قول الحق

بقلم
يوسف المتوكل
قواعد السلم والأمن ... من خلال نموذج «صلح الحديبية»،
 لقد شاع في الكتابات السّياسية والقانونيّة، والدّراسات الاجتماعيّة أنّ عهد الإنسان بالوثائـــق والشّرائـــع التي بلـــورت حقوقـــه الإنسانيــــة، أو رسمـــت ملامح المبادئ الإنسانيّة العامّـــة، قــــد بــــدأ بإعـــلان حقــــوق الإنســــان والمواطــــن- La Déclaration des droits de l’Homme et du citoyen  الذي ظهر عام 1789م، ويؤكّد الغربيّون أنّهم استمدّوا تلك الحقوق من مبادئ الثّورة الفرنسيّة الكبرى التي أطاحت بالملكيّة والإقطاع. فدخلت مضامينها ميثاق الأمم المتحدة سنة 1934م، ثمّ أفردت دوليّا بوثيقة خاصّة هي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي أقرّته الأمم المتحدة في 10 ديسمبر/ دجنبر 1948م.
ذلك هو التّاريخ الشّائع لنشأة مواثيق حقوق الإنسان التي ما فتئ العالم يدندن باسمها. لكن إذا نظرنا إلى تاريخ الإسلام نجد أنّه تقرّر إعلان المبادئ الإنسانيّة العامّة في أوّل دستور للدّولة الإسلاميّة في المدينة المنورة، وأذاع بها رئيس الدّولة وهو رسول الله عليه الصّلاة والسّلام في خطبة حجّة الوداع، والتي سبقت إعلان الأمم المتّحدة بأكثر من أربعة عشر قرنا من الزّمن.
لذلك؛ ونحن بصدد التعريف بهذه المبادئ السمحة كما بيناه في شقه الأول من المقالة الأولى حول «وثيقة السلام»، ولكي نربط السابق باللاحق؛ تأتي هذه المقالة الثانية مبرزة الدّور الأساسي من بناء مجتمع متسامح متكافل في حدث شبيه بالمعاهدات السّياسية الدّولية البارعة، التي أبدع فيها عليه الصّلاة والسلام حلولا يسيرة وموفّقة، وكان يعقدها مع خصومه في إقرار السّلم والأمن لتحقيق التّعايش؛ جاءت معاهدة «صلح الحديبية»، التي أبرم فيها صلحا تاريخيّا حلّت به الهدنة محلّ الحرب التي ظلّت قائمة لستّة سنوات، وبذلك أمّنت الطمأنينة والحرّية للنّاس.
ومنذ ذلك الحين عرف المجتمع الإسلامي قواعد تحكّم علاقاته الدّولية واتّصالاته بالأمم والدّول الأخرى، وهي مستوحاة أساسًا من الشّريعة الإسلاميّة بمختلف مصادرها ومواردها، أو من المعاهدات أو الاتفاقات الدّولية التي ترتبط بها الدّولة الإسلاميّة مع غيرها من الدّول المجاورة، سواء كانت في حالة حرب أو سلم. 
وقد تطورت دعائم القانون الدّولي والعلاقات الدوليّة الإسلاميّة، وتوطّدت أركانها وتنوّعت أغراضها ووسائلها، تبعًا لتطور الأحوال الدّاخلية ومتغيّرات البيئة الدّولية.
لذلك صيغة هذه المقالة لإبراز الأبعاد الإنسانيّة في معاهدات الرّسول صلى الله عليه وسلم لتكون دعوة هادفة إلى ترسيخ القيم والمبادئ الإنسانيّة، وإرساء نظريّات التّسامح من أجل تعايش كريم بين مختلف شعوب العالم المعاصر، وقطع الطّريق على النظريّات الصداميّة الرّامية إلى إرباك الوئام والسّلام العالمي، وإضرام نار الحروب بين بني البشر، وإعاقة المسيرة الكونيّة عن الرّقي الإنساني.
لقد عقد رسول الله عديد المعاهدات لإيجاد حالة الصّداقة وحسن الجوار مع القبائل المجاورة للدّولة الإسلاميّة، كما عقدت معاهدات السّلام وترك القتال ممّا يعود بالنّفع على المسلمين بشكل خاص وعلى البشريّة عامّة.
وسأورد هنا أهم الأحداث التي كانت سببا لإبرام الصّلح الذي اصطلح عليه فيما بعد بـ «صلح الحديبية». لقد جاء تفكير المسلمين في زيارة المسجد الحرام بداية لمرحلة متميّزة في تاريخ دعوتهم، فقد عزموا على دخول مكّة وهم الذين طوردوا منها بالأمس وحوربوا حيث استقرّت بهم النّوى، وظلّت حالت الحرب قائمة بينهم وبين قريش لم تسفر عن نتيجة حاسمة.
فالنّبي أراد بهذا النّسك المنشود إقرار حقّ المسلمين في أداء عبادتهم، وإفهام المشركين أنّ المسجد الحرام ليس ملكا لقبيلة تحتكر القيام عليه ويمكنها الصّد عنه، فهو ميراث الخليل إبراهيم، والحجّ إليه واجب على كلّ من بلغه أذان أبي الأنبياء من قرون.
