في الصميم

بقلم
عبدالسميع نصري
بين ثقافة الرحمة وثقافة البؤس تضيع القيم وتنتحر الأمم
 أردّت أن أحوم في أجواء الفساد في مجتمعاتنا، بحثا عن نفق ينبعث منه نور من الأمل، وأخترت أن أبدأ الحديث حول أثار غياب الرّحمة في الثّقافة الغالبة على مجتمعاتنا، بلمحة عن وضع ذوي الاحتياجات الخاصّة في ثقافتنا، التي تحيلهم إلى مسخرة يلهو بها الأطفال والشّباب، وربّما إلى مثار للشّفقة في أفضل الأحوال. وأتذكر أنّ شابّا من فئة ذوي الاحتياجات الخاصّة في بلد عربيّ، أطلق عليه النّاس صفة القرد، وكان كلّما مرّ بحيّ طاردوه وأحالوا حياته إلى جحيم. في المقابل يضع بلد مثل النرويج على ذمّة شخص مماثل ميزانيّة هائلة ومنزلا مستقلاّ وطاقما كاملا من المختصّين ومن المدرّبين وأعوان الصّحة، مهمّتهم توفير العيش الكريم لهذا الشّخص، وتتّخذ من أجل حمايته وحماية ذوي الاحتياجات الخاصة قوانين، تكفل حقوقهم. ويشترط أن يطّلع عليها الجميع، ولعلّ من أهمّهما هو حقّ المعني في تقرير ما يناسبه من أنشطة ومأكولات. حتّى أولائك الذين لا يتكلّمون وربّما لا يفهمون، توضع الخيارات أمامهم ليختاروا بأنفسهم ما يناسبهم. وهذا ما دفعني للمقارنة بين واقعين والتّساؤل عمّا إذا كان في ثقافة التّخلف والبؤس رحمة، وهو ما يذكّرنا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم: « من لا يرحم لا يُرحم». وهذه قاعدة تختزل واقع المسلمين الذي يسوده سواد القلوب ويشذّ فيه سلوك الرّحمة، وتقوم فيه المعاملة بين المسلمين على قاعدة «ولتعلمنّ أّينا أشدّ عذابا وأبقى». وما من شكّ أنّ المجزرة التي وقعت في رابعة في حقّ أبرياء كانوا يعبّرون عن رأيهم بكل سلميّة ومدنيّة، هي ترجمان لخواء القلوب من الرّحمة، إلى حدّ مطالبة البعض بالمزيد من القتل، حتّى يرهب من خالفه الرّأي. وليت الأمر توقّف عند هذا الحدّ، فقد كشفت الفتن في كلّ من الشّام، ومصر والعراق عن أقوام لا ينتمون لعالم البشر، في سلوكهم وما تكنّ صدورهم من حقد لمن هم في حكم الإخوة، استنادا لما ورد في القرآن الكريم: «إنّما المؤمنون إخوة». فقد شاهد العالم عبر مواقع التّواصل الاجتماعي، كيف تقوم مجموعة من الشّيعة في العراق بصلي مسلم سنّي على النّار وهو حيّ، وسمعنا بعمليّات الاغتصاب الواسعة التي تشرف عليها المليشيات الشّيعية في أبو غريب، ورأينا كيف يوضع السّني في حفرة ويقبر حيّا لأنّه لم يشهد بألوهيّة بشّار الأسد. والأعجب من ذلك أن يخرج محام في إحدى القنوات المصريّة لا ليطالب بقتل الإخوان فحسب بل بحرق جثثهم نكاية فيهم وفي ذويهم، حتّى أنّ مقدمة البرنامج نفسها ذهلت ممّا يكنّه هذا الكائن من حقد لمن يختلف معهم في الرأي، هذا وهو محام، ومهمّته الدّفاع عن المتّهم وحقوقه الأساسيّة مهما كان لونه أو دينه أو جنسه أو انتماؤه الفكري.
