قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
تركيا ... الاخضر واليابس
 اكتست الانتخابات التركية الأخيرة أهمّية بالغة وفرضت على الجميع انتظار نتائجها كلّ حسب رغبته وتمنياته .الإسلاميّون المعتدلون كانوا في حاجة إلى انتصار جديد يحّققه حزب العدالة والتنمية للتّأكيد مرّة أخرى على جدّية المشروع الإسلامي المعتدل والحداثي والتصاقه بمستقبل كلّ شعوب المنطقة، ومعادوا المشروع الإسلامي عامّة والمشروع التّركي خاصّة الذين كانوا قاب قوسين أو أدني من إعلان بدايات انهيار المشروع وتلاشيه باندحار حزب العدالة والتنمية وحصوله على نتائج هزيلة. وفي المحصلة فقد كان اهتمام الجميع شرقا وغربا بهذه الانتخابات باعثا على التّساؤل مرّة أخرى إن كان للإسلاميين الحقّ في امتلاك مشروع والدّفاع عنه أم يظلّ الأمر مجرّد طفرة أو فلتة في غفلة من الزّمن آن لنهايتها أن تحين؟
(2)
لا يختلف اثنان فى كون حزب السّيد «رجب طيب أردوغان» استطاع تحقيق نقلة نوعية فى حياة الأتراك وفى ملاءمة المشروع الإسلامي مع دولة الحداثة الحقيقية وأنّه استطاع قيادة تركيا وسط أمواج من التّآمر والتّشكيك والتّعطيل لينقل الاقتصاد التّركي من التّردي إلى صدارة الاقتصاديّات المحسوبة على العالم الثّالث حتّى استطاع أن يسدّد ديون تركيا و يحوّلها إلى بلد دائن، هذا بخلاف الإنجازات والمشاريع الضّخمة التى لا تخطؤها عين الزّائر أو المراقب.
جاء الحزب الاسلامي إلى السّلطة محمولا على آليّة الدّيمقراطيّة مشروطا باختيار الشّعب التركي لمن يحكمه وقد كان هذا المجئ مسبوقا بتجارب أخرى أجهضها العلمانيّون والعسكر ووصل بهم الأمر حدّ إعدام الذين اختارهم الشّعب بعد الانقلاب عليهم والضحايا فى هذا الصّدد بالآلاف(1). و قد كان الخوف والتّخويف محمولين على التّشكيك فى ديمقراطية الإسلامييّن كما هو الحال دائما وكان التّساؤل الفجّ هل سيحترم الإسلاميون آلية الديمقراطية والاختيار الشّعبي الحرّ أم ستكون الانتخابات فرصة أولى وأخيرة للانقضاض على السّلطة والاستئثار بها أي ديمقراطية لمرّة واحدة وأخيرة.
فاز الحزب في كل الانتخابات التى جرت في العشريّة الأخيرة ولم ينكص على عقبيه بل ظلّ يرفع شعار الحرّية للشّعب وأنْ لا رأي يعلوا فوق رأيه، ولم يخذله الشّعب التّركي بل ساعده فى العمل والانجاز والتغيير السّلمي السّليم وظلّ هذا الشّعب يتوق دائما إلى الأفضل مديرا ظهره لكلّ المؤامرات و خاصّة تلك التى كانت ترفع شعار خطر حزب العدالة والتنمية على الديمقراطية والعلمانية والنموذج المجتمعي الذي أسّسه أتاتورك.
(3)
فاز حزب أردوغان و إن بنسبة أقلّ قليلا من المعتاد وظلّ فى الصّدارة رغم تأكيدات دول ومنظمات بضرورة إسقاطه بعد حملة غير مسبوقة من الحلفاء وأعداء الدّاخل والخارج، ولقد تنفّس الإسلاميون الصّعداء بعد هذا، خاصة الذين يتحمّسون للتّجربة التّركية ويتّخذون منها نموذجا للاحتذاء. ولم يكن هذا الحماس إلاّ ردّ فعل طبيعي تجاه تجربة ناجحة استطاعت أن تؤمّن انتقالا سلميّا للسّلطة وحرّية في الرّأي والتعبير وتغييرا غير مسبوق فى حياة النّاس اجتماعيا وسياسيّا ونفسيّا واقتصاديّا، تغييرا نال كلّ جوانب الحياة تحت عباءة الإسلام فى دولة جرى اقتيادها إلى مربع العلمانية المتطرّفة فى عدائها للدّين والمتديّين حتى كادت تتحوّل إلى نموذج، بل أنّ البورقيبيّة مثلا اتّخذتها نموذجا بالفعل وكاد بورقيبة أن يدّعى وراثة كمال أتاتورك.
ليس الإسلاميّون وحدهم من استبشر بهذا الفوز بل عامّة النّاس الذين ينشدون استقرارا سياسيّا واجتماعيّا في كنف الأمن والعدل والتنمية والحرية، ولئن كان بعض النّخبة يعتقد أن الايديولوجيا وحدها تمثّل المعيار الأول في الحكم على حزب دون آخر، فقد أخطأ هؤلاء مرّتين مرّة باتخاذ هذا المعيار معيارا أوحدا ومرّة بمحاولة التّعالي عن تاريخ الشّعوب وعقيدتها وإرادتها والاعتقاد وهما بأنّها شعوب قاصرة عن الفهم والإدراك فهي مخدوعة تختار دون وعي ولذلك توهم هؤلاء أنّ الشّعب التّركي سوف يفيق من سباته وينتبه طول خداعه ويعود إلى رشده فيسقط الإسلامييّن وحزبهم ليعود إلى حضنه الطبيعي من اللاّئكية والعلمانية ووهم الحداثة غير عابئين بكلّ ما أنجز على مدى أكثر من عشريّة من الزّمن. 
(4)
قد يجد المرء وجاهة في خوف النّاس من نزوع «أردوغان» نحو الهيمنة أو التّشبث بالسّلطة أي التّحول الى دكتاتور وليس مهمّا إن كان عدد هؤلاء الخائفين قليلا أو كثيرا بل إنّ هذا الخوف قد يكون ضرورة ومدعاة للحذر الدّائم فلا الحزب ولا رئيسه من الملائكة  ولكن هذا الخوف لا يمكن أن يكون مدعاة للتّآمر أو التّحالف مع أعداء التّجربة كلّها بنيّة إسقاطها وهو ما سيفضي في النّهاية إلى مغامرة خطيرة ودكتاتورية تذكر الأتراك وغيرهم بالماضي القريب والبعيد حين كانوا في ظنك من العيش في أمرهم كلّه حياة وسياسة وثقافة .
لا يحتاج المراقب أن يكون عبقريّا حتى يدرك الفرق بين التّنافس السّلمي حول البرامج وبين القول بوجوب إسقاط التّجربة ونعتها بأبشع النعوت، وما التّأكيد المتواصل من نخبنا المتشضّية والغارقة في مستنقعات العداء الايديولوجي على وضع الإسلاميين جميعا في سلال الإرهاب والتآمر عليهم والتحالف ضدّهم مع الشّيطان نفسه إلاّ صورة أخرى من صور الاستعلاء والغباء والحقد الذي سيتحوّل إلى نار تأكل الأخضر واليابس.
(5)
تراجع حزب العدالة والتنمية وهذا أمر طبيعي ويمكن تحليل أسبابه واستخلاص نتائجه محليّا وإقليميّا ولكن غير الطّبيعي أن يكون هذا التّراجع مقدّمة لحرب ضروس لا هوادة فيها لهدم البيت على من فيه نكاية في ساكنيه الذين اختاروا إسلاميين لقيادتهم. وإذ نرى ما يحدث في ليبيا وفي مصر وفى تونس وفى غيرها فلا نكاد نتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود فى مقولات نخبة تدّعي الإيمان بالديمقراطية والحقّ في المشاركة والتّعبير وتجاهر بعدائها المقيت للإسلاميّين وتشحذ سيوف الذّبح في كلّ حين متناسية أنّ ذلك سوف يؤدّي إلى ذبح الأوطان بدل إحيائها .
(الهوامش)
(1) هذا ما فعله الجيش التركي سنة 1960عندما قام رئيس الوزراء المنتخب ديمقراطيا باغلبية ساحقة «عدنان مندريس» باعادة الأذان باللّغة العربية ثم قام بأداء فريضة الحجّ سرّا بعد زيارة لمنطقة الخليج ..فحكمت محكمة عسكريّة تركية بإعدامه بتهمة السعي لإنشاء دولة دينية!!
 .------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com