نقاط على الحروف

بقلم
محمد المولدي الداودي
حركة النهضة وفقه المناورة السيّاسيّة - الجزء 1
 أربعون عاما تقريبا تفصل بدايات تشكّل أوّل جماعة إسلاميّة في تونس عن تكوين الجماعة الملهمة لكلّ الحركات الإسلاميّة المعاصرة في كلّ العالم وهي جماعة «الإخوان المسلمون» التي تأسّست سنة 1928 على يد «الإمام حسن البنّا». ولئن اختلفت بعض بيئات النشأة ودوافع التكوين، فإنّها عبّرت جميعها عن مظاهر تحوّل جوهري في طبيعة العمل الإسلامي من عمل دعوي تربوي لا يفارق المسجد وينشدّ إلى المنظومة الفقهيّة القديمة إلى عمل حركي ينفتح على كل الجوانب الحياتيّة سواء الاجتماعيّة (الأعمال الخيريّة) أو السياسيّة (المشاركة في الحياة السّياسيّة) أو الثقافيّة والتعليميّة (الصّحف والمدارس) ولذلك تشكّلت مع جماعة «الإخوان المسلمين» شعارات جمعت في مضمونها الدّلالي بين العمل الدّعوي والسّياسي باعتباره جزءا من حضور العمل الإسلامي في نظام المجتمع والدّولة وارتفعت في الفعاليّات الشعبيّة والتّظاهرات السّياسيّة شعارات من قبيل « الإسلام هو الحلّ».
كانت الجماعة شكلا مغايرا للعمل الإسلامي وتجليّات حضوره في المجتمعات العربيّة الإسلاميّة وكانت امتدادا لحركة الإصلاح المتعلّقة بسؤال النّهضة في فضاء سياسيّ تهاوت فيه أشدّ الرّموز وهي الدّولة العثمانيّــة وتصاعدت فيه النّزعة القوميّة في تركيــا (تركيا الفتاة) وفي مصر (مصر الفتاة) وبدأت الرؤى السياسيّة في الغرب والشرق تغزو فضاء عربيّا لم يستوعب بعد عمق التحوّلات العالميّة بعد سقوط الإمبراطورية العثمانيّة سنة 1924 وصعود الفكرة الشّيوعيّة بعد نجاح الثّورة البولشفيّة سنة 1918 .
كان فكر الجماعة في بداياته مزيجا من الدّعوة السلفيّة والرؤية الاجتماعيّة السياسيّة المنشدّة لرؤية إصلاحيّة والمنفتحة على التنظيم الإداري والسّياسي للدّولة الحديثة وكان محاولة تنظيميّة للمزج بين عمق الفكرة الإسلاميّة وقوّة الدّولة ( الكتاب والسّيف) وبذلك قدّمت طرحا تنظيميّا للحكم فانتشرت في تلك الفترة كتابات ورسائل من قبيل « الاقتصاد الإسلامي» و«الحكم في النظام الإسلامي»...
ألهمت جماعة الإخوان المسلمين كلّ الحركات الإسلاميّة الأخرى في كلّ البلدان التي بدأت تتشكّل فيها العناصر الأولى للدّولة القطريّة، فاختلفت أنظمتها السّياسيّة (الجمهوريّة والجماهريّة والملوكيّة) ثمّ انعكس الاستقطاب العالمي الموزّع بين الغرب والشّرق على الخيارات الوطنيّة والتوجّهات الاقتصاديّة وصياغة النّموذج الاجتماعي بعيدا عن الفكر الدّيني والتّقاليد الاجتماعيّة والقيميّة وترسّخت فكرة العلمانيّة من خلال البرامج التعليميّة ومواجهة المؤسّسات الدينيّة كالزّيتونة في تونس والأزهر في مصر.
ضمن هذا الفضاء السّياسي والاجتماعي والاقتصادي والثّقافي الذي أخذ في الميل نحو النّموذج الغربي بقطبيه الشّيوعي الاشتراكي أواللّيبرالي الرّأسمالي بدأت ملامح ظهور الجماعة الإسلاميّة في تونس في أواخر السّتينات ثمّ بدأت نشاطها السرّي في أفريل 1972 .. لقد كان ظهورها ردّا على مغالاة نظام الحبيب بورقيبة في انتهاج المنهج العلماني المستمدّ من النموذج الفرنسي المعادي للدين ( غلق جامعة الزيتونة والدعوة إلى إفطار شهر رمضان ...) كما كان ردّا على صعود الحركات اليساريّة والقوميّة التي وجدت في الفضاء الجامعي والمنظّمات النقابيّة مجالا حرّا للعمل السّياسي.
