في الصميم

بقلم
عبدالمجيد بن ابراهيم
النص و التاريخ مشروعية التطابق والمواءمة،
 لقد عملت الرؤية السّلفية على الارتكاز على الظّاهر النّصّي كدلالة وحيدة وهو ما يعني الحفاظ على المعنى القديم الأمر الذي أدّى الى تكريس الجمود وإرساء قطيعة بين النّص والتّاريخ .
لقد حكمت هذه الرؤية على المسلمين الخروج من العصر والبقاء مغتربين في الماضي وهو أمر لم يكتشف الاّ مؤخرا مع تصاعد حركة الإصلاح والنهضة في القرن التاسع عشر من واقع الشعور بتناقض تلك الأطروحة. عملنا في هذا النص على تقديم معقوليّة مغايرة تحاول بثّ الرّوح في النّص حتى يكون منتجا للمعنى وهو في قلب الواقع وبالتالي نعيد بناء جدليّة النّص والتّاريخ، بحيث تكون أفقية بعد أن كانت عمودية وتكون العلاقة تبادلية بعد أن كانت اسقاطية مفروضة .إنّ بناء وشائج النّص مع التّاريخ هو دخول من جديد في الحداثة ودخول في المعاصرة. 
يندرج هذا المقال في سياق تتواصل معركة كسر الجمود وبثّ الحياة في التّراث الإسلامي من أجل كسب معركة الحداثة والتّحديث. ويتناول بالتحديد مسألة المواءمة بين النّص والتّاريخ أو الواقع التاريخي. تمرّ معالجتنا لهذه المسألة الهامّة من نقد المنظور القديم «المنظور السلفي تخصيصا» ثم نمرّ إثر ذلك الى تأصيل تلك المواءمة بين النّص والواقع أو في كيفيات تبيئة النّص مع الواقع المخصوص.
 فماهي مظاهر الخور في المنظومة السلفية الأرذكسية وكيف نعيد النّص الى دنيا الواقع والتاريخ؟
(1) مظاهر الخور في المعقولية السّلفية –الحرفية
 تجد هذه المعقولية السّلفية –الحدّية جذورها في المنظومة الأصولية الفقهية التقليدية بحدّيها الشافعي –الحنبلي والتي تبلورت إثر معركة «تأويل القران» أو مايطلق عليها البعض «معركة التأويل» والتي كان الانتصار فيها لتلك المنظومة وما أفضى من تداعيات أخطرها على الاطلاق غلق باب الاجتهاد
عماد معقولية هذه المنظومة في البرهنة على نظامها الحرفي الظاهري هو اللّغة .إنّ أصوليو هذه المنظومة يعتبرون أن معاني النّص هي على سبيل التوقّف او هي محفوظة في اللوح القديم. إنّ هذه المقولة من شانها أن تردف على تلك المعاني طابعا مطلقا مفرقا سابحا فوق التّاريخ والزّمن، لقد كان السعي لإغلاق باب الاجتهاد يتنزل أساسا في إطار الحفاظ على تلك المعاني المفارقة في مستودعات النّقاء حتى لا تشوبها طبعا تلك النّزوعات التأويليّة المتنمّرة والمعبّرة عن نفسها في التيار المعتزلي والتّيار الباطني.
 إنّ هذا المنظور لا يقيم أيّ وزن لحواجز الزّمن أو الجغرافيا وبالتّالي لا معنى لخصوصيات الواقع وومميّزاته، فالمجتمعات كلّها تحكمها ضروب المشابهة والتّماثل والسكون.
