تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
مصافحة لخبير الاصطخاب (ليوناردو دافنتشي ونهضة تونس)
 أطلعني صديق لي خبير في العلوم الفيزيائية كيف يُقبل على تفكيك وتفسير ظاهرة «الاصطخاب» في اندفاع المواد السائلة. فيبدأ الدرس بعرض لوحة الفنان «ليوناردو دافنتشي» المشهورة «توربُلنزا» ويبين للطلبة مدى حدس الفنّان وإحساسه بالقوى والعناصر الفيزيائيّة قبل أن يثبتها العلماء من ذوي الاختصاص.
 فعلا رسم «دافنتشي» لوحته هذه وأطلق تسميتها التي أصبحت معتمدة ضمن المصطلحات العلميّة كما وضّح وبيّن التفاعل بين مكونات الحركة المندفعة كعالم فيزيائي متمكن . 
يخضع كل تدفـــق باعتباره حركـــة إلى قوى داخلية وخارجيــة شكّلها «ليوناردو» في التواءات ودواوير مصاحبة لتيارات مياه مضطربــة في أشكالهـــا الخارجيـــة. ويبرز الرسم اندفاع وسيــلان الماء ككتلــــة متناسقة في حركــة دائمة، أما اللّوحة فقد تُقرأ تقدّما وجريانا للزّمن دون بداية ولا نهاية، ولما لا للفكر وللأحاسيس، ولما لا لنهر الحياة للفرد أو للشعوب والأجنـــاس ؟ ففي كل الحـالات تبقى طبيعة التطور والحركة ضبابيـــة مشوشة وصاخبـــة، كأن الرسم ينفجـــر من إطار اللوحة في أبعاد أخرى ليقول أن  كـــل الأشياء تتقدم غير عابئة بالفوضى من حولها.
حق لدافنتشي أن يريح ريشته إجلالا للعلم وأن يُعمِل القلم في كتابة هامشية تزاوج العلـم بالفـــن فتدفقت على غير عادة ما يقرأ على اللوحة رسمـا حكمةٌ وبلاغةٌ.
يعود الأستاذ إلى طلبته ليخوض بطبشورته في معادلات وبيانات رياضيّة ينشرها على السّبورة حتى يضيق سطحها. ويطول الجدال لتوضيح عدّة مفردات ومفاهيم منها التّوتر ومستوياته، فيتولّى بيانها ثم يَخلـــص إلى إعلان قانون يكتبه ويجعله في إطار ثم يختم عرضه بالإشـــارة إلى خربشـــة الفنّان أسفل لوحتـــه «توربلنزا» والتي تتوافــــق وما تّــم عرضــــه ويفيد أن الدواوير الصغيرة الحجـــم كثيرة ومتعددة ولكـن الأنماط الكبيرة لا تنســاق ولا تنحاز إلا بتأثير التيــــارات والدوامـــات الضخمة دون الأخرى وما صغـر وضعف مـن الأنماط تعصف بها التيارات والدوامات مهما كان حجمها.
وفي ختام الدّرس يعرّج الأستاذ على قراءات نوعية أخرى للوحة «دافانتشي» منها السوسيولوجي والاجتماعي ويوضح كيف تناول عدد من علماء الاجتماع ولو بصفة مازالت محتشمة نظريات الاصطخـــاب لتفسيـــر الظواهر النفسيــــــة والاجتماعيــــة وكيف لا تخضع ولا تتأثــــر مســــارات ما ثبت من فكر ودين وكل ما أصبح عقيدة بالاصطخاب المتولد عنها ولا تخضع إلا لغلبة ما فاقها عظمة فساسها باللين تارة والقوة تارة أخرى حتى تنسجم معها وسط الشظايا والأشلاء المهترئة. 
تحيلني الحركة الدّائمة والمستقرة على لوحة توربلنزا إلى ما يجري من تجاذب وتوتّر يستهدف المسار الانتقالي بالبلاد بما يشلّ حركتها ويعيق نماءها، فيطمئن قلبي بالرّجوع إلى حركة الموجة دون التموّجات واستخلص أن لا خوف على مسار البلاد طالما تناغم مع مفاهيم الدولة والجمهورية وتظلّ التيارات الجانبية صغيرة لا تغيّر شيئا فتتوتر من جديد فمنها ما يتحوّل وينسجم في التيار العام فيزيد الحركة ديناميكية ومنها ما يبقى يدور حول نفسه. فإن غابت خصاله، تكفيه خصلة ثابتة أن يؤشر على دوام الرأي والرأي المخالف.
-------
- مهندس تونسي
chahed@meteo.tn