في العمق

بقلم
اسماعيل بوسروال
المنظومة التربوية التونسية ... العلاقة بين التّوجيه والتّشغيل والتنمية
 توطئة: 
تمثل منظومة التّربية والتّعليم والتّكوين أداة رئيسيّة للنّهوض بالشّعوب اجتماعيّا واقتصاديّا. فالتربية والتعليم والتكوين مرتبطة بالتّنمية فهي مؤهّلة أن تُحقّق في مرحلة أولى الاكتفاء الذّاتي للمجتمع على مستوى الإنتاج الفلاحي والزّراعي والخدمات والصّناعات الأوّليّة وكذلك الإطارات والكفاءات من مدرّسين وأطباء ومهندسين وعمال مختصين.
 كما أنّ منظومة التّربية والتّعليم والتّكوين مؤهّلة في مرحلة ثانية لتحقيق التّقدم العلمي والتّكنولوجي اللذيْن يضمنان مسايرة البحث العلمي وخدمة الاقتصاد ...حيث المخابر والعلماء والابتكار والاختراع .
الإشكالية:
 لمّا حدثت الثورة التونسية (17ديسمبر 2010-14جانفي 2011) كانت من بين مبرّراتها الموضوعيّة تفاقم البطالة وتهميش الجهات الداخلية، وتحدّث المختصّون في تحاليلهم عن بطالة أصحاب الشّهائد العليا المتخرّجين من الكلّيات والمعاهد العليا التونسية والذي قُدّر عددهم آنذاك بـ 244.000  من بين 600.000 عاطل عن العمل، كما أشار المختصّون إلى مظاهر الفقر والبؤس ( نسبة الفقر سنة 2010 بلغت 24 %) 
يُضاف إلى ذلك سوء أوضاع  البنية الأساسيّة من طرقات وسكك حديديّة ومسالك فلاحيّة كفيلة بالرّبط بين مواطن الإنتاج ومواطن التّرويج أو التّصنيع كما يُشار أيضا إلى  نقص الخدمات الضروريّة  في المناطق الدّاخلية في الشّمال الغربي والوسط الغربي والجنوب الغربي والجّنوب الشّرقي  والمناطق الحدوديّة مع الجزائر ومع ليبيا مع التّأكيد على ملاحظة افتقار هذه الجهات إلى الخدمات الصحيّة المختصّة وإلى الخدمات الإدارية الملائمة التي تجعل الإدارة في خدمة المواطن لا العكس. 
الأسئلة المتفرعة عن الإشكالية: 
يمكن أن نطرح أسئلة لها علاقة بالإشكالية  تخصّ أوّلا قضيّة البطالة،  هل هي بطالة أصحاب الشّهائد العليا  فقط ودون غيرهم  في تونس؟ وهل هي ظاهرة يمكن حلّها بمناظرات في الوظيفة العموميّة كما يُطالب المتضرّرون أنفسهم ؟  
وإن لم يكن الأمر ممكنا فهل لأصحاب الشّهائد العليا اختصاصات لها مكان في الاقتصاد التونسي ؟
 وإن لم يكن الأمر كذلك لماذا تواصل نسق تخرّج المختصّين الذين لا تحتاجهم البلاد؟ والسؤال المحيّر: لماذا تمّ توجيههم إلى هذه الشّعب التي لا تشغيل يقابلها ؟  
مثلا: تم الاكتفاء الذاتي في التّعليم الثانوي منذ سنة 1995، فلماذا تواصل التوجيه الى هذه الشعب الى اليوم ؟
تمّ الاكتفاء الذاتي في التعليم الابتدائي منذ سنة 1998 وتمّ غلق المعاهد العليا للمعلمين بعد سنة، لكن تم تسديد الشغورات الحاصلة بسبب التقاعد بانتدابات طبق الكاباس والمناظرات ولكن أيضا بالمحسوبية والرشوة . 