 لكن أزمة هذه المعقولية الأصولية التقليديّة الشّافعية لها أوجه أخرى وهو ذلك التّصور الانكفائي النكوصي للتّاريخ، فالأصولي هاهنا يجعل من الماضي حاضرا ومستقبلا والمستقبل ماضيا، إنّه يحدق دائما في خير القرون تحكمه عاطفة القداسة لتجربة التأسيس الأولى التي يراها تجربة مطلقة وهي مفتاح السّعادة لكل عصر وكل جيل، فليس أبدع من تلك التّجربة التي يجب إسقاطها على واقعنا حتى ننام قريري العين مثلجي الصّدر. إن الواقع الجديد أو المخصوص مطالب بأن يتّسع لتلك التجربة المثلى وإن حدث ووُجد ارتباك ما أو خلل في التّطبيق، فهنا يجب توجيه الاتهام الى الواقع وليس إلى النّص أو أفهامنا للنّص. إنّ هذه الرؤية السّلفية –الحرفية تعتبر الواقع الحالي واقع متفسّخ، مغربن، مدنّس بتاثيرات الغرب العدو اللّدود للإسلام وبالتالي فهو واقع يقع في نفس المرتبة مع الواقع الذي كان قبل الإسلام فهو واقع جاهلي(1) يجب الانعزال عنه ومحاربته. هكذا تشكّلت حركات التّكفير والهجرة سابقا وظواهر القاعدة وداعش التي وجدت جراثيمها الفكرية في هذه المعقولية. إنّ رهاننا الأساسي هو فضح تلك التضليّلية الكامنة في تركيبة المعقوليّة السلفيّة في نظرتها للنّص واثبات أنّ النّص أغنى من ذلك وأنّه يمكن مواءمته مع المخصوص من الواقع والنّسبي والتاريخي فكيف ذلك؟
 (2) عملية المواءمة بين النّص والتاريخ
 ليس من الصّعب الوصول الى تلك الفوارق الكبرى بين الواقع القديم والواقع الجديد فالنّقلة المادية والحضارية كبيرة جدّا والتّطور العلمي تطوّر هام للغاية وثورات في كلّ المجالات في السّياسة والاقتصاد والفكر والعلم الطبيعي والإنساني ...فهل نستطيع مواجهة عصر الجمل وعصر الطائرة والرّجل الآلي بنفس النّص. إنّ هذا الأمر غير ممكن وغير منطقي. إنّنا نحتاج الى نصّ يستطيع استيعاب الجديد، كلّ جديد وهذا لن تتوفّر عليه مقومات الرّؤية السلفيّة للنّص، فما هي مقومات التّجديد في قراءتنا للنّص؟
 نعتقد انّه من الضّروري في البداية التأكيد على الرّوح التأويلية للنّص وأنّ الالفاظ تحتمل معاني متعدّدة، فالمجاز ليس عرضا كما هو في المعقوليّة القديمة بل هو خاصّية إصيلة ، يمكن أن نؤكّد أنّ هذا التّصور كان نفسه تصوّر المؤسّسين كابن عباس(2)والأمثلة الدّالة على هذا التّعدد كثيرة يمكن أن نسوق منها التالي:
«والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء»
«واذا لامستم النساء ...»
« لا طلاق في إغلاق» ...حديث نبوي
إنّ النّص بهذه الكيفيّة متعدّد المعاني ولكن هذا التصوّر لا يعني صبغ النّص بالالتباس أو الغموض، بل بالعكس هوأمر يجعل النّص أكثر قدرة على التّطابق مع ظروف مختلفة إذ الأصولي أو المجتهد يملك الامكانيات التأويلية لتلبيس اللّفظ حسب الواقع، هكذا نصل الى أن التأويل الذي طالما حاربه الفقهاء يشكّل علامة هامّة على القدرة على الاجتهاد والانفكاك من التصوّرات القديمة الفقهيّة كما أنّه يحقّق التّجانس مع التاريخ.
 هناك أمر هام آخر لا بدّ من التّنصيص عليه لأنّه يساعدنا على حلّ معضلة النّص والتاريخ وهي قضيّة النّاسخ والمنسوخ. إنّ المتأمّل في الاختلافات الحاصلة في هذه المسألة سواءا تعلّق الاختلاف بمناطق النّسخ او كميّاته(3). إنّ هذا الاختلاف يعزّز فرضيّة أنّ النّسخ هو ليس نسخا في التّنزيل بل هو نسخ في التأويل وبالتّالي فإنّ المجتهد يسعى الى تركيب تأويلات معيّنة تتطابق مع الواقع المدروس. غنّه رغم منطقيّة هذه الرؤية، فإنّ المنطق الفقهي القديم لا يزال يدافع على أنّ النّسخ هو نسخ للتّنزيل رغم أنّ هذا التّصور من شأنه ان يجعل النّص القرآني بالخصوص محلّ ريبة وشكوك وهو ما أومأ له عديد المستشرقين (4).
