في العمق

بقلم
عبدالمجيد بن ابراهيم
نقد المنظومة الاصولية التقليدية قراءة في بعض التناقضات
 في سياق نقدنا للمنظومة الأصوليّة التّقليديّة نعمل في هذه المناسبة على تناول جانب آخر من هذه المنظومة وهو متعلّق بالاجتهاد ودور المجتهد تبيانا وكشفا للخلفيّات الكامنة ثم سنعمل على طرح جملة من الأفكار حول البدائل الممكنة.
(1)  المنظومة الاجتهادية مكامن العلة ومظاهر الازمة
(أ) المصادر الثانوية وتواصل ازمة هذه المنظومة
ركّزنا في مقالات سابقة على المصادر الأساسيّة الكبرى أي القرآن والسّنة والإجماع والقياس. وسوف نستدعي هذه المرّة بقيّة الأصول (الاستحسان، سدّ الذرائع، العرف، شرع ما قبلنا ...).
إنّ التأمّل في هذه الخطاطة التّشريعيّة يجعلنا نظفر بالملاحظات التّالية: 
* سبق وأن أكّدنا مرارا وتكرارا على أن هذه المنظومة التّقليدية سوف تدخل في طريق مليئ بالعثرات لاسيّما في ملاحقة «الوقائع اللاّمتناهية» على حدّ تعبير «حجة الإسلام الامام الغزالي» وسوف تضطرّ في كل مرّة الى إضافة أصل ما من أجل تأكيد القدرة والجدارة. لقد أفضى ذلك الى تناسل مزيد من الأصول حتى أضحت لا تعدّ ولا تحصى بدءا بأصول كبرى الى أصول مجهريّة مثل الاستحسان والاستصحاب الى «شرع ما قبلنا» والقانون الرّوماني والعقل كأسفل السّافلين. إنّ هذا البناء صار معقّدا يصعب حتى اعتماده وكأنّ الغاية من بناءه هو إثبات الوجود (وجود الأصولي) كحالة قادرة على استيعاب الجديد وعدم إتاحة الفرصة للتّشكيك في سلطته.
* تمسّك الأصولي بتلك الثّنائيّة الثّاوية دائما في عقله الباطن وهي تقاطب العقل والنّص التي ترافقه في عملية بناءه للأصول:
القياس / محدد بالاستحسان والمصالح المرسلة / سدّ الذرائع
لذلك نجد أن الأصولي لم يترك الحبل على الغارب وحال دائما أن يكون الأصل متحرّرا، فمثلا نجد أنّ الاستحسان الذي كان ذي نفس تحرّري في عهد أبي حنيفة تحوّل الى مجرّد رقيب على القياس أو هو تقنين له، حيث تحوّل الإستحسان الذي كان يساوي المصلحة الى مجرّد اختيار بين القياسين الجليّ والخفيّ.
يمكن أن نؤيّد فكرتنا بمثال آخر وهو الأصل المالكي «المصالح المرسلة» والذي يعدّ مثالا على التحرّر والمرونة قد حدّه الأصولي بأصل آخر وهو «سدّ الذّرائع» حتّى لا يتاح الانفلات من النّص أو الرّكون للواقع بل الأمر دائما مشدود للنّص نكاية في العقل. 
لقد حاولنا أن نورد بعض الأمثلة لتحليل البنية العميقة لمنظومة الأصول التي تولّي «النّصوص» قداسة خاصّة وهي بنية أثّرت على هندسة الأصول حيث تحوّلت الى بنية معقّدة رتيبة وهو ما يظهره توالد الأصول بصفة مفرطة عاكسة أزمة الأصول وحيرة الأصولي. سوف نعمل جاهدين على مزيد تبيان ذلك من خلال عنصر آخر يخصّ المجتهد.
(ب) المجتهد : الملامح والأسرار
بعودتنا الى كتب الأصول لاسيّما المركزيّة كـ «البرهان» للجويني و«المستصفى» للغزالي، نلاحظ أنّ المجتهد أو المفتي أو المستنبط هو وظيفة اتّسمت بالنخبويّة، ويظهر ذلك بالخصوص من خلال قائمة الشّروط الطّويلة والمعقّدة أوهي « شروط مجحفة». فقد وضع الأصوليّون شروطا علميّة تتعلّق بمعرفة القرآن والأحاديث ومعرفة اللّغة والشّعر وشروطا أخلاقية ...إنّ الأصولييّن يعتبرون انّ النّظر في النّص أمر خاص بعدد محدود من الفقهاء إذ هو معرفة خاصّة. إنّ هذه الاشكاليّة هي في الحقيقة اشكالية حارقة داخل أروقة الثّقافة العربيّة الإسلاميّة وتعود بنا الى سؤال هل التّصدي للنّص المقدّس خاصّ أم عام.
