الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
الإنسان و السماء - ج2 - معادلة : الفلك - التنجيم
 من الغايات الأساسيّة لاهتمام الإنسان بالسّماء منذ العهود المبّكرة من التاريخ وما قبله هي وضع خرائط للأجرام السّماوية  - الطّرف الأول في معادلة فلك - تنجيم- ليستعملها المنجّمون لما يدّعون أنّه كشف للطّالع – و هو الطّرف الثاني في المعادلة-. فرغم أنّ ما يرتسم كلّ ليلة في صفحة السّماء يتغيّر تدريجيّا عن اللّيلة التالية، إلاّ أنّ الإنسان استطاع أن يلاحظ أنّ هناك أنماطا من التّشكيلات النّجومية تظهر دوريّا خلال مدّة زمنيّة محدودة تبدأ دائما بالاعتدال الرّبيعي. فألفها واستطاع رسم تلك الأنماط ممّا مكّنه من امتلاك روزنامة دقيقة للأحداث الفلكيّة. لم يكن من الممكن القيام بذلك العمل إلاّ عبر الرّصد وإجراء حسابات معيّنة على مجموعة من البيانات المتعلّقة بحركة النّجوم والكواكب ومواقعها عبر الزّمن وفي القبّة السماوية. وتدلّ الآثار المكتشفة لحدّ الآن بأنّ التاريخ المشترك والطويل بين التّنجيم (تأويل السّماء) والرّصد (مراقبة السّماء) بدأ قبل حوالي 4500 سنة في منطقة الهلال الخصيب بين نهري دجلة والفرات، أي العراق الممزّق اليوم. 
فمنذ منتصف الألفيّة الثالثة قبل الميلاد دوّن الكلدانيّون على ألواح من الطّين الأحداث الفلكيّة التي تمكّنوا من معاينتها مثل حركة الكواكب وتغيّر سطوعها وخسوف القمر وكسوف الشمس وغيرها. لم يكن الهدف من تلك الأعمال وصف السّماء وتفسير حركة الأجرام ومواقعها لأنّهم تعاملوا مع الأجرام السّماوية باعتبارها إشارات مرسلة من الآلهة لإخبار الإنسان بمصيره وإعانة السّلطة (الملك أو الإمبراطور الخ...) على الحكم. وفعلا، فوفق الأساطير البابليّة تتوجه الآلهة للإنسان برسائل عديدة وذلك بواسطة الأجرام السّماوية التي بدورها تمثّل كل واحدة منها اله له مهمّة يقوم بها، فالشّمس مثلا كانت تعتبر آلهة العدالة. وقد تفننّوا في القيام بتنبؤات باعتماد تأويل للحالة الفلكيّة التي يبدو عليها الجرم كاللون والموقع. فعندما يظهر القمر محاطا بهالة ويصادف أن يوجد كوكب المشتري داخلها فان ذلك يعتبر مؤشّرا على أنّ الملك سيغتال. 
لقد كان التنجيم في البداية في خدمة السلطة السياسية واستعمل كأداة للتّحكم في الناس، وقد كان المنجّمون-الفلكيّون مقرّبين جدّا من أصحاب الّسلطة  ثم أصبح بعد ذلك ممارسة ينتفع بها العموم، و يعود تاريخ أول خارطة فلكية «عمومية» إن صحّ التعبير والتي عثر عليها إلى 409 سنة قبل الميلاد. 
تجربة إبراهيم (ع) مع قومه 
يقول عباس محمود العقاد في كتابه (أبو الأنبياء الخليل إبراهيم) أن «معظم المنقّبين يعيّنون تاريخ إبراهيم في زمن متوسّط بين أوائل القرن الثّامن عشر وأواخر القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ويجعلونه معاصرا لدولة الرّعاة في مصر ودولة العموريّين في العراق» . ينتمي إبراهيم إذا إلى الفترة البابلية.
 و قد كان البابليون على اهتمام كبير بالنّجوم وكانوا يعتبرونها المسؤولة على الأحداث الأرضيّة. لذلك ألّهوا الأجرام السّماوية وعبدوها. كما رسموا لها خرائط يستدلّون بها على الأحداث المستقبليّة وفق المعتقد الذي قام عليه التّنجيم. خلد القران الكريم تجربة إبراهيم مع قومه وكيف تمكن من الانفراد بأصنامهم وكسرها ليظهر لقومه وأبيه عجزها حتّى عن الدّفاع عن نفسها. لكن ما علاقة تلك التّجربة بالسّماء؟ 
تقول الآيتان 88 و89 من سورة الصافات « فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي ٱلنُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ».  فالآيتان تعبّران بوضوح على أنّ هناك نظرا في النّجوم كان إبراهيم يقوم به، ولكن بآيّ معنى؟ ذهب المفسّرون في اتّجاهات عدّة من بينها اتّجاها يربط النّظر في النجوم بالمعنى السّائد آنذاك. فالسّياق الحضاري كما أسلفنا الذّكر يسمح بالقول أن إبراهيم (ع) كلّم قومه بما يفهمون أي بلسانهم فادّعى أنّه سقيم بعد أن نظر في النّجوم وأخبرته بذلك. صحيح «لم ينطق إبراهيم فإنّ النجوم دلّته على أنّه سقيم ولكنّه لمّا جعل قوله: «إني سقيمٌ» مقارناً لنظره في النّجوم أوهم قومه أنّه عرف ذلك من دلالة النّجوم حسب أوهامهم.» ( تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ). إذا ولكي يوهم إبراهيم قومه بأنّه مريض ولا يشاركهم في طقوسهم الوثنيّة بل ويفسح له المجال لتحطيم أصنامهم، كلّمهم بما يعتقدون ويتصوّرون من مفاهيم، فاعتذر لهم بطريقة تجعلهم يفهمون أنّه قرأ في طالع النّجوم فعرف بأنّه مشرف على مرض معد ممّا جعلهم  يخافون من أن يصابوا مثله فتركوه. 