نشير كذلك في هذا الإطار المتعلّق بعلاقة النّص بالواقع الى مسألة ما لا نصّ فيه أو مسألة البراءة الأصلية، إنّ هذه المنطقة التي ظلّت مهمّشة في الفقه لأنها تعني سلب مزيد من الوظائف للفقهاء واحتكارهم استنباط النّص، تتيح الاستفادة من الواقع محلّ تنزيل النّص والإبقاء على الكثير فيه وهي بالتّالي تجعل النّص أكثر قدرة على تبيئة نفسه مع التّاريخ، كما انّ هذه المنطقة تتيح فرصة للعقل الغنساني لإنتاج المعنى في غياب النّص وهو أمر وجدنا إرهاصاته عند تيّار عقلاني مجهض وهو «التيار المعتزلي».
 ثمة شئ أخير لابدّ أن نُومِئُ له وهو مسألة الثّابت والمتغيّر في النّص. إنّ الثّابت هو العقائد والعبادات وهو يحتلّ المساحة الأقل في حين يحتلّ المتغيّر المساحة الأكبر وهو المعاملات والمجتمع، وقد عمل الأستاذ «محمود شتلوت» على مزيد تضييق الثّابت وتوسيع المتغيّر حتى أنّه حصرالثّابت في بعض العقائد. إنّ هذه الرؤية تجعل من اليسر تحديد ما يحتاجه الواقع من النّص لاسيّما أنّنا امام نصّ مرن. إنّ هذه الفكرة تجعل النّص مقدّما جملة من القيم والمبادئ العامّة أمّا التفاصيل وتحديد وجهة تلك الأفكار فهي محلّ اجتهاد ونظر في الواقع المخصوص.
هناك أمور أخرى يمكن أن نضيفها وهي هامّة كفقه المصالح وتغيّر النّص وفق مصالح البشر وفقه المقاصد والعرف وفقه الواقع وهو يعني دراسة الواقع قبل تنزيل النّص وبناء فهم معين له وفق تلك القراءة.
إنّه من غير الممكن أن ننظر الى تجربة المدينة كما نظر إليها السلفيّون، أي أخذها كما هي في وجهها القيمي ووجهها المادي واستعادتها كما هي، بل لابدّ من النّظر الى تلك التّجربة من زواية أنّ ابداعيتها تكمن في عمليّة المواءمة بين مبادئها وواقعها المخصوص وهذه في تقديرنا النّظرة الصّحيحة التي تجعلنا ننفتح على سؤال كيف نبني تلك المواءمة مع واقعنا الحالي.
لقد حاولنا استدعاء موضوع نعتقد أنّه في غاية الأهميّة وهو يتعلق بتاريخيّة النّص والانفتاح على العصر والواقع أو هو انفتاح على الحداثة باعتبارها انخراط في العصر وخروج من عالم الماضي والجمود. إنّنا نطرح هذا الموضوع وفي أذهاننا الطروحات السلفيّة التي تريد تعميق اغترابنا الزّمني والثقافي. غنّنا نسعى الى تفكيك تلك الطروحات والانتصار لصفّ الحداثة والتّحديث، لكن دون تغريب. في كلمة: إن الحداثة تنطلق من التّراث وهو الأمر السّليم بالنسبة لنا حتى نتجاوز الانزلاقات ولذلك اخترنا الانطلاق من النّص للدخول لسكّة الحداثة.
الهوامش
(1) «جاهلي» ذكر ذلك سيد قطب وأخيه محمد قطب في كتابه جاهلية القرن العشرين.
(2) تمّ ذلك في حوار الإمام علي مع ابن عباس مبعوثه للخوارج حيث ذكر أنّ «القرآن حمّال أوجه»
 (3) ذكر ذلك الامام السيوطي في كتابه «الإتقان في القرآن» حيث حدّد عدد مرات النّسخ بـ 200 مرّة
 (4) من المستشرقين الذين ذكروا ذلك «شاخت» و «جولديهسر»....    
 -------
-  أستاذ  التاريخ.
imedfawzi14@yahoo.fr