الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
الإنسان والسماء - الجزء الرابع - إسهامات الحضارة العربية الإسلامية
 أهم ما طبع في ذاكرتي من تلك المقدّمة التي بدأ بها الأستاذ في الدّرس الافتتاحي لمادّة الجيوفيزياء عام 1983 بجامعة باريس 6 وذلك في إطار التّحضير لنيل شهادة في الدّراسات المعمّقة لمادّة الجيوفيزياء هو قفزه مباشرة من الحضارة اليونانية إلى القرن الخامس عشر وهو يقدّم بسطة عن تاريخ العلوم دون أن يشير إلى ما قدّمته الحضارة الإسلاميّة طيلة وجودها والذي استمر لمئات السّنين. و قد فوجئت حقيقة من ذلك الموقف الذي بدا لي غير علمي ولا موضوعي في عاصمة من المفترض أن تكون عالميّة للعلم والبحث العلمي. ففي فرنسا مثلا كانت الفكرة السّائدة إلى منتصف القرن العشرين تقول أنّ كلّ ما فعله العرب انحصر في نقل ما أنتجه اليونانيون إلى اللّغة العربيّة والاكتفاء بالمحافظة عليه. و لم تقع الإشارة إلى الفلك العربي إلاّ عام 1997 عندما أصدر الكاتب Jean –Pierre Verdet  مؤلّفا في سلسلة Que Sais-Je  عنوانه «تاريخ الفلك القديم والكلاسيكي». ولكن وبفضل المؤرّخين الجدد بدأت عمليّة إسعاف الحضارة العربيّة الإسلاميّة حيث اكتشف هؤلاء أنّ العرب وبداية من القرن 7 ميلادي لم يكتفوا بجمع المعارف التي جاء بها من قبلهم من الإغريق والفرس والهنود وغيرهم، بل ساهموا في تعميق تلك المعارف وإثرائها والتأسيس الحقيقي للمنهج العلمي الذي يمارس الآن على المستوى العالمي. لقد قال «محمد إقبال» في كتابه (تجديد الفكر الدّيني في الإسلام ) ما يلي « لقد كانت أوروبا بطيئة نوعا ما في إدراك الأصل الإسلامي لمنهجها العلمي، وأخيرا جاء الاعتراف بهذه الحقيقة. يقول «بريفولت » (Briffault) في كتابه «بناء الإنسانية» (Making of Humanity) :  «إنّ روجر بيكون درس اللّغة العربيّة والعلم العربي والعلوم العربيّة في مدرسة أكسفورد على خلفاء معلّميه العرب في الأندلس. وليس لروجر بيكون ولا لسميه الذي جاء بعده الحقّ في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي. فلم يكن روجر بيكون إلا رسولا من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوروبا المسيحية، وهو لم يملّ قطّ من التّصريح بأنّ تعلم معاصريه للّغة العربيّة وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقّ. والمناقشات التي دارت حول واضعي المنهج التّجريبي هي طرف من التّحريف الهائل لأصول الحضارة الأوروبية. و قد كان منهج العرب التّجريبي في عصر بيكون قد انتشر انتشارا واسعا، و انكب الناس، في لهف، على تحصيله في ربوعنا» (1).
 
أسباب اهتمام المسلمين بالفلك
يمثل القرآن الكريم الكتاب المؤسس للحضارة الإسلامية. «جرّد القرآن قوى الطّبيعة من الصّبغة الإلهية التي أضفتها عليها الثّقافات الأولى» كما قال إقبال وقرّر أنّ كلّ شيء هالك إلاّ وجهه وأنّ السّماوات و الأرض مسخّرة للإنسان وأنّ الإنسان هو خليفته في الأرض ليعمرها. ولانجاز تلك المهمّة حرّر القرآن العقل من كلّ الأوهام وحثّ الإنسان للنّظر في الأفاق وفي الأنفس حتى يستطيع القيام بمهمة التّعمير التي لا يمكن أن تتمّ إلّا بالمعرفة الصّحيحة وليس بالجهل في إطار من التّناغم مع الطّبيعة باعتبار أنّ الكلّ من خلق الله. فلا معنى للتّسخير إذا لم يستطع الإنسان اكتشاف القوانين التي تتحكّم في الظّواهر سواء في الأرض أو في السّماوات والتي من المنطقي أن تكون واحدة وإلاّ فلا معنى للتّسخير والله لا يقول عبثا سبحانه.