ولإبراهيم عليه السلام نفسيّة فريدة نتج عنها موقف عقلاني واضح ومنهجيّة منطقية صارمة تعتمد على الفرضية والاستنتاج للتّوصل إلى الإيمان بالخالق المنزّه عن كل نقص. إذ ليس من السّهل لإنسان يعيش في فترة حضاريّة تقدّس فيها الشّمس باعتبارها ضامنة للحياة بالدّفء المنبعث منها وضامنة لاستمرار الحياة بفضل عودتها يوميا، ليس من السّهل أن يشكّ في أن يكون ذلك الجرم جديرا بالتّأليه والعبادة. واعتقد أن القرآن الكريم يشهد على أنّ إبراهيم توصّل إلى وحدانيّة الله بعد جهد عقلي ورفض مبني على منطق واضح لأن تكون الأجرام التي تظهر ثم تغيب ربّ يُعبد ويستحق التّقديس والتمجيد. فالله لا يمكن أن يتّصف بالأفول سبحانه. قال تعالى في سورة الأنعام «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فلما أَفَلَ قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَر(77) فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ (78) فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (79) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ (80)». ويمثل هذا الموقف العقلاني حسب رأيي التّأسيس الحقيقي لعلاقة علميّة بين السّماء والأرض ليس فيها أي تقديس ممّا يعني ضرورة رفض التّنجيم بعد هدم أساسه وتحرير العقل الإنساني من الأوهام والخرافات التي تضلّله وتدفع به في اتّجاهات معرفيّة وعمليّة غير مفيدة. فهل يمكن اعتبار إبراهيم (ع) المؤسّس والمنظّر الأول أو على الأقل من المدافعين الأشاوس على النشاط الفلكي العلمي كما يُمارس اليوم بعدما حرّره من الأوهام التي كان يتحرّك في مجالها؟ إني اعتقد ذلك. ومن يدري لعلّ المستقبل يمدّنا بآثار ماديّة تدعم ما ذهبت إليه. 
اهتمام الإنسان في القارة الأوربية بالسماء بين 6000 و 2200 سنة قبل الميلاد
إننا مدينون للحضارة البابلية، إضافة لابتكار الكتابة، بأوّل الخرائط الفلكية وذلك منذ بداية الألفية الثانية ق.م. لكن ماذا كان قبلهم؟ وماذا تركت لنا الحضارات الأخرى التي قامت في أرجاء المعمورة من أثار تعيننا على فكّ أسرار العلاقة بين الإنسان والسّماء؟ لن أتناول بالتّفصيل مساهمات كل الحضارات في الجهد البشري المتطلّع لسبر أغوار المجهول الموجود في الأعلى لكن سأكتفي ببعض ما دلّت عليه الآثار الشّاهدة على أهمها. 
عندما استقر الإنسان في العصر الحجري الحديث أي بين 6000 و 2200 سنة قبل الميلاد ومارس الزّراعة والصّيد في الأنهار لاحظ ارتباطا زمنيا بين فترات البذر والحصاد وتكاثر الأسماك من جهة وظهور بعض الأنماط النجوميّة من جهة أخرى. فضلا عن توفّر مناخ مغاير لفترات أخرى. وقد مثّل الرّجوع الشتوي الذي يحدث بين 20 و 23 ديسمبر من كل عام لإنسان ذاك العصر حدثا فلكيّا حيويّا لإعلانه على بداية الفترة التي يطول فيها النهار ويقصر فيها الليل من جهة ولارتباطه ببداية الموسم الفلاحي حيث أصبح النّشاط الفلاحي يمثّل  المصدر الأساسي لتوفير الغذاء. ولتنظيم عملية البذر والحصاد مثّلت المعرفة الجيّدة للدّورة السنويّة للشّمس ضرورة حياتيّة مما أدّى إلى تطور علاقة نفعيّة بين الإنسان والسّماء دفعته للتّأمل عمليّا في كيفية الاستفادة من الرابط بين ما يحدث في السّماء وما يدور بالأرض. وهو ما يمكن ان يعتبر البدايات العملية والجنينية لعلم الفلك.
و تمثل البناءات العملاقة المبنية بالحجارة الضخمة الغير منحوتة والمسماة «ميجا ليت» عنصرا مادّيا هاما يدلّ على بدايات ذلك الاهتمام  العملي بالأجرام السّماوية. فقد انتشرت تلك البنايات في كامل أوروبا بالآلاف بداية من الألفيّة الخامسة ق.م. وتتميّز تلك البناءات  جميعا  باتّجاهها نحو موقع الشّمس عند الشّروق يوم الرّجوع الشتوي وهو ما يعني أن عمليّات البناء وفق تلك الهندسة لم تكن بمحض الصّدفة بل تشي باهتمام بالغ للإنسان بالسماء.
           -----
           -  دكتور  بالجامعة التونسية
          ghorbel_nabil@yahoo.fr