 إن الأصولييّن يتناقضون مع أنفسهم، فمن جهة يعلنون صباحا ومساءا أنّه لا كهنوت في الإسلام ولا وجود لطبقة ممّيزة، لكنّهم من جهة أخرى يبدّدون ذلك ويؤكّدون أنّ حقّ الاستنباط هو معرفة خاصّة لعدد معيّن من الفقهاء والمجتهدين. ألا يجدر بهم وهم يطرحون الإسلام كبديل حضاري ويرفضون منطق علمنة الحياة في بلاد الإسلام أن يسمحوا بيسرالبحوث في النّص الدّيني دون رقابة او مواربة ؟
إنّ الاصولييّن حين يتمسّكون بتلك «الوظيفة الخاصّة» هم في الحقيقة يدافعون على سلطتهم ودورهم المتآكل عاجلا أم آجلا لا أكثر ولا أقل. ألا يعدّ ذلك احتكارا للمعرفة والدّين وهو أمر لم يعد ممكنا مع تطوّر الحياة حيث أصبح دورّ الأصولييّن محدودا في عمليّة بناء الحقيقة الدّينية؟ 
إن عالم الإسلام محتاج حقّا الى فتح النّوافذ وفتح الأبواب المغلقة للبحث نحو معرفة أغوار النّص الدّيني والوقوف على حقائقه في كنف الحرّية واستغلال الفتوحات المعرفيّة والعلمية الحديثة للاستضاءة بها في فهم النّصوص. إنّ عالما بدأ ينتهي وعالما آخرا سيكون «العقل» فيه لبنة كبرى بدأ يسري ويظهر وستكون العقلانيّة عماده نحو تطوير واقعنا المتردّي أصلا. إنّ منطق الخاصّ والعام أو منطق الخاصّة والعامّة هو منطق مضادّ لثقافة التّنوير ونشر المعرفة وسريانها نحو المراكمة والتي هي الشروط الحقّة من أجل تطوير الأفهام وتطوير الحياة ككل.
 (2) البدائل : أفكار من أجل البناء
لاشكّ أنّنا توصّلنا الى جملة من الأمور الأساسيّة وهي أنّ المنظومة الأصوليّة التقليديّة لم تعد ملبّية للتّحول القائم في الواقع وهو ما يعني ضرورة ايجاد بدائل. 
إنّ البدائل المطروحة متنوّعة الاتّجاهات منها ماهو عربي إسلامي ومنها ما هو غربي. ونحن نركّز في بحثنا على ضرورة الاستفادة من كلّ الابداعات الانسانية وتجاوز حالة الشّقاء والتّوزع التي يعاني منها الباحث المسلم بين الغرب والشّرق. ويمكن أن نسرد في هذا الاطار جملة من الأفكار ضمن مشروعنا القادم من أهمّها: 
* فكرة المقاصد هي فكرة جديرة بالاهتمام لأنّها تجعلنا ننعتق من إرث القراءة الحرفيّة. لكنّها لا تكفي لوحدها لذلك لابدّ من طرح أفكار أخرى مثل «فقه الواقع» و«فقه المعاملات» و«فقه المصالح». إنّ هذه الأفكار تبدو إصلاحيّة لكنّها مهمّة وعيبها أنّها تبقينا في إطار مرض إشكاليّة الأصالة والمعاصرة. 
لذلك نرى أن الانفتاح على بعض الأفكار الواردة من خارج المنظومة الإسلامية أمر حيويّ على غرار فكرة «الهرمونيطيقا» وهي فكرة قائمة على تأويل النّص المقدّس. ونظريّة التّفكيك التي تمكّننا من الخروج من مركزيّة المعنى وإسهامات «رولان بارط» وخاصة نظريّة «موت المؤلّف» ...هذه نظريات خلاّقة هامّة يمكن أن تمكّننا من الاستفادة من النّص. 
نحن لا نطرح أفكارا نهائية أو حلاّ جاهزا بل «إضاءات» لخلق فهم جديد للنّص.نحن الآن بصدد بناء «مشروع نظريّ في التأويل» وهو مشروع شامل يستطيع احتواء عديد العناصر كحصيلة التأويل المعتزلي والتأويل في سياقه الغربي. إنّ رّهاننا الأساسي هو جعل النّص أكثر قدرة على التلوّن بالواقع الجديد والمتجدد بنظرة أكثر معاصرة وشمولا للتاويل من خلال بناء نظري تأسيسي جديد لفهم النّص نسعى لإنجازه. 
  المصادر والمراجع
(1) المستصفى لأبي حامد الغزالي -
(2) التشكّلات الايديولوجية في الإسلام الأستاذ سالم بن حميش.