هذه عينات ليست نشازا بقدر ما هي مؤشّر لظاهرة تنبت أخلاقا يغلب عليها الوحشيّة، والكراهيّة، وحبّ الانتقام والثّورة على كل فضيلة. تلك هي مخرجات ثقافة الطّبقية الاجتماعية، التي تعلمها النّشء في أحياء يغلب عليها الفقر وغياب الأخلاق، وفي أحياء أخرى تربّت فيها أجيال على الفساد وحبّ السيطرة واستسفاه الدّين، وفي أخرى وجد التّحريض الطّائفي في أجوائها السّرية منشأ لإفساد ذات البين وتخريب المجتمعات. فنشأ من ذلك أقوام يرفض قائلهم أن يتولى ابن الفقير وظيفة في النيابة العامة، لأنّه لم يخلق لها، على مذهب وزير العدل المصري السّابق. وتنشأ أجيال تتربّى على التلذّذ بقتل هرّة مارّة في الطّريق العام، على حبّ التّعذيب والتّقرب بقتل المسملين كما قال أستاذ في العقيدة، في إحدى القنوات المصريّة بأن قتل مرسي والإخوان هو يوم من أيام الله، باعتبارهم خوارج في نظره، علما وأنّ في مثله يندرج قول رسول الله في الخوارج، وهم الذّين كانوا يتقرّبون لله تعالى بقتل علي رضي الله عنه. وتنشأ أجيال تحلم بأنّ قتل سنّي يُدخل الجنّة، وأنّ قتل شيعيّ هو انتصار لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنّها عقلية تحتاج إلى تحليل نفسي حتى نفهم التّركيبة الذّهنية لهذه الأنفس، والنّسق الذي سارت فيه حتى أُخرجت لعالم الأحياء بهذه الجرأة على الجريمة، واستباحة الدّماء دون أن يحرّك ذلك فيها وازعا من ضمير أو إحساس. 
 فما الذي يدفع عون أمن أن يضــرب سجيـــن رأي حتّى المــوت وليس بينهمـــا عداوة سابقة؟ وما الذي يجعل آخــــر يغتصب امرأة متزوّجـــة أمام زوجها في مجتمـــع يدّعي أن المرأة هي عنوان الشّرف؟ ما الذي يدفـــع عون أمن أو عون حراسة إلى أن يثقب عظم سجين تحت التّعذيب بآلة حفر؟ إنّها أنماط من السّادية نشأت في مجتمعات جفّت فيها منابع الرّحمـــة إلى الحدّ الذي عادت فيه هذه النمـــاذج تفتخر بفرعونيتها وأخرى بنمرودها وثالثة بابن علقمهـــا، وأنشأت كل أمّة من هؤلاء تستحضـــر تاريخ جلاديها. 
هل لهذا من تفسير غير أننّا نعيش عصرا تعاضمت فيه الغربة عن القيم، وتعطّلت فيه العقول عن القيام بوظيفة التّمييز بين الخير والشرّ. وقد اطّلعت على كتاب بعنوان: «انتحار الغرب»، تحدّث فيه الكاتبان الأمريكيّان ريتشارد كوك وكريس سميث عن الدّوافع التي تقف وراء تراجع الإيمان بالقيم الغربيّة، وفقدان الثّقة فيها لدى المواطن الغربي نفسه، مما سيؤدّي إلى انتحار محتوم. وهذه القيم هي المسيحيّة، والتّفاؤل، والعلم، والنّمو الاقتصادي، والليبراليّة والفرديّة. ولكلّ حضارة مرجعيّات ومرتكزات قوّة، إذا تعرضت لانتكاسات داخليّة فإنّ ذلك أذان بانهيارها. 
وقد تشكلت مجتمعاتنا نحن المسلمين على قيم ثابته هي: الإسلام، والرحمة، والعلم، والتكافل وحب الخير للناس، والإيجابية، والعدل، والأخلاق والعمل والمسؤولية. وفي غياب هذه القيم تنهار المجتمعات وتسودها الفوضى. فالإسلام هو الجامع لكلّ هذه القيم وهو الجامع لهذه الأمّة، لكن حين تعصف بنا الفتن هل يبقى لوحدتنا منزع، وحين تنتزع الرّحمة من قلوبنا وتكشّر الوحشيّة فينا عن أنيابها ويصبح بأسنا بيننا شديدا، ويتحوّل المفتي إلى ذئب في حشو خروف، لا يرقب في المؤمنين إلاّ ولا ذمّة، هل يبقى للإخوة معنى؟. مع أنّ رسالة الإسلام كلّها رحمة لقوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» (الأنبياء:107). 
