الأولى

بقلم
فيصل العش
الانتخابات التركية ... هل انهزم أردوغان؟
 اتّجهت الأنظار يوم الأحد 7 جوان 2015 إلى تركيا أين أجريت انتخابات برلمانيّة أجمعت كل الأطراف الدّاخلية والخارجيّة بأنّها فاصلة في تاريخ البلاد ونقلة نوعيّة استراتيجيّة على مستوى الحياة السّياسية الدّاخلية والإقليميّة، نظرا للرّهانات المتعدّدة والمتناقضة التي دخلت بها مختلف القوى السّياسية التّركية المعركة الانتخابيّة وأهمّها حزب العدالة والتّنمية الذي فاز في ستّة انتخابات متعاقبة وهيمن على الحكم طيلة 13 سنة كاملة عبر أغلبيّة مريحة داخل البرلمان سمحت له في كلّ مرّة بتشكيل حكومة منفردة بعيدا عن الحكومات الائتلافيّة التي عانت منها تركيا إبان سيطرة العسكر وقبل وصول «أردوغان» وجماعته إلى سدّة الحكم.
وقد توجّه أكثر من 47 مليون ناخب للإدلاء بأصواتهم، وتوزيعها على 20 حزبا و165 مرشحا مستقلا. وأسفرت النّتائج النّهائيّة عن فوز بطعم الخسارة لحزب العدالة والتّنمية مقارنة بما كان يطمح إليه كنتيجة تسمح له بتغيير دستور البلاد وتحويل نظام الحكم إلى نظام رئاسي (الخطوة التي كانت تحتاج 367 مقعدا لتعديل الدّستور دون استفتاء، و330 مقعدا لتعديل الدّستور باستفتاء ).
لم يحصل حزب العدالة والتّنمية إلاّ على 258 مقعدا فقط (40.86 %)، فيما حصل حزب الشّعب الجمهوري على 132 مقعدا (24.96 %) وحزب الحركة القوميّة على 80 مقعدا (16.29 %)، في حين كانت المفاجأة ارتفاع أسهم حزب الشّعوب الدّيمقراطي الكردي الذي تحصّل على 13.12 % من الأصوات أهلّته للفوز بـ 80 مقعدا من مقاعد البرلمان البالغ عددها 550 مقعدا.
فما هي دلالات هذه النّتائج وما هي أسباب تراجع حزب العدالة والتّنمية وهل هي بداية نهاية حلم «أردوغان» بالقطع النّهائي مع تركة «كمال أتاتورك»؟ وأي السّيناريوهات المستقبليّة الممكنة للحياة السّياسية في تركيا؟
عليّ وعلى أعدائي
إنّ المتتبّع بعمق للواقع السّياسي التّركي يلاحظ أنّ حزب العدالة والتّنمية يعمل ضمن استراتيجيّة واضحة المعالم تقوم على إحداث تغييرات عميقة وإصلاحات سياسيّة وقضائيّة واجتماعيّة كبرى تهدف إلى القطع النّهائي مع الإرث الأتاتوركي المتمثّل في دولة يرتكز كيانها السّياسي على «القومية» وليس على «الهويّة» في مجتمع متعدّد الأعراق وهو ما  أدّى إلى استنزاف الدّولة داخليا على جبهات متعدّدة أهمّها الجبهة الكرديّة. ولأنّ الدّولة المركزيّة القويّة تتطلّب وجود مؤسّسة دستوريّة تحفظ الاستقـــرار وتصنع القرار، وبعد تحجيم دور المؤسّســــة العسكريّة التي كانت تقوم بهذا الدّور، فإنّ حزب العدالة والتّنمية يسعى إلى تعويضها بمؤسّسة الرّئاسة وهو ما يعني تغيير النّظام السّياسي إلى نظام رئاسي يضمن الاستقرار ويجنّب البلاد هشاشة النظام البرلماني خاصّة في غياب أحزاب قويّة ذات جماهيريّة واسعة.
ولقد دفع هذا التّوجه بقيّة القوى في البلاد إلى خوض معركة شرسة مع حزب العدالة، وسعت بشتّى الطّرق إلى منعه من تحقيق النّتائج التي يطمح إليها في الانتخابات. فلم تبحث جميع الأحزاب على الفوز بالانتخابات لأنّها تعرف حجمها الحقيقي، بل بحثت عن سبل تحجيم قوّة حزب العدالة والتّنمية ولهذا عملت بالمثل القائل «علي وعلى أعدائي» فدخل الجميع في تحالف غير مباشر لخدمة حزب الشّعوب الديمقراطي الكردي رغم اختلاف المشاريع بينهم كلّيا ودفعه نحو تجاوز عتبة  10 % ليتمكّن من دخول البرلمان والحصول على مقاعد كانت ستذهب إلى العدالة والتّنمية نتيجة طبيعة النّظام الانتخابي التّركي. وهكذا تمّ استخدام الأكراد من خلال حزب الشعوب كأداة لسحب عدد من المقاعد من حزب العدالة والتّنمية ليس أكثر..