ومن ناحية أخرى ذكرت المؤسّســات العالمّيـــة أنّ نسبــة النموّ في تونس لا تقـــــلّ عن 5 % سنويا خلال الحقبة «النّوفمبرية» فلماذا نلاحظ فقرا ؟ كيف كان منوال التنمية ؟ لماذا تفتقر الجهات الدّاخلية الى آليات تجعل من الممكن استيعاب السّكان النّشطين خاصّة من المتعلّمين والمتكوّنين وأصحاب المهارات التّقنية والعلمية؟.
أهداف العرض :
يهدف العرض  إلى تعرّف العلاقة بين ما تنتجه الكليات والمعاهد العليا ومراكز التكوين من جهة وبين ما يحتاجه الاقتصاد والمجتمع من جهة أخرى. كما يهدف العرض إلى تعرّف العلاقة بين التّوجيه والتّكوين من جهة وبين سوق الشّغل وحاجة المجتمع للإطارات المختصّة وحاجة الاقتصاد للمهارات التّقنية والفنيّة والعلميّة من جهة أخرى. 
التوجيه 
يمكن تصنيف التوجيه إلى : 
ـ توجيه أسري هو بمثابة مرافقة قصد نموّ سليم. 
ـ توجيه اجتماعي تقوم به المنظمات والجمعيات للتربية على المواطنة.
ـ توجيه مدرسي وجامعي قصد الملاءمة بين ثلاثة معطيات: الأولى الاستعدادات الفردية والقدرات والمواهب الفردية والثانية المسالك التعليمية المدرسية والجامعية والثالثة الآفاق التي تفتح عليها المسالك المدرسية والجامعية في النسيج الاقتصادي والاجتماعي.
ـ توجيه مهني يهدف الى  إيجاد ملاءمة بين القدرات والمهارات الفرديّة  والمهمة التي تقتضيها طبيعة العمل.
يُعتمد التوجيه المدرسي والجامعي منذ القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة والدول الغربية  إلا أن ّ التوجيه المهني تمّ اعتماده بعد ذلك في أمريكا 1909 وفي فرنسا 1922، أما في تونس فإنّ مشكلة التّوجيه لم تُطرح في مطلع الاستقلال سوى في المرحلة الإعدادية حيث تمّ اعتبار عامل السّن لتوجيه التّلاميذ للشّعب الطويلة أو القصيرة كما كان مجلس القسم المتكوّن من أساتذة يصادق أو يعدّل رغبات المتعلمين .
وفي الثمانينيات كان التّوجيه المدرسي يتمّ انطلاقا من الثالثة ثانوي ـ بعد 9 سنوات دراسة في شكل جذع مشترك ـ الى شعب علميّة أو أدبيّة مع غياب التّعليم التّقني والمهني والذي نجده لاحقا في التّعليم العالي من بين مجالاته دار المعلمين العليا للتعليم التقني. وفي التسعينيات حدث تعديل مؤثّر يتمثّل في تأخير التّوجيه الذي أصبح يتمّ في السنة الخامسة ثانوي (يدوم الجذع المشترك 11 سنة كاملة).
 مفهوم التخطيط التربوي
 رسم السّياسة التّعليمية قصد الاستجابة لمتطلبات التّنمية الشّاملة للبلاد ودراسة مدى تناسق أجزاء المنظومة التربوية ومدى التناسق والتكامل بينها وبين الاقتصاد والتطور الاقتصادي.  
مفهوم المنوال التنموي
المِنْوَالُ : خَشَبَةُ الحائِك التي يَحُوك عليها الثَّوْب 
وعبارة «انسج على هذا المِنْوَال» :على هذا النَّسقِ والأُسلوب  ـ في قاموس المعاني
اصطلاح المنوال التنموي : 
* نظريّة التّنمية ليست هي نظرية النّمو، كما أنّها لا تفسّر آليات التطوّر ولكن آليات المرور من مجتمع إلى آخر.
* تحوّل اجتماعي واقتصادي لمجموعة يمكن أن نسميها المجتمع
خاصيات المنوال التنموي عموما :
يقدّم تالكوت بارسونز (1902 ـ 1979) أربع وظائف لا بدّ لكل نسق (تنموي) أن يلتزم بها وهي:
(1) أنّ يتضمّن بنيته الخاصّة. 
