعتقدون أنّهم سيكونون بمنأى عمّا يحدث، وأنّ النتائج لن تكون صادمة بالنّسبة لهم أو مفاجئة، خاصةً أنّهم لا يستطيعون أن يتركوا شيئاً للمفاجئة أو المصادفة، بل يؤمنون بضرورة أن تكون كلّ الخيارات مدروسة، وكلّ الاحتمالات معروفة.
لعل المتغيرات السريعة والكبيرة التي تشهدها المنطقة العربيّة، وخاصّةً في مصر وسوريا، هي التي تفتح شهيّة الباحثين الإسرائيلييّن على المزيد من البحث، وتشجّعهم على التفكير الجديد والفعّال، للتّعرف على كيفية التّعامل مع المستجدّات الحادثة، والبحث عن أفضل السّبل والمناهج التي تناسب المرحلة، وتجنّبهم الأخطار القريبة والجارة، ولعلّها تشعر بغير قليلٍ من القلق نتيجة التغيّرات السريعة والانقلابات الكثيرة، فهي تخشى ممّا قد تفرضه الأحداث الجارية، التي قد تجبرها على التّعاطي مع القوى الصّاعدة والمسيطرة، أو تجد نفسها في اشتباكٍ معها، تجابهها وتقاتلها.
يرى بعض الباحثين الإسرائيليين المنشغلين في هذه الورشات، أنّ المنطقة العربية تشهد عمليّة هندسة سياسيّة حقيقيّة وجادّة، وهي بالنّسبة للبعض حلمٌ ولكنّها لغيرهم ألمٌ، وقد شكّلت في الماضي أحلاماً، بينما خلقت عند آخرين كوابيساً، ولكن عما قريب ستظهر النّتائج وستقوم الحدود والوقائع، وستنشأ دولٌ وحكوماتٌ، وستعزل فيها طوائفٌ وقومياتٌ، برضى أهلها أو رغماً عنهم، إذ أنّ المستقبل لا يحمل لهم حلولاً مرضيّة، ولا يعدهم بنهاياتٍ سعيدة، والأيام تنقلهم من سيئٍ إلى أسوأ، وتكلّفهم في كلِّ يومٍ أكثر، الأمر الذي سيجبرهم على القبول بحلولٍ يستخدم فيها المشرط، الذي يحزّ الجلد ويجرح، ويتسبّب بالألم وينزف بسببه الدّم.
ولكنّهم يرون أن عمليّة رسم الخرائط وتصميم المواقع تتمّ في المكاتب وفي أروقة الفنادق، حيث المكيفات الملطفة للأجواء، والكماليّات الميسّرة للعمل، بعيداً عن ضوضاء الورش، وفوضى العمل الميداني، الذي يقوم به الوكلاء فقط، الذين يلتزمون بتنفيذ العمل وفق الخرائط المرسومة، والخطط المعتمدة، حيث لا يحقّ للعاملين في الورش وعلى الأرض أن يتدخّلوا في تعديل الرّسومات، أو إجراء تغيير على التّصاميم المرفقة، مهما بلغ عدد العاملين، ونشاط الفنييّن، ومهارة المهندسين، فهم ليسوا أكثر من عمال منفّذين، وأجراء يعلمون لدى مقاولٍ أو شركةٍ، بل إنّهم عبيدٌ سخّرهم الرّب لخدمتهم وتلبية حاجاتهم.
يؤكّد هذا الفريق على ضرورة عدم غياب الحكومة عن مكاتب الرّسم والتّصميم، ليتمّ الأخذ بملاحظاتهم، والعمل وفق تصوراتهم، ويعتبرون أنّ الحضور هنا واجب، والمساهمة ضروريّة، أمّا الغياب فهو جريمة قد ترقى إلى مستوى الخيانة، أما الغياب عن الورش المكلّفة على الأرض فهو ضرورة ومصلحة، حيث يوجد عمالٌ ينفذون المهام بدقةٍ وأمانة، ويجتهدون في استرضاء المقاولين، والحصول على إشادة المتعهّدين، وهؤلاء يتعرّضون للخطر بالإنابة، ويضعون أنفسهم في مواقع المجازفة التي يجب على الإسرائيليين أن يبتعدوا عنها، ويدعوا غيرهم يقوم بها بالوكالة عنهم، فهم يحسنون القيام بعملهم، ويؤدّون المهام الموكلة إليهم بصدقٍ وأمانة.
لهذا ينصح هذا الفريق الحكومة الإسرائيلية أن تغيب كلياً عن المواقع، وألا تكون فيها إلا للمراقبة والمتابعة وجمع المعلومات، والتدقيق في البيانات والمعطيات، لتتمكن من رسم الخرائط المطلوبة وفق المعلومات الصحيحة، التي تلبي حاجتهم، وتحقق أهدافهم، وتجنبهم دفع أثمانٍ هم في غنىً عنها، خاصةً أنهم يعلمون مسبقاً أن هذه الورش قذرة وغير نظيفة، وأن أرضها سبخةٌ رخوة، يسهل الغوص فيها لكن يصعب الخروج منها، والوكلاء فيها متشاكسون، وأكثرهم غير أمينين، وقد ينقلبون فجأة، ويغيرون اتجاهاتهم بغتةً.
في الوقت الذي يرى فيه هذا الفريق من الباحثين وجوب الابتعاد عن الميدان، وعدم المشاركة في الحروب والمعارك، إلاّ أن يكون خطراً داهماً، وهدفاً حقيقياً لا يحتمل الانتظار، ولا يمكن استدراكه إن لم يتم استغلال الظرف الرّاهن، واتّخاذ القرار المناسب بسرعةٍ وحزمٍ، وإن لم يكن الهدف عند غيرهم ظاهراً، أو عند حلفائهم حقيقياً، إلاّ أنّه بالنّسبة لهم قد يشكّل خطراً، علماً أنهم يعتقدون أنّ قواعد اللّعبة تسمح بمثل هذه التّمريرات، وتجيز بعض الضّربات والغارات، ولا تحاسب المتجاوزين عليها، إذ لا وقت للحساب، ولا قدرة عند كل الفرقاء على منع التجاوز أو صدّه.   
يلخص هؤلاء موقفهم، أنّ أفضل طريقة للنجاة من العاصفة الإقليمية، تكمن في اعتماد استراتيجية سور دفاعيّة، مدعومة بقدرة معزّزة على تسديد ضربات بعيدة المدى، والتّعاون مع القوى والدول العربية التي تنجح في البقاء، وتبدي رغبةً في التعاون والتنسيق، علماً أن أغلب القوى العربيّة الرّسمية باتت تدرك أنّ مصالحها مع الكيان أفضل، وأن مستقبلها في ظلّه أضمن، وأنّ بقاءها إلى جانبه أكثر استقراراً وأماناً.
هكذا يفكرون ويخططون، وهكذا يعملون وينفّذون، فهل ننتبه ونصحو، ونلتفت إلى مصالح أمّتنا وأماني شعوبنا، فنقلب لهم ظهر المجن ونتفق، ونباغتهم ونتّحد، ونصدمهم وننعتق.