أسباب تراجع حزب العدالة والتّنمية
من بين أسباب تراجع نتائج الرئيس «رجب طيب أردوغان» نذكر:
* حملة الإشاعات والتّلفيق الشّرسة التي قامت بها المعارضة بمساندة وسائل الإعلام والقوى الأجنبيّة لتخويف النّاخب التّركي من نوايا حزب العدالة والتّنمية، فقد ركّزت هذه الحملة على أنّ الرّئيس التّركى انحرف عن المسار الدّيمقراطى منذ فترة طويلة، وحجّم دور المعارضة السّياسية وعزّز سلطاته وهو يطمح عبر كسبه للانتخابات البرلمانيّة إلى تعديل الدّستور لتعزيز سلطته فى منصب الرّئاسة.
 وأطنبت قوى المعارضة وووسائل الإعلام المساندة لها في وصف ما قام به «أردوغان» خلال الفترة الماضية من سعي لإسكات المعارضة السّياسية وفرض للرّقابة على مواقع التّواصل الاجتماعى وبناء قصر رئاسيّ فخم كتعبيرات خطيرة عن الفكر الديكتاتوري الذي يعشّش في ذهنه وعن طموحاته الشّخصية المبالغ فيها. 
* المصاعب المفتعلة التي واجهتها الحكومة التّركية منذ العام 2013 والتي كبّدت البلاد خسائر بشريّة ومادّية كبيرة، كان وراءها أطراف معارضة وبعض القوى الإستخباراتيّة الغربيّة والعربية وميليشياتهاالدّاخلية، والتي أثّرت في الاستقرار الأمني والاقتصادي للبلاد منها محاولة الانقلاب (17 و25 كتوبر 2013)، وأحداث الشّغب بدعوى التّضامن مع أحداث بلدة كوباني (عين العرب) السّورية ( 6 – 8 أكتوبر 2014) وتعثّر المصالحة الوطنية مع الأكراد وأخيرا عمليّة احتجاز قاضي كرهينة يوم الثلاثاء 31 مارس 2015 التي نفّذتها مجموعة يسارية متشدّدة، التي انتهت بمقتل القاضي وناشطين كانا يحتجزانه.
* الصّراع الخفيّ تارة والمعلن تارة أخرى بين حزب العدالة والتّنمية وحليفه السّابق حركة «خدمة التّركية» للدّاعية التّركي «فتح الله كولِن» الذي يترأس شبكة ضخمة غير رسميّة من المدارس والمراكز البحثيّة والشّركات ووسائل الإعلام في خمس قارات. وهي حركة تحظى بسمعة حسنة في الولايات المتَّحدة الأمريكيّة ولها مؤاخذات عديدة على سياسة «أردوغان» المتعلّقة بالمسألة الكرديّة والنّاقدة لإسرائيل. وتعود أسباب هذا الصّراع إلى محاولة الحركة توسيع نفوذها داخل أجهزة الدّولة وربّما أكثر بكثير ممّا سمحت لها به الحكومة. أعضاء الحركة متغلّغلون في جميع المراكز الحسّاسة في الدّولة بما فيها الأمن والقضاء ويتّبعون سياسة تهدف في المقام الأول إلى إضعاف الحكومة وزعزعة استقرارها من خلال الكشف عن قضايا الفساد في محيط أسر بعض وزراء حزب العدالة والتّنمية.
* تغيّر موقف «الإسلاميّين الأكراد» وعائلات كرديّة كبيرة حيث أداروا ظهورهم لحزب العدالة والتّنمية واتّجهوا نحو حزب الشّعوب الدّيمقراطي لعدّة أسباب أهمّها تقديمهم الهويّة الكرديّة على سواها من الاعتبارات (كانت هذه الانتخابات «تصويتاً للهويّة» بامتياز)، وعدم الرّضا عن قوائم مرشّحي العدالة والتّنمية في المناطق الكرديّة والغضب من بعض مواقف وتصريحات «أردوغان» وحملته الأخيرة على زعيم حزب الشّعوب الدّيمقراطي صلاح الدين دمرداش ووصفه بأنّه «صبي تافه» يشكّل مجرد واجهة لحزب العمّال الكردستاني المتمرّد. هذا التّغيير في موقف الأكراد أثّر بصفة واضحة في تدنّي نتائج حزب العدالة والتّنمية مقارنة بالإنتخابات السّابقة التي استطاع فيها كسب دعم جزء كبير من النّاخبين الأكراد من جنوب شرق البلاد، وهو ما يفسّر أيضا صعود أسهم حزب الشّعوب الكردي وحصوله على نتيجة لم يكن أكثر الأكراد تفاؤلاً يتوقّعها.