كانت بدايات الجماعة الإسلاميّة في تونس عملا تربويّا دعويّا سرعان ما انجذب إلى العمل السّياسي في بدايات الثّمانينات حيث تمّ الإعلان عن تأسيس حركة « الاتجاه الإسلامي» يوم 06/06/1981 وسعى مؤسّسو الحركة إلى الحصول على تأشيرة دون أيّ استجابة من الحكومة.
تجاوزت الحركة في رؤاها الفكريّة والسياسيّة مجرّد العمل الدعوي أو التربوي وبدت منشدّة إلى التّجربة المصريّة وخاصّة فكر الجماعة وعملهم التّنظيمي والاجتماعي والتقت مع هذا الرّافد الأساسي في كثير من العناصر والخصائص التّكوينيّة، فأغلب المؤسّسين لا ينتمون إلى المؤسسة الدينيّة التقليديّة وكان تعليمهم تعليما عصريّا، فالشّيخ راشد الغنوشي أستاذ للفلسفة وأحد المتأثّرين بالتّجربة القوميّة المصريّة في بدايات تشكّل فكره السّياسي والشيخ عبد الفتّاح مورو بدأ حياته المهنيّة قاضيا ثمّ محاميا. إنّ تعدّد الرّوافد الفكريّة والتنظيميّة هو الذي أكسب حركة الاتجاه الإسلامي هذا الانجذاب السّريع نحو العمل السّياسي وغلّب روح المشاركة في الحكم من خلال التنظّم الحزبي وكانت الثورة الإيرانيّة مرحلة أساسيّة من مراحل التكوين التنظيمي ودافعا من دوافع فكرة القدرة على الحكم المحكوم في العمق بمثاليّة « الحكم الرّاشد والخلفاء الرّاشدين».
إنّ تجاوز العمل الدعوي إلى السّياسي من خلال المطالبة بتأشيرة الحزب والمشاركة في الحراك النّقابي الطلاّبي من خلال الاتحاد العام التّونسي للطّلبة هو الذّي عجّل بالمواجهة مع السّلطة وبقيّة المكوّنات الفكريّة أو السّياسيّة كاليساريّين والقوميّين وبدأت مرحلة المطاردة التي استعادت من خلالها حركة الاتجاه الإسلامي في تونس وجها آخر من وجوه حضور الجماعة الملهمة (الإخوان المسلمون) وهو تجربة المحنة والابتلاء باعتبارها قاسما مشتركا جمع كلّ الحركات الإسلاميّة في إطار الصّراع مع السلطة الحاكمة.
لقد كانت أدبيّات «حركة الإخوان» وكتاباتهم الممزوجة بعذابات المحنة وروح المقاومة والصمود مكوّنا وجدانيّا نشأ عليه شباب حركة الاتجاه الإسلامي. وتحرّكت اتجاهات الحركة بتحّرك أجنحة السّلطة واضطرابها، فكانت تجربة الوزير الأوّل محمد مزالي مرحلة من مراحل المهادنة التي سبقت جولة أخرى من جولات الصّراع العنيف أحيانا.
انتهت فترة الحبيب بورقيبة وأغلب قيادات حركة الاتجاه الإسلامي في غيابات السّجون أو في المنافي أو هم ينتظرون حكم الإعدام وكانت حركة الانقلاب النوفمبري تحوّلا في شكل المواجهة لا غير ولم يمنع إمضاء الحركة على الميثاق الوطني سنة 1988 السلطة الحاكمة من التربّص بها عبر إعادة تشكيل للمشهد السياسي باستيعاب العناصر الطيّعة من اليسار أو القوميين وكانت انتخابات 1989 اختبارا للحضور الشعبي للحركة وكشفا للعناصر التنظيميّة الصغرى في الجهات والمحليّات فكانت الحركة معزولة سياسيّا ومكشوفة تنظيميّا فكانت سنين الجمر والمحنة.
