الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
الإنسان والسماء - ج 1
 منذ أن وجد آدم عليه السّلام على وجه الأرض لم يكن لعيونه ولعيون أبناءه من بعده أن لا ترى أو أن تخطأ العديد من الظواهر الفلكيّة مثل : 
* المسار اليومي للشّمس وللقمر في القبّة السّماوية،
* التغيّر اليومي لموقع شروق الشّمس وغروبها بين نقطتين قصويين وهما الانقلاب الصيفي والانقلاب الشتوي وما يحدث بينها من تغيّر تدريجي لطول اللّيل والنهار،
* الأطوار التي يمرّ بها شكل القمر من البدر إلى المحاق مرورا بأهلّة متغيّرة الأحجام،
* الخسوف القمري والكسوف الشّمسي أي احتجابهما في الأوقات التي من المفترض أنّهما يكونان موجودتين،
* شروق النّجوم وغروبها مع تغيّر مواقعها التّدريجي في القبّة السّماوية،
* الأحداث الفلكيّة المفاجئة والمخيفة مثل سقوط النّيازك والشّهب،
*الدّوران الظّاهري لكلّ الأجرام السّماوية حول الأرض.
لم تكن في ذلك الزّمن البعيد إنارة ولم يكن الغلاف الجوي ملوّثا ولم يكن هناك معمار، أي لم يكن هناك ما يمنع جدودنا الأوائل من رؤية السّماء بنجومها المتلألئة والمتألّقة في آن. لقد كانت النّجوم تتجلّى لهم مباشرة بعد غروب الشّمس في منظر مهيب وخلاّب حُرِم منه في الماضي والحاضر مليارات البشر المكدّسين في المدن عبر الأرض. منظر لا يمكن إلاّ أن يسحر الإنسان ويملك روحه ويؤثّر في مشاعره ويستفزّ ملكة تفكيره. إنّه  منظر ملأن بالأسرار والأحجية . إنّه المشهد الذي جعل اهتمام الإنسان بالسّماء هاجسا لا يفارقه إلى اليوم. 
متى ظهر آدم عليه السّلام؟
يعود تاريخ أقدم القبور المكتشفة لحدّ الآن إلى 50000 سنة. تمثّل القبور الشّواهد المادّية لعمليّة دفن الموتى الآدميّة بامتياز. وُجد في أماكن الدّفن التي تعود إلى ذلك الماضي البعيد مواد غذائيّة مع الميّت وبعض الحاجيّات الأخرى مثل السّلاح. اعتبرت تلك القبور وما فيها أدلّة ماديّة على اعتقاد الذين يقومون بعمليّة الدّفن في الحياة بعد الموت وهو ما يؤشّر على أنّ ظهور آدم يعود على الأقل إلى تاريخ أقدم القبور التي يمكن العثور عليها باعتبار تفرّد الإنسان عن باقي المخلوقات بملكة التّجريد وارتباط تلك الملكة بالأنشطة الذهنية المميّزة للوعي والتفكير في إمكانيّة البعث بعد الموت.
استعملت في عنوان الفقرة هذه كلمة «آدم» وليس كلمة الإنسان رغم ورودها في القرآن بمعنى أبناء آدم. و قد نحوت ذلك المنحى حتى أتجنّب كل التباس باعتبار أنّ كلمة إنسان استعملت في المصطلحات العلمية. فالتسميات العلميّة مصطلحات ذات مضامين محدّدة لكنّها متحرّكة ومتغيرة. فهناك مثلا مصطلح الإنسان المنتصب والإنسان الحاذق  وإنسان «النياندارتال» وغيرها من التسميات التي تفترض جملة من الخصائص التشريحيّة والمورفولوجيّة يتّفق عليها المختصّون ويعتمدونها لتحديد مضمون المصطلح. 
ولذلك يمكن تحديد ظهور «آدم» باعتماد تاريخ أقدم القبور التي يمكن العثور عليها باعتبار أنّ أول عمليّة دفن كانت متزامنة مع ظهور آدم كما يخبرنا القرآن بذلك. فقابيل، وهو أحد أبناء آدم، تعلّم من الغراب كيف يواري سوءة أخيه ويدفنه بعدما سوّلت له نفسه قتله. 
بدايات اهتمام أبناء آدم بالسّماء 
لكن متى بدأ اهتمام الإنسان بالسّماء؟ يعتقد أنّ نشاط الإنسان الفلكي والمتمثّل في اهتمامه لما يجري في الأعلى يعود إلى فترة ما قبل التّاريخ أي تلك الحقبة الزمنيّة التي ينعدم فيها أيّ أثر للكتابة إذ يرى العلماء أنّ اهتمام الإنسان بالسّماء قد يعود، حسب آخر الدراسات، إلى أكثر من ثلاثين ألف سنة عندما كان يسكن الكهوف في مرحلة الصّيد والتقاط الثّمار خلال ما يسمّى بالعصر الحجري القديم الأعلى الممتد بين 8000 و35000 سنة قبل الميلاد. وينتمي هذا العصر إلى حقبة زمنيّة أطول بكثير تمتدّ من   4000 إلى 1800000 سنة خلت سمّيت «العصر الحجري» نظرا لاستعمال الأدوات الحجرية في الأنشطة الحياتية للكائنات الآدمية وأخرى قبلها لا تختلف عنها تشريحيا والتي سبق ذكر بعض من أسمائها.
