مقالات في التنمية

بقلم
رضا التوكابري
مسؤولية الدولة في توفير الحاجات الأساسية للمواطن
 حقوق الإنسان عند سلطان العلماء «العزّ بن عبدالسلام» هي إنصاف المظلومين من الظّالمين، وتوفير الحقوق على المستحقّين العاجزين، وصرف الدّعاء عن ربّ العالمين على ما ذكره عمر أمير المؤمنين، إذ قال في أوّل خطبة خطبها: «أيّها النّاس إنّ الله قد كلّفني أن أصرف عنه الدّعاء؛ بإنصاف المظلومين ولا يُحوِجهم أن يسألوا الله، وكذلك أن يدفع حاجات النّاس وضروراتهم بحيث لا يحوجهم أن يطلبوا ذلك من رب العالمين».
الكلمة فصيحة جامعة لمعظم حقوق المسلمين والمواطنين غير المسلمين، ومن ذلك حفظ أموال الأيتام والمجانين والعاجزين والغائبين ومنها التقاط الأموال الضائعة والأطفال المهملين، ومنها الضّحايا والهدايا ومنها اصطناع المعروف كُلُه دِقُه وجُلُه، ومنها إنظار المعسرين وإبراء المقترين، ومنها حقوق تزويج النّساء على الأولياء، وحقوق كلّ واحد من الزّوجين على صاحبه، ومنها القسم بين المتنازعين، ومنها الرأفة والرّحمة إلاّ في استيفاء العقوبات المشروعات، ومنها الإحسان إلى المعينات والمعينين بأن لا يُكلِفُوهُم ما لا يُطِيقون، وأن يطعمهم ممّا يأكل ويلبسه ممّا يلبس، وأن يكرم من يستحقّ الإكرام من الخدم والمعينين، ولا يفرّق بين الوالدة وولدها، ولا بين الأخت وأختها، وعلى المستخدمين القيام بحقوق أعرافهم التي حثّ الشّرع عليها وندب إليها، ومنها ستر الفضائح والكفّ عن إظهار القبائح، ومنها الكفّ عن الشّتم والظّلم، ومنها جرح الشّهود وتعديلهم وتفطير الصّائمين وإبرار المقسمين، ومنها كسوة العراة وفكّ العناة (الذين يعانون من الأسر عند العدوّ)، ومنها القرض والضّمان والحجر بالإفلاس على المرضى فيما زاد على الثّلث، ومنها إعانة القضاة والولاة وأئمّة المسلمين على ما تولّوه من القيام بتحصيل الرّشاد ودفع الفساد وحفظ البلاد وتجنيد الأجناد ومنع المفسدين والمعاندين.
وقال أبو بكر رضي الله عنه في أوّل خطبة خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: «أيها النّاس إن قويَكم عندنا لضعيف حتى نأخذ الحق منه، وإن ضعيفكم عندنا لقويّ حتّى نأخذ له الحقّ» ومعنى صرف الدّعاء عن الله أن ينصف المظلومين من الظّالمين ولا يحوجهم أن يسألوا الله ذلك. 
وأصناف إحتياجات الإنسان الأساسيّة تقسم كما يلي: (أوّلا) ما هو ضروري لبقاء الإنسان حيّا (ثانيا) ما هو ضروري لإستمرار حياة طبيعيّة للإنسان مع الوقاية: بتوفير الغذاء والمأوى والأمن ومنع الأمراض المعدية، (ثالثا) ما هو ضروري لإستمرار الحياة وازدهارها، ومن ذلك الحماية من الأمراض الفتّاكة، والطّعام، والتّعليم، وأخيرا إشباع الحاجات غير المادّية (الرّوحية والعاطفية والمعنوية النفسية.. الانتماء،الكرامة والحريّة..).
ولا يكفـــــي تخصيص الموارد لتلبية الحاجات الأساسيّة، بل لا بدّ من حسن التّصرف والتّدبير في هذه الموارد وإعطاءها الوجهة الصّحيح، فمثلا: إنّ جمهورية في إفريقيا  وأخرى في آسيا  قامتا بإنفاق متساو على الخدمات الصّحية، إلاّ أنّ  الدّولة آسياوية حقّقت نتائج أفضل ممّا حققته الدّولة افريقية، لايمانها بأهمية الترابط بين القطاعات المختلفة في مجال تقديم الحاجات الأساسية عمليا وتحويل هذه الأولوية إلى واقع ملموس. فمثلا في مجال تقديم الخدمات الصّحية ليس المهمّ بناء المستشفيات الحديثة مثلا، بل تكملة الصّحة الأساسية بالصّحة الوقائية كغلي المياه قبل الشّرب. وإعطاء الأولويّة في  الّنفقات الى خدمة الفئات الأشدّ حاجة. وبهذا تتحقّق أفضل النّتائج بأقلّ النّفقات الماليّة.