خبت الحركة تنظيميّا وتفكّكت عناصر ترابطهــا بعد أنّ زجّ بكلّ المنتمين إليها والمتبنين لفكرها في السّجون وكانت مظاهر القـــوّة القمعيّة للدولة متجليّة في معاناة الإسلاميين وعائلاتهم. لقد كانوا تهمة يتّقيها النّاس ومحنة يختبرها الأهــل وتحفظها جدران السّجون.
خمس عشرة سنة من الملاحقات والمحاكمات والتضييق على الإسلاميين لم تقتل الفكرة الإسلاميّة ولم تمنع تجدّد حضورها في المجتمع التونسي وظلّت حركة النهضة وهي الامتداد الفكـــري والتنظيمــي لحركة الاتجاه الإسلامي بعد 1987 ظلّت وجها من وجوه المعارضة السياسيّــة والحقوقيّة في الخارج وعادت حركــة سريّة مراقبة ومحظورة في الدّاخل فتجدّدت تمظهرات الفكــرة الإسلاميّة بعيدة عن التنظيم وكانت عفويّة وشعبيّة وذات تعبيرات رمزيّة ومنها ظهور الحجاب في المؤسسات التربويّة وشيوع التديّن عبر إقبال الشباب على المساجد وظهور قائمات للطلبة المستقليـــن في الجامعات غير أن روح التديّن فقدت عناصر التنظيم الفكري فتعدّدت روافدها وظلّت منجذبة للفكر الإخواني أو الفكر السلفي انطلاقا من تأثّر شباب الصحوة بشيوخ الدعوة السلفيّة في الفضائيّات ..لقد كان الانفتاح الإعلامي فكّا للحصــار الفكري والدعوي والسياسي الذي مارسه النظام فانفكّت عزلة المجتمع التونسي وصار جزءا من حراك عربي وإسلامي كوّنت ثقافته قنوات فضائيّة ومنها الجزيرة القناة الإخباريّة ومنها القنوات الدعويّة.
تشكّلات العمق الديني للمجتمع وتنوّع الروافد واختلاف المسارات.
لم تكن حركة النهضة الحزب المحظور إلاّ جزءا من مشهد سياسي ساكن وراكد ومغيّب ومهمّش من حيث البناء التنظيمي مثلها مثل حزب العمّال الشيوعي التونسي وحزب البعث وحزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة وكثير من الحركات اليساريّة أو القوميّة ولكنّها كانت مجموعة من المواقف السياسيّة أو الحقوقيّة التي تفصح عنها بعض الفضائيّات التي أعادت حركة النّهضة إلى المشهد السّياسي غير الرّسمي وتلقّى المشاهد التّونسي بيانات حركة النّهضة عبر قناة الجزيرة أو قناة الحوار اللّندنيّة أو عبر مواقع الانترنيت وتعرّف على رؤى الحركة السّياسيّة أو الفكريّة من خلال حوارات «الشّيخ راشد الغنوشي» أو حوارات السيّد «لطفي زيتون» كما مثّلت جريدة الموقف فضاء حرّا مكّن كثيرا من قادة الدّاخل من التعبير عن قضايا وطنيّة وحقوقيّة، كما اتّسع حزب المعارض التّونسي السيّد أحمد نجيب الشّابي ذي الخلفيّة اليساريّة الاجتماعيّة « الحزب الديمقراطي التقدمي» للكثير من السّياسيين ذوي الميول الإسلاميّة، فعبّروا داخل هذا الحزب عن تعدّد الطّيف السّياسي المعارض لمنهج النّظام في التّعامل مع مسألة الحريّات ومنها حريّة التنظّم وتكوين الأحزاب والجمعيّات وحريّة التّظاهر والاجتماع وحريّة التّفكير والتعبير ...
