قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
متى نستفيق؟
 (1)
يذهب الكثير من المحلّلين والسّياسيين إلى نظريّة المؤامرة في تفسير ما يحدث في الوطن العربي من مآسي ونزاعات وحروب تتوالد بلا توقّف، وهم في ذلك محقّون بلا شكّ إذ أنّ التّآمر على شعوبنا العربيّة والاسلاميّة قد بدأ منذ زمن بعيد أي إلى ما قبل الحروب الصّليبية. وكتب التاريخ لا تخلوا من أخبار ما عاناه العرب والمسلمون من آثار نزاعاتهم المتكرّرة في سبيل الدّفاع عن أوطانهم وأعراضهم وحتي عن وجودهم، وقد شهدت حقبة الاستعمار فضاعات مازال بعض الأحياء يذكرونها بألم، وأبلغ مثال على هذه  المآسي الكبرى ما حدث ويحدث في فلسطين حيث تآمر الغرب والشّرق على شعب أعزل ليقتلعه من أرضه ويهدّده في وجوده ويتسبّب له في مأساة هي بلا شكّ مأساة القرن. ولكن هل تكفي نظريّة المؤامرة لتفسير ما حدث وما يحدث لنا خاصّة مع ازدياد الأوضاع سوءا بين حين وحين؟
(2)
«نعيب زماننا والعيب فينا» وهذا قول مشهور في الدّفع بمسؤوليتنا نحن في ما نعانيه من مآسي وهو ما يذهب إليه الرّافضون لنظريّة المؤامرة أو المقلّلون من شأنها وحجّتهم في ذلك أنّ ما ننتجه نحن من أسباب التّخلف والانحدار أكثر ممّا يحيكه لنا أعداؤنا وأنّه لولا قابليتنا نحن للاستبداد وتسليمنا العنان بسهولة لكل من يقودنا بدون تفكير في المآلات لما تورّطنا كلّ هذه الورطة حتى ضاق علينا الخناق ولم نعد نجد مخرجا لما نحن فيه. ألسنا نحن من كنّا نقول «الله ينصر من صبح» وكأنّ الذي أصبح حاكما لم يصبح موكلا بمصائرنا؟ ألسنا نحن من انقسمنا بين مؤيّد لثقافة الاستعمار ومنافح عنها وبين مقاوم لها وداع لمواجهتها حتى لا نتحوّل إلى ملحقين بالمستعمر ثم كانت الغلبة للغة الاستعمار وثقافته وقيمه؟ وهل غلبت تلك الثّقافة من نفسها أم اتّخذناها نحن من أنفسنا اقتداء واهتداء؟
لقد قاومت شعوبنا منذ القدم كلّ حملات الغزو المباشر، ولمّا ابتليت بالاستعمار أبلت في مقاومته بلاء عظيما ودفعت في سبيل ذلك عددا من الشّهداء بلغ المليون في بلد مثل الجزائر، ولكنّ هذه الشّعوب لم تستطع الحفاظ على جذوة المقاومة المتّقدة وما لبثت أن أسلمت عنانها لأنظمة حكمتها بالحديد والنّار حتّى كادت تنجح في ما أخفق فيه الاستعمار من إذلال لهذه الشّعوب وتحويلها الى حقول تجارب جرّبت عليها كل أشكال العسف والظلم والإلحاق الحضاري والفكري من دون أن تستطيع هذه الشّعوب الخروج من براثن التّخلف، فهي من أزمة إلى أزمة أخرى أشدّ وانتهى الحال ببعضها إلى حرب أهليّة ودمار منقطع النّظير، فمن أين أتتنا كلّ هذه الاستكانة ومن أين جئنا بكل هذا الغباء الذي يجعلنا لا نتردّد في هدم البيت على من فيه؟
(3)
من يطرح نظريّة المؤامرة لا يعدم الحجج في بيان حجم التّآمر الواقع على أمّتنا من النّهر إلى النهر - كما يقال - مع تفاوت نسب التّآمر. ومن هؤلاء من يذهب حدّ التأكيد بأنّ القادم مما تخبئه لنا الأيّام أسوء ممّا مرّ علينا ويستدلّون على ذلك بنظريتي الفوضي الخلاّقة والفوضي الهدّامة وكلاهما سوف تؤدّيان بنا إلى حروب مدمّرة وتفتيت عارم تعقبه دويلات طائفية ومذهبية وعرقيّة لا أمل لها في العيش دون وصاية تامّة من الغرب الأوروبّي المتآمر. ومن هؤلاء من يرى الحروب القادمة على أرضنا حروبا لا مناص منها  إذ لا مفرّ من حرب بين الشّيعة والسّنة وأخرى بين اليمين واليسار وثالثة بين المسيحيّين والمسلمين وبين الأكراد والعرب وغيرها من الحروب بين أنظمة مستبّدة وشعوب بلغ بها السّيل الزّبي. وسوف تكون كلّ هذه الحروب آية في خراب العمران ودلالة علي حجم المؤامرة الغربيّة علينا من حيث كوننا لن نكون أكثر من بيادق يحرّكها هو جهلا منّا قاتلين ومقتولين.
(4)
كان منتهى أملنا أن ندحر الاستعمار وأن نبني دولة وطنيّة تتيح لنا جميعا فرصة في العيش الكريم، ولأنّنا لم ندرك المبتغى بفعل تسلّط الاستبداد علينا وضعفنا الحضاري، فإنّ علينا الاعتراف بمدى عجزنا نحن عجزا لم يدع ناحية من نواحي حياتنا إلاّ أصابها، هكذا يقول أصحاب الرّأي القائل بمسؤوليتنا نحن عن تخلّفنا وانحدارنا المستمر. نحن لم نفلح في بناء إنسان قادر على صنع نموذج حضاري فاعل من جميع الوجوه، فنحن المسؤولون بسكوتنا ولا مبالاتنا وانتقادنا عن نموّ شجرة الاستبداد ورعايتها حتى وصل بنا الأمر إلى ما يشبه عبادة الأفراد واتّخاذهم آلهة من دون الله. ونحن لم نفلح في بناء نموذجنا الثّقافي الذي يمكن أن يكون أداة فعّالة فى صنع إنسان مقاوم وقادر على البناء لا إنسان متواكل غرائزيّ لا يكترث بما وراء الأكمّة من داسّين ومندسّين أو إنسان ملحق حضاريّا بأعدائنا لا يتوانى في حرق الوطن ظنّا منه أنّ الحياة في ما حيي به أسياده وإن ادّعى الاستقلالية والحياد.
  (5)
هل نخرج يوما من ثنائيّة المؤامرة والانقياد وندرك أنّنا في كلّ الأحوال ضحايا أنفسنا قبل أن نكون ضحايا الآخرين وأنّ الحروب التي تأكل الأخضر واليابس وتلتهم أوطاننا لن تتّخذ غيرنا أجنادا ولن يكون موتاها إلا من أبناء أوطاننا وهي لن تطال غيرنا بالتّدمير فهل نستفيق؟.
 .------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com