وحين يهان العلماء ويكرم السّفاء وتقدّم الرّاقصات ويؤخّر المبدعون فهل يبقى للعلم دور في البناء؟، في حين أنّ أوّل كلمة نزلت في القرآن الكريم، هي: «إقرأ». وحين نتعاون على الإثم والعدوان واستسهال الجرأة على الله وعلى عباده، فإنّ ذلك إيذان بخراب البلاد، وهذا ما يجري بالضّبط في مصر، والشّام، وليبيا، والعراق، واليمن وإلى حدّ ما في تونس، حيث لم يعد يلتقي النّاس حول قيم التّعاون على البرّ والتّقوى، بقدر ما تجمعهم الفئوية والمصالح بمختلف أشكالها والتحزّب المذهبي والإيديولوجي، بينما تشترى ذمم الفئام بغرض من الدنيا يسير. في ظلّ هذه المقدّمات تطغى السلبيّة والإحباط على النفوس، ولن يعد يرى النّاس إلاّ ما يدعو إلى التّشاؤم، وهكذا تعود هذه القيم غريبة كما بدأت قبل أن تتطّور لتخرج للنّاس أمّة عظيمة. 
غياب الإيجابيّة لا يعني الشّيء القليل، بقدر ما هو مسلك من مسالك الاستسلام، بل هو الاستسلام بعينه لتيار الفساد والإفساد، مع ما قد يترتّب على ذلك من وهن على جميع المستويات، وتبديد للمقدرات وإحالة الذلّ إلى ثقافة وقتل الفضيلة في المجتمع، «حتى يقال إن في بلد فلان رجلا أمينا» (متفق عليه). وليس هذا ضربا من الخيال أو مجرّد نثر نصطنعه، لكنّه الحقيقة التي تبدو للوهلة الأولى فيها شيء من التّهويل، وحين نقف على أثرها في بعض المجتمعات المسلمة ندرك أنّنا نعيش بلوى حقيقيّة، لاسيّما على مستوى المعاملات، إلى درجة أن يداخلك الشكّ أنّ في هذا البلد أو ذاك أمين أو عدالة. وعلى هذا المنوال تصبح الأخلاق عبئا في المجتمع ونتحول كلّنا حينئذ إلى ميكافيليين أحببنا أم كرهنا، حتّى ولو لم نكن كذلك، فإنّنا نجد أنفسنا مضطرّين حين تغتصب حقوقنا ونصطدم بأقوام يثخن أحدهم قتلا في المسلمين ثم يبحث له عن فتوى لدى مفتي الجاه والوجاهة. وغياب الإيجابية يعني بالضرورة تبني النظرة السوداوية للمجتمع والإضعان لها. وهذا مسلك الإمّعة الذين ساهموا في انهيار هذه الأمّة، لأنّهم قوم لا تتمعّر وجوههم دفاعا عن خلق أو حقّ.
قد يبدو المشهد معقدا إلى حدّ يبعث على الحيرة، بسبب تشابك الأمراض الاجتماعيّة فيه، لكن القرآن يختزل لنا الطّريق ليقرّ أنّ ما أصابنا هو من كسب أيدينا: «ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏» ‏ (الروم‏:41)‏، وأنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ» (الرعد:11)، وأنّ مع اليسر يسرا: «سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا»(الطلاق:7)‏. ثلاث حقائق تشخّص الدّاء وتصف الدّواء وهي قليلة في عباراتها كبيرة في معانيها. ونعود لنؤكّد أن غياب الرّحمة في مجتمعاتنا هو مدعاة لغياب الطمأنينة والخوف على المجتمع. وما ينبغي لنا نحن المسلمين إلاّ أن نكون رحماء. وحتى لا تنهار هذه القيمة الروحية والأخلاقية، علينا أن نعيد توجيه البوصلة في اتجاه يساعد على نشر ثقافة التسامح والرحمة، وأن نغذي التربية الاجتماعية بقسط من معاني الرحمة. سيحتاج التغيير إلى وقت وإلى أجيال، لكن أن نبدأ الآن ولو بالقليل خير من: «دعها تسير». فإنّ غياب الرّحمة مفسدة عظيمة، من شأنها إنهاك الأخلاق الاجتماعيّة وضرب الكلّيات الخمس، وهي حفظ الدّين، والنّفس، والعقل، والنّسل والمال، وليس بعد ذلك إلا الفتن التي لا تبقي ولاتذر.
-------
        -  كاتب تونسي - النرويج
abdessan59@gmail.com