لقد كانت وتيرة التّحوّلات في الجسم السّياسي التّونسي المنهك بسبب القمع والقهر سريعة ومباغتة ومعبّرة عن تحوّلات فكريّة ودينيّة وسياسيّة وتحوّلات عالميّة (ظهور تنظيم القاعدة وأحداث 11 سبتمبر وتشكّل تيّارات السلفيّة الجهاديّة وبروز فكرة الخروج عن الحاكم وانشدادها لتيّارت دينيّة متشدّدة ظهرت في مصر) نشأت بعيدا عن الحاضنة الطبيعيّة للفعل السّياسي كالحركات السّياسيّة المنظّمة أو الجمعيّات أو المنظّمات أو غيرها وكانت التحوّلات هامشيّة وشعبيّة غير قابلة للمحاصرة لغياب الفاعل السّياسي كشكل تنظيمي، ولذلك تعدّدت مظاهر هذه التحوّلات فهي أحيانا احتجاجات ذات بعد اجتماعي مطلبي أو هي تحرّكات نقابيّة أو تظاهرات فكريّة ثقافيّة ثمّ كانت «أحداث سليمان 2006/2007» التي عبّرت عن حدّة الصّراع بين السلطة من ناحية ومكوّن اجتماعي له منطلقاته الدينيّة والسياسيّة. لقد أعادت أحداث سليمان طرح المسألة الدينيّة  في المجتمع التونسي انطلاقا من تناظرات وتباينات كوّنت التّعامل الدولي مع الإسلام الجهادي بعيدا عن مفاهيم أخرى من أهمّها عبارة الإسلام السّياســي  لذلك وجدت الحكومات العربيّة المستبدّة والقمعيّة نفسها مجبرة على إحداث مماثلة مضلّلة بين الحركات الجهاديّة وحركات الإسلام السّياسي وألغت بذلك كل الاختلافات المفهوميّة والتباينات في الرؤى والمنطلقات بين كلّ الحركات الإسلاميّة وسعت سعيا محموما لترويج صناعة الإرهاب عند الغرب وروّجت لنفسهــا كراع للديمقراطيّة وأحدثت بذلك تلازمــا شرطيّا بين الاستبداد ومحاربة الإرهاب ..وتمكّنت من ترويج بضاعتها لدى صنّاع السياسة في الغرب.
هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريّات: قوّة الضغط وجاذبيّة الاحتماء
«هي إطار عمل سياسي شكلته عام 2005 عدّة أحزاب وشخصيّات تونسيّة معارضة» وكانت تلوينا سياسيّا وحقوقيّا عبّرت من خلاله النّخبة السّياسيّة التّونسيّة عن رغبة في تجاوز التّناقضات الفكريّة والإيديولوجية وتأسيس أرضيّة مشتركة للعمل السّياسي الجماعي تتّفق في المشترك الوطني وترسم ملامح لأفق يتجاوز ضيق الواقع السّياسي وأزمة الواقع الحقوقي ..ثمانية من النّاشطين السّياسيين والحقوقيّين  شرعوا في إضراب جوع تزامنا مع عقد قمّة المعلومات في تونس وهم الناشط السياسي «أحمد نجيب الشابي» عن الحزب الديمقراطي التقدمي والمناضل اليساري «حمّه الهمّامي» عن حزب العمّال الشيوعي التونسي والأستاذ «عبد الرؤوف العيّادي» عن المؤتمر من أجل الجمهوريّة والأستاذ «سمير ديلو» عن حركة النّهضة والقاضي «المختار اليحياوي» والمحامي اليساري «العيّاشي الهمّامي» والإعلامي «لطفي الحاجّي» والحقوقي «محمد النوري». وتجسّد هيئة 18 أكتوبر قدرة من النّخبة السياسيّة  على « تكريس وحدة العمل حول الحدّ الأدنى من الحرّيات وفتح حوار حول مقتضيات الوفاق الديمقراطي» و«تبقى (الهيئة)مفتوحة على كافة القوى المعنية بمعركة الحريّات والتّغيير وتؤكّد احترامها لاستقلاليّة كل الأطراف المتشاركة وقبولها للاختلاف ولا تلزم هذه الأطراف إلاّ بالاتّفاقات والمواثيق المشتركة».
رغم التّناقضات الفكرية والإيديولوجيّة وحّد الاستبداد السّياسي زمن نظام بن علي كل التّشكيلات السياسيّة والحقوقيّة المعارضة وكوّن لدي النخبة وعيا جديدا بضرورة العمل المشترك بعيدا عن الصراع لمواجهة تسلّط النظام وبذلك نشأت أولى معالم التوافق السياسي .
-----
- أستاذ تعليم ثانوي
sbibadaoudi@gmail.com