تتعلق الاكتشافات المرتبطة بالنّشاط الفلكي المفترض بما اصطلح علماء الأنتروبولوجيا على تسميته بـ «إنسان كرو- مانيون». ينتمي هذا الإنسان إلى الفصيلة التي تعرف باسم «سكان الكهوف». تشهد آثارهم التي وجدت في الكهوف والمتمثلة في رسوم حيوانات على درجة الوعي والتجريد التي وصلوا إليها. وتظهر رسوم الحيوانات الأسطوريّة على جدران الكهف الذي اكتشف سنة 1868 في مغارة بهذا الاسم أي «كرو-مانيان»  في منطقة «دوردوني» في فرنسا الجنوبية بعض التجمّعات النّجومية.
 اختلف المختصون في  تأويل تلك الرّسوم للتّجمعات النّجومية المعروفة في السّماء. فمنهم من يرى فيها مجرد استعارة رمزيّة لتتابع الفصول واستمرار الحياة باعتبار أنّ ظهور كوكبة الثّور تكون في سماء فصل الشّتاء. ومنهم من ينفي هذا البعد الرّمزي في الفن الحجري ويذهب إلى اعتبار تلك الرّسوم دليلا على بدايات اهتمام الإنسان بالسّماء خاصة وأن الكهف، مثله مثل العديد من الكهوف الأخرى، لنفس الحقبة الزمنية، يفتح نحو موقع الشّمس في الانقلاب الصّيفي ممّا يضعف فرضيّة الصدفة لاتّجاه الكهف. 
نشأة التنجيم
التنجيم هو النظر في مطالع النجوم – مواقعها في الأفق ومواقيت شروقها - ومواقع الكواكب في القبّة السّماوية لحظة الميلاد. يدّعي المنجّمون أنّ هدفهم من ذالك هو التّنبؤ بمصائر ومستقبل الأحداث المتعلّقة بالإنسان والأرض. يقوم التّنجيم إذا على الاعتقاد في تأثير الأجرام السّماوية على الفرد والجماعة. لازال العديد من النّاس يعتقدون في ذلك إلى يومنا هذا. بل وتنشط الظّاهرة خاصّة عند حلول كلّ سنة ميلادية جديدة حيث يُبتزّ فيها عدد كبير من النّاس وتُصرف أموال طائلة ينتهي بها المطاف إلى جيوب وأرصدة المتاجرين بآلام النّاس وأمالهم أين تتكدّس وتستقر نظرا لجهل الضحايا بحقيقة التّنجيم الواهية وتعلّق هؤلاء الضّعفاء بأيّ أمل. لا أهدف المواصلة في دحض الاعتقاد الفاسد في تأثير الأجرام السّماوية بل سأتناول فقط السّياق التّاريخي الذي نشأ فيه التّنجيم باعتبار صلته المباشرة والعضوية بعلاقة الإنسان بالسّماء كما تقدّم.
عندما كان الإنسان يمارس الصّيد ويقطف الثّمار ويلتقطها، لاحظ عدم توفّر ذلك على امتداد السّنة وأدرك حدوث تزامن بين وفرة الصّيد والثّمار من جهة وظهور بعض المجموعات النّجومية من جهة أخرى. كما لاحظ أن ارتفاع الشّمس في السّماء وموقع شروقها وغروبها في فترات الوفرة ليست كما في الفترات الأخرى.
وأدرك أيضا وجود تزامن بين الظّواهر المناخيّة كالعواصف والأمطار والجفاف والصواعق والرياح من جهة ومواقع الشمس والقمر والكواكب والتكتلات النّجومية من جهة أخرى.  
 يمثّل نجم «الشعرى اليمانية» نموذجا ساطعا لتلك العلاقة الوطيدة التي تأصّلت بين الإنسان والسماء. كان نجم «الشعرى اليمانية» يشرق مباشرة قبل طلوع الشمس في عهد الفراعنة  قبل حوالي 5000 سنة. و قد كان يتزامن هذا الشّروق مع فيضان نهر النّيل. وتتكرّر هذه الظاهرة كل 1150 سنة تقريبا. أقام الفراعنة حفلات عملاقة احتفاء وتعظيما وتقديسا للحدث في السنوات  2275 و 1317 قبل الميلاد و139 بعد الميلاد. 
 أما  إذا أخذنا بعين الاعتبار الزمن الذي تستغرقه الحضارات البشرية فلا غرابة أن يحدث بمحض الصدفة تزامن بين بعض الظواهر الفلكية الغير عادية مثل ظهور  المذنبات، ازدياد نشاط الشهب، سقوط النيازك، خسوف القمر، كسوف الشمس، ازدياد لمعان بعض النجوم وأحداث إنسانيّة هامة وحاسمة مثل اعتلاء ملك أو إمبراطور السلطة، قيام الحروب وما يصطحبها من انتصارات أو هزائم، انتشار الأمراض والأوبئة، موت شخصيّة هامّة،  حدوث مجاعة وغير ذلك.
ونتيجة لكل ذلك ومع مرور الزّمن بدأ يستقرّ في لا وعي بني آدم بعد ما وعوا وخبروا الظّاهرة أنّ ما يحدث لهم في حياتهم ليس بمعزل عن السّماء بل أصبحوا يعتقدون جازمين أنّ السّماء هي التي تقرّر تفاصيل عيشهم. أي أنّ هناك قوى خارجيّة تحكم سيطرتها على الوجود اليومي للبشر. قوى فائقة غريبة وغير قابلة للتفسير. 
  لقد كانت طبيعة العلاقات بين الظواهر الفلكيّة والمناخيّة مجهولة تماما عند الإنسان في الماضي البعيد. لذلك، وبحكم ما لتلك الظّواهر من تأثير نفسي ومادّي مباشر عليه من