(2) أن يتأقلم مع محيطه. 
(3) أن يحقق أهدافـًا معيّنة.
(4) أن يدمج مختلف وظائفه في ما بينها.
تشخيص  المشكلات الملاحظة  إحصائيا و معرفيا واقتراح الحلول
أسئلة تفرضها الأوضاع على الميدان وفرضها علينا تفسير اتجاه الأحداث: أوّلا قضية البطالة، فما هي أسباب بطالة أصحاب الشّهائد العليا في تونس؟ هل هي ظاهرة يمكن تفسيرها؟ وهل هي اختصاصات لا مكان لها في الاقتصاد التونسي؟ وإن كان الأمر كذلك، لماذا تواصل نسق تخرّج المختصين الذين لا تحتاجهم البلاد؟  
ولمّا كنت بصدد إعداد هذه الورقة البحثيّة استمعت وشاهدت لقاء صحفيّا للوزير التونسي للتكوين المهني والتشغيل يوم 18/05/2014 ذكر فيه أن عدد العاطلين عن العمل بلغ 728.000 منهم 224.000 حامل شهادة عليا وتحدث عن تراجع نسبة البطالة من 18.7 % سنة 2010 إلى 15.3 % سنة 2014.
 أيّ علاقة بين مخرجات المؤسّسة التّربوية وحاجة المجتمع؟ هل يمكن أن تتوفّق المؤسّسة التّربويّة في مهمّة مزدوجة تتتمثّل في بناء شخصيّة الفرد من جهة وتنمية الاقتصاد وترقية المجتمع من جهة أخرى؟ ماهي النّماذج التّربوية النّاجحة في العالم التي توفّقت في إيجاد ترابط وتكامل بين التّربية والتّنمية والتّشغيل؟ وما مدى إسهام المؤسّسة التّربوية التّونسية في تحقيق الأهداف التّنمويّة ؟
الحلقة المفقودة 1 بين التوجيه والتشغيل : منوال تنموي ملائم 
إن المقاربة الاستشرافيّة لحلّ قضايا البطالة ليست مرتبطة بامكانيات المتعلّمين فسحب أو بنوع التّعليم بل بالآفاق التي يفتحها هذا التعليم أي ما يُسمّى منوال التنمية. 
إن إصلاح المنظومة التربوية لا يمكن ان يكون بمعزل عن تنمية المجتمع وتطوير الاقتصاد بل وفق رؤية تشمل التطور المنتظر في المجتمع خلال العقود المقبلة وضبط حاجياته 
الحلقة المفقودة 2 بين التوجيه المدرسي والعلوم الحديثة: طول الجذع المشترك
لقد كانت مبررات تأخير التوجيه بعد إصلاح 1999 إيديولوجيّة لا غير، حيث أفصح  وزير التربية والتعليم العالي آنذاك ـ في حوار داخلي  مباشر معه بحضور مختصين، وكنت حاضرا فيه، وفسّر تأخير التّوجيه  بمحاربة التطرف الديني من خلال ثقافة عامة ذات أبعاد إنسانيّة وبالتّالي فطول الجذع المشترك 11 عاما لم تكن له مبرّرات علميّة بل انّه معاكس تماما للنّظريات التّربوية ومنها نظرية « الذكاء المتعدّد»  لـ«Howard GARDNER» منطقي ـ رياضي، فضائي، بيئي، لغوي ،موسيقي، ذاتي، علائقي وهذه النظرية تحيلنا إلى التّوجيه المبكّر نظرا لتعدّد مجالات الذّكاء والإبداع والموهبة. 
كما تحيلنا نظريات التحليل العاملي للذكاء لـــــسبيرمان spearman وجيلفورد guilford الى ضرورة اعتماد تعليم متنوع ومتعدّد في المرحلة الإعداديّة والثانوية يراعي الفوارق بين الأطفال ويسلك بهم سبل النجاح لا مسالك التّيه ويعطي للتعليم المهني والتقني والتكنولوجي أهميته التي يستحقها لتطوير الاقتصاد .

-  ناشط في المجتمع المدني
ismail_bsr2004@yahoo.fr