* الدّور الكبير الذي لعبته تركيا إقليميّا خلال الفترة الأخيرة سواء في مساندتها المطلقة لسكّان غزّة وتصادمها مع حليفها السّابق الكيان الصّهيوني أو في دعمها لجماعات المعارضة المسلّحة في سوريا ورفضها الاعتراف بشرعيّة السّيسي في حكم مصر. هذا الدّور لم يرق للعديد من القوى الإقليميّة والدّولية، فعملت على تشويه صورة زعيم الحزب «أردوغان» وبثّ الأخبار الزائفة وخلق القلاقل وزعزعة استقرار تركيا قصد خلق مخاوف لدى النّاخب التّركي من استمرار انفراد حزب العدالة والتّنمية بالحكم. ويكفي أن نقوم بإطلالة سريعة على عناوين وسائل الإعلام الإسرائيليّة والمصريّة والسّورية لنلاحظ مقدار الفرحة والابتهاج نتيجة تقلّص حجم حزب العدالة انتخابيا. فقد قامت وسائل الإعلام الصهيونيّة بتضخيم تراجع حزب الرّئيس «رجب طيب أردوغان» في الانتخابات وتصويره على أنّه سقوط مدوّ وصدّرت الصّحف افتتاحياتها بعناوين شامتة بأردوغان وحزبه، عازية خسارته إلى عدائه للكيان وتصريحاته التّحريضيّة ضدّ إسرائيل. صحيفة «إسرائيل اليوم» كتبت بالعنوان العريض «أردوغان لن يكون السّلطان»، واعتبرت هجماته اللاّسامية على اليهود سببا في تراجع حزبه بشكل كبير. وذكّرت بمواقــــف أردوغان خـــلال العدوان الأخير على قطاع غزة والتي قال فيها إنّ بربرية الكيان فاقت إجرام هتلر. أمّا صحيفة «معاريف» التي اعتبرت الانتخابات التركيــّـــــة بالدّيمقراطية الفاشلة لأنّها لم تنجح في الإطاحة بأردوغان بشكل كامل، فقد امتدحت النّاخبين الأتراك وقالت إنّهم أوقفوا أردوغان عند حدّه، ووقفوا سدّا منيعا أمام طموحاته العثمانيّة وسياساته الإرهابيّة.
السّناريوهات الممكنة 
ليس هناك شكّ في تقديرنا أنّ تركيا ذاهبة إلى إجراء انتخابات مبكّرة سواء بعد الـ 45 يوما القادمة (في حالة فشل حزب العدالة في تشكيل حكومة ائتلافيّة) أو بعد عام على أقصى تقدير لأنّ أي حكومة ستتسلّم المشعل لن تكون في القوّة التي تستطيع بها تسيير دواليب الدّولة. وسيحاول «داود أوغلو» ومن معه تحميل المسؤوليّة لأحزاب المعارضة وإقناع النّاخبين بخطئهم حين قرّروا عدم منح الأغلبيّة لحزب العدالة ليواصل مسيرته التي رسمها لتركيا. 
ويمكن أن يساهم العداء المشترك لحزب العدالة والتّنمية بين الأحزاب الثّلاثة الخاسرة في الانتخابات في تشكيل «حلف الخاسرين» كما يقال لإقصاء العدالة والتّنمية، ليتحوّل الحزب إلى المعارضة لأول مرّة في تاريخه. لكن يبدو أن مثل هذا التّحالف -إن حدث- لن يستمر طويلاً ولن يجلب استقراراً للحياة السّياسية التّركية بسبب الاختلاف الكبير في التوجّهات الفكرية والمواقف من القضايا المصيريّة وستنتهي التجربة بفشل الحكومة وإجراء انتخابات سابقة لأوانها. 
يخطئ من يعتقد أن حزب العدالة يواجه تحدّيا حقيقيّا في تشكيل حكومة ائتلافية، خاصّة مع رفض الأحزاب الممثّلة في البرلمان الدّخول في تحالف معه، لكن حسابات المرحلة والمصالح السّياسية قد تدفع أحد أحزاب المعارضة الثّلاثة للتّراجع عن هذا الرّفض وسيحاول كلّ منها الاستفادة من الوضع وقبول الائتلاف بشروط مرتفع سقفها. لكنّ «داود أوغلو» سيطرق أبواب هذه الأحزاب من موقع القوّة وليس من موقع المستجدي وهو شاهر سلاح الأزمة الاقتصاديّة التي بدأت بوادرها تلوح في الأفق مباشرة بعد الإعلان عن النتائج وسلاح اللّجوء للانتخابات المبكّرة الذي يمتلكه رئيس الدّولة «أردوغان» وفق الدّستور التركي والذي قد يضرّ خاصّة بحزب الشّعوب الكردي الذي لا ضمان له لتكرار الفوز الذي حقّقه هذه المرّة في حالة إجراء انتخابات جديدة مبكّرة.
من يدري ... لعلّ الانحدار النّسبي لحزب العدالة والتّنمية سيجعل «أردوغان» و«أوغلو» وصحبهم يراجعون بعضا من تمشّيهم ويقتنعون أنّ الوقت لم يحن بعد لإعلان وفاة «كمال أتاتورك»، فمازال في جعبة العلمانييّن والقوى الدّولية المتحالفة معهم وسائل وطرق لمقاومة طموحات «العثمانيين الجدد».  
-----
- مدير المجلّة
faycalelleuch@gmail.com