وإحرام النّبي وصحبه بالعمرة فحسب آية على الرّغبة العميقة في السّلم، وعلى الرّغبة في نسيان الخصومات السّابقة، وتأسيس علائق أهدأ وأروق. وبذلك القصد السّمح المهذّب، استنفر رسول الله جمهور المسلمين وأعراب البوادي، وآذنهم أنّه يريد العمرة ولا يريد قتالا. لكنّ فريقا من السّفهاء حاول أن يشعل المعركة بين المسلمين وقريش، أمّا المسلمين فقد لزموا الهدوء وملكوا أعصابهم.
فأسرعت قريش إلى بعث سفيرها «سهيل بن عمرو» لعقد الصّلح، فلمّا رآه عليه الصّلاة والسلام قال: «قد سهل لكم أمركم، أراد القوم الصّلح حين بعثوا هذا الرّجل» فجاء سهيل وتكلّم طويلا، ثم اتّفقا على قواعد الصّلح وهي كالآتي:
أوّلا: الرّسول – صلى الله عليه وسلّم – يرجع من عامه هذا، فلا يدخل مكّة وإذا كان العام القادم دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثا، معهم سلاح الرّاكب، السّيوف في القرب، ولا تتعرّض قريش لهم بأيّ نوع من أنواع التّعرض. 
ثانيا: وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض.
ثالثا: من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
رابعا: من أتى محمّدا من قريش من غير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا ممّن مع محمّد لم يرد عليهم.
ومن أهم الوقائع التي حدثت في «صلح الحديبية» والتي تبيّن مدى تحلّي الرّسول – صلى الله عليه و سلم – بالتّسامح الإيجابي الذي يرى فيه المستقبل للمسلمين وغيرهم، وإنّ تنازل عن بعض حقوقه القريبة فسوف ينالها في المستقبل القريب عظيمة ومضاعفة.
جاء سفير قريش «سهيل بن عمرو» فقال: «هات أكتب بيننا و بينك كتاب»، فدعا النّبي الكاتب، فقال:«اكتب باسم الله الرّحمن الرّحيم» فقال سهيل: «أمّا الرّحمن فو الله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللّهم، كما كنت تكتب». 
فقال المسلمون: «والله لا يكتبها إلاّ باسم الله الرّحمن الرّحيم»، فقال رسول الله: «اكتب باسمك اللّهم»، ثم قال: «هذا ما قضى عليه محمد رسول الله»، فقال سهيل: «والله لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمّد بن عبد الله»، فقال النّبي: «والله إنّي لرسول الله، وإن كذبتموني، أكتب محمد بن عبد الله على أن تخلّوا بيننا وبين البيت فنطوف به»، فقال سهيل: «لا تتحدّث العرب أنّا أخذنا ضغنة، ولكن ذلك من العام المقبل» ثم قال: «على ألاّ يأتيك منّا رجل وإن كان على دينك إلاّ رددته إلينا».
تلك كانت معاهدة صلح الحديبية، و ذلك كان خلق الرّسول الكريم الذي تميّز به عن غيره من الخلق، حيث أثبت فيما عقد من المعاهدات أنّه عامل الطرف الآخر معاملة حسنة، وكان من شأنه أن لم يستبد،  ولم يمل الشّروط بدافع الانتقام والغيظ والغرور بقوّته. وكان إذا عاهد مع المغلوبين عاهد كريما، فأقرّهم على عقائدهم وشعائرهم، وأمر برعايتهم والمحافظة على أموالهم ووفّر لهم حرياتهم. 
إنها ميزة التّسامح التي تخلق بها مع أعدائه في تنظيم سياساته الخارجيّة والدّاخلية، فكانت نبراسا يستنير به أصحابه من بعده، فشيّدوا بها نظما وقوانين تسع العرب والعجم، باختلاف أعراقهم وأجناسهم وأديانهم، فعاشوا في رحابة تسامح المسلمين، وتعايشوا في أرض قيل عنها أنهّا أرض التّناقضات في كل شيء، لكنّها صارت أرض التّعايش والسلام.
المراجع المعتمدة
(1)  فقه السيرة النبوية، منير محمد غضبان، 1419هجري، مطابع جامعة أم القرى، مكة المكرمة.
(2) السيرة النبوية دروس وعبر، د. مصطفى السباعي، الطبعة الثامنة، 1429هجري – 2008م. دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة.
(3) الرحيق المختوم، صفي الرحمن المبارك فوري، الجامعة السلفية – الهند. طبعة 1429هجري - 2008م. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. بيروت- لبنان.
(4) ويكيبيديا الموسوعة الحرة: الإعلان الذي أصدرته الجمعية التأسيسية الوطنية في 26 غشت (أوت / أغسطس ) 1789.
-----
-  باحث بمركز دراسات الدكتوراه في الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان
فاس- المملكة المغربية
youssefacej@gmail.com