وفي مرحلة أولى نجحت بعض الدّول في توفير الحاجات الأساسيّة مع تباينها في أنظمتها الإقتصاديّة وذلك عن طريق دعم السّلع الضّرورية، وتعميم خدمات التّعليم. ولكن تلك الطّريقة أنتجت عِبئا على الاقتصاد وميزانية الدّولة بعد أن تأكّد أنّ الأغنياء أصبحوا أكثر المستفيدين من صناديق الدّعم لتلبية الحاجات الأساسيّة على حساب ميزانيات التّنمية والتّشغيل. وظهرت طريقة جديدة تتمثّل في تقديم الدّعم مباشرة الى مستحقّيه في شكل منح شهريّة مع جعل الأسعار في السّوق حقيقيّة غير مصطنعة بأيّ شكل من الأشكال. كما ذلك يتدعم بإنتهاج  سياسة إقتصادية كلّية من قبل الدّولة في مجالات الإنتاج والتّنظيم والدّخل من أجل تلبية الحاجات الأساسيّة. ومن الأسلم توجيه الموارد لإنتاج الحاجات الأساسيّة قدر الإمكان، على أن يتمّ الإنتاج في إطار أجهزة تنظيميّة مختلفة مع إخضاعه الى نظام السّوق العادل، مثل القطاع الخاصّ الفردي والجماعي، وقطاع الاقتصاد الاجتماعي  والقطاع االتّشاركي بين العام والخاصّ، والقطاع العام. ويمكن لكلّ القطاعات أن تدلو بدلوها في مجال إنتاج سلع الحاجات الأساسيّة، مثل الغذاء والصّحة. والقطاع العام يمكن أن يلعب دورا مهمّا في مجال توفير البنية الأساسية للخدمات الصّحية والتّعليم ويُؤسّس كل ما هو استراتيجي في المجالات، وهو  ما نسميه بالحاجات العامّة أو شبه العامّة، ويمكن أن يتدخّل في قطاعات أخرى كثيرة، تؤثّر في عرض المواد الأساسيّة. ولا بدّ كذلك من الأخذ في الإعتبار كيفيّة الحصول على الدخول وتوزيعها في المجتمع، لأنّ مستوى دخل الأسرة هو الذي يحدّد مقدرتها الشرائية، وطلب هذه الأسر الفعلي لهذه السّلع والخدمات.
وهناك سؤال مهم يبرز في مجال توفير الحاجات الأساسيّة، وهو: هل من تعارض بين توفير هذه الحاجات والنّمو الإقتصادي في الدّول النّامية؟
إن حجم ميزانية الدّعم من سنة 2012  إلى 2015 في البلاد التونسية  مثلا مقارنة بميزانية التّنمية لنفس السّنوات يؤكّد أنّ أموالا طائلة كان من الممكن أن تموّل بها مشاريع  ولكنها اقتطعت على حساب التّنمية عموما والتنمية الاقتصادية خصوصا.
ويُخشى من توفير الدّعم للحاجات زيادة الإستهلاك بسبب زيادة الميل الحدّي للإستهلاك عند الفئات الفقيرة، وهذا يؤدّي إلى انخفاض الإنفاق على الإستثمار، ومن ثمّ تقليل حجم النّاتج الإجمالي للبلد. وقد يكون تبذير المواد المدعّمة أو تهريبها الى دول أخرى أو استعمالها في قطاعات غير التي وجّهت لها مضرّا بوضع الفقراء وبالتالي يكون من الأفضل توجيه هذه الموارد إلى الإستثمار بدلا من تبديدها تحت عنوان الحاجات الأساسيّة، لأنّ ذلك سيؤدّي في الأمد البعيد إلى زيادة دخول الفقراء نتيجة لزيادة الإستثمار، بدل زيادة مؤقتة في الإستهلاك. 
ومن شروط نجاح ذلك عدالة عالميّة تستنفر دول العالم خاصّة القويّة اقتصاديّا منها لمقابلة إحتياجات الدّول الفقيرة. والتعاون بين الدّول الإسلامية (الفقيرة والغنية) واجب شرعي يساهم بدور فعّال في تلبية هذه الحاجات عبر إستثمار دول الفائض في مشروعات توفّر الحاجات الأساسيّة في الدول الفقيرة.
طريقة لاحتساب الدخل الأدنى لتوفير الحاجات الأساسية : مثال تونس 
لا يتمّ التّحقق ممّا هو ضروري لمعيشة الفرد إلاّ بدراسة تجريبيّة ميدانيّة لأسرة متوسّطة الحال. والعمليّة يتمّ تحيينها دوريّا وكلّما دعت الحاجة وقياسها كما هو معمول به في مركز الدّراسات الكميّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة. ومن التقديرات الحاليّة عن حاجة أسرة متوسّطة في المثال التونسي أنّ الدّخل الشّهري لا يقلّ عن 560 دينارا تونسيّا.
تعتبر الآراء المذكورة آنفا ولاحقا إضافات في تعريف الحاجات الأساسيّة، أو ما يعرف اليوم بتحديد حدّ مطلق للفقر ولكن الاجتهاد في أحوال النّاس لا يتوقف واليوم يمكن أن تضاف فكرة قابلة للتّطوير يُعتمد عليها  في  تجديد مقدار الدّخل الأدنى الذي يكفل الحاجات الدّنيا وهي  في شكل تطبيقي على الحالة التونسيّة. وفي ذلك إعادة النّظر في مفهوم ومعيار تحديد عتبة الفقر عالميّا وذلك عبر اقتباس معيار وطني جديد يستند إلى الموروث الثّقافي والحضاري للبلاد .
وفي هذه الطريقة ربط مقدار الدّخل الأدنى قياسا بمقدار زكاة الفطر كحدّ أدني لاحتساب سقف القوت اليومي للفرد، وقد اعتمدنا في حساباتنا مقدار زكاة الفطر لسنة  1435 هـ الموافق  2014م والذي يساوي 1.400 دينارا، ويعتبر هذا المبلغ ثمن وجبة واحدة. 
قال الله تعالى: {...إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم...} (المائدة،89)، ففي المدوّنة للإمام «مالك بن أنس» قال: «وسألنا مالكا عن الكفارة أغداء وعشاء أم غداء بلا عشاء وعشاء بلا غداء؟ قال: بل غداء وعشاء».
ويكفي في إطعام المسكين إعطاؤه وجبة أو وجبتين أو مقدار زكاة الفطر، وإنّما تقدّم الطّعام على الكساء لأنّه أولى أولويّات الحاجات الأساسيّة المادّية للبشر في أغلب أحوال الأمم، ويكفي في الكسوة أدناها وهي قطعة، مثل ثوب تصحّ فيه الصّلاة قابل للاستعمال مدّة دون مصاريف تنظيف وإصلاح، لذا يمكن إضافة الحاجة الدّنيا للكساء السّنوي في عيديّ المسلمين أو في فصليّ العمل.
 تقدير حجم الوجبات اليومية الرئيسية وأساس تقدير ثمن الضرورات الغذائية الشهرية كالتالي:
* فطور الصباح  : (0.5  وجبة)
* وجبة الغداء: (1 وجبة كاملة)
* وجبة العشاء: (1 وجبة كاملة)
* مجموع   الوجبات  =   فطور الصباح + وجبة الغداء  + وجبة العشاء
                           =   0.5 وجبة + وجبة كاملة + وجبة كاملة 
مجموع   الوجبات في اليوم الواحد =  2.5  وجبة  في اليوم
معدل عدد أفراد العائلة التونسية = 5 أفراد
مقدار زكاة الفطر = ثمن وجبة واحدة = 1.400  دينار
المقدار المالي الأول = حاجات الغذائية للعائلة أو الأسرة:
مقدار زكاة الفطرx مجموع الوجبات في اليوم الواحد x عدد أفراد العائلة x عدد أيام الشهر = 1.400 + 2.5 + 5 + 30 = 525 دينارا. 
المقدار المالي الأول للحاجات الغذائية للعائلة أو الأسرة =525 دينار شهريا
المقدار المالي الأدنى الغذائي = 525 دينار شهريا للعائلة 
ويتمّ تقدير ثمن الضّرورات الملحّة الأخرى ( الكساء السنوي..) على الأساس إضافة ثمن مقدار تكلفة غذاء يوم لكلّ فرد في كل شهر لكل فصل كرصيد لتلبية الحاجات الملحّة الأخرى (كساء فصلين في السنة ... ):
مقدار تكلفة غذاء يوم(1.400) x عدد أفراد العائلة(5) x عدد فصول السنة المعتبرة (2)
1.400 + 5 + 2 = 35 دينارا 
المقدار المالي الأدنى للضّرورات الملحّة الأخرى للعائلة الواحدة يساوي 35 دينارا.
وبالتالي فإنّ جملة المقدار المالي الأدنى للضرورات الرئيسية = 525 + 35 = 560 دينارا شهريا للعائلة الواحدة.
الخاتمة
بعد هذا الاستعراض الذي يؤصّل مسؤوليّة الدّولة في توفير الحاجات الأساسيّة للمواطن ويقدّم مثالا عمليّا لاحتساب الدّخل الأدنى لتوفير الحاجات الأساسيّة للعائلة التونسية ، سنعمل في الجزء الثّالث على رسم ملامح تصوّر لمنوال تنموي جديد عادل ومعاصر إضافة إلى تقديم توجهات رئيسيّة نرى أنها تساهم في وضع نظام لتلبية الحاجات الأساسيّة في دولنا في العصر الحديث.
-----
- خبير 
ri2kbri@gmail.com