 إنّ الآيات القرآنيّــة الحاثّــة على التّأمل فــي السّمــاوات والأرض وما فيها عديــدة جــدّا. لذلك اعتبر المسلمــون دراسة السّماء تقرّبا إلى الله وتعبّدا وتأمّلا في  قدرات الذّات الإلهيّة وحكمتها. وإضافة إلى ذلك الدّافــع العقائدي الذي تأسّس عليه المنهج العلمي القائم على النّظر والاستقراء وطلب البرهان في التّعامل مع السّماء والأرض (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)(2)، فقد كانت هنــاك حاجة ملحّة لتطوير جوانب عمليّة تتعلّق سواء بمتطلبات القّيام بالشّعائر الدّينية أو بجوانب أخرى تتّصل بالنّمو المتزايد في التّوسع الجغرافي للمسلمين. فمواقيت الصّلاة وموسم الحـــج وشهر الصّيام وآجال الزّكاة كلّها تتطلّب معرفة دقيقــة بالوقــت والزّمن أي بحركة الشّمس والقمر وما تبديــه السّمـــاء على مدار السّنة. كما أنّ اتّســاع الرّقعة الجغرافيّة وما تقتضيه من معرفة المسافات واتجاه القبلة ومواقع المـــدن كلّ ذالك دفع المسلميـــن إلى تطوير معارفهــم الفلكيّة في اطار ما كان يسمّى بعلم الهيئـــة. فبالنّجـــوم كان الاهتـــداء في التّرحال. ألم يقل الله تعالى «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَـــدُواْ بِهَــا فِي ظُلُمَاتِ الْبَـــرِّ وَالْبَحْـــرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ » (3). أليست هذه الآية دعــوة صريحــة للنّظر في النجوم بمعنى دراسة هيئتها للاستعانة بها في التّنقــل؟ فكيف يمكن ذلك إن لم يطوّر المسلمــون معارفهم بالسّمـــاء؟ 
بداية ازدهار المراصد الفلكيّة
عندما اعتلى المأمون منصب الخليفة من سنة 813م إلى سنة 833 م كانت الخلافة العبّاسية في أوجها. خصّص المأمون ميزانية ضخمة للتّرجمة نظرا لما يحتاجه برنامجه العلمي الطّموح من استيعاب كامل للمعارف السّابقة. طوّر في عهده العلماء جغرافيا رياضياتيّة موضوعها النّجوم حركة ومواقع،  لتمكين الخليفة من قياس المساحات الكبيرة للخلافة ومعرفة المسافات بين مدنها وعواصمها وانجاز جداول دقيقة لمواقيت الصّلاة وغيرها من الشعائر .  
أسّس المأمون مرصدان :الأول في بغداد عام 827 والثاني في دمشق عام  828 م. يعتبر المرصدان باكورة عمل ضخم من بناء وتطوير المراصد الفلكية وما تحتويه من أجهزة وآلات تستخدم في عمليات الرّصد. ومن أهمّها مرصد «مراغة في إيران» الذي بدأ بناؤه عام 1259 حيث بلغت دقّة الأرصاد فيه درجة لم تعادلها إلاّ المشاهدات الفلكيّة التي أجريت باستعمال المنظار الفلكي.
ورغم أنّ الدّوافع الأولى لنشأة النّشاط الفلكي كانت عمليّة مرتبطة أساسا بمتطلبات دينيّة أي ضبط مواقيت وآجال ممارسة الشعائر إلاّ أنّه سرعان ما أخذ النّشاط منعرجا حاسما باتجاه تطويرعلم فلك نظري يعتمد منهجيا على نتائج الرّصد خلافا لمنهج بطليموس ويعنى بالتّصورات للهيئة التي يمكن أن يكون عليها الكون. 
أول مؤلف فلكي
يمثل المؤلف (زيج السند هند) أول أثر فلكي عربي كتبه أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي (781م – 847م) وهو رياضي و عالم فلك و جغرافي. يتألف هذا العمل من 37 فصلا حول حسابات فلكية و حسابات تقويم. كما احتوى على جداول لحركات الشّمس والقمر والكواكب الخمس المعروفة حينها وهي عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل. ترك الخوارزمي العديد من المؤلفات الأخرى « من أهمّها كتاب الجبر والمقابلة الذي يعد أهمّ كتبه وقد ترجم الكتاب إلى اللّغة اللاّتينية  في سنة 1135م  وقد دخلت على إثر ذلك كلمات مثل الجبر Algebra والصّفر Zero إلى اللّغات اللاّتينية». وقد ولاّه الخليفة المأمون بيت الحكمة وعهد إليه رسم خريطة للأرض التي أنجزت في إطار عمل جماعي تطلّب عشرات المتدخّلين. 
تعريب كتاب بطليموس « ماثماتيكا سينتاكسيس أي الأطروحة الرياضية»
عرب كتاب بطليموس حوالي سنة 827 م المعروف أكثر الآن بالمجسطي من طرف حنين بن إسحاق ألعبادي (810 – 173 م). يتكون المؤلف من 13 جزءا أنجزوا سنة 148 م بالإسكندرية. بنــــــــى بطليمــــوس نموذجا هندسيّا لتفسير الحركات الظاهريّــــة للأجرام السّماويــــــة. يعتمد النّمــــــــــــوذج على تصوّرات أساسيّة ثلاثــــــــــة : للأرض وللفضاء شكلا كرويا، تستقرّ الأرض في مركز العالم وتتحرّك الأجرام في دوائر وبسرعات ثابتة. وقد تصوّر بطليموس أنّ الحركة الغير منتظمة لبعض الكواكب يمكن أن تفسّر باعتماد إنشاءات هندسيّة تبنى على أساس مدار كبير حول الأرض ومدارات صغرى عديدة تخضع لها الأجرام (4).
ترييض الفلك
بدأت المقاربة التي تعتمد الاختبار والتي استعملها  بطليموس تتلاشى تدريجيا بداية من القرن التاسع لحساب مقاربة أكثر علمية معتمدة على أدوات رياضياتيّة. لقد انطلقت فعلا عمليّة غير مسبوقة لكتابة السّماء بلغة الرياضيات الدقيقة ويعتبر  حساب المثلثات الكروية أهم أساس نظري لوصف الفلك الكروي.
الهوامش
(1) محمد إقبال، تجديد الفكر الدّيني في الإسلام ص136.
(2) سورة البقرة الآية 111، سورة النمل الآية 64.
(3) سورة الأنعام الآية 97.
(4) لمزيد من التوسع انظر مقالنا الصادر بالعدد 83 من مجلّة الإصلاح
-----
-  دكتور  بالجامعة التونسية
ghorbel_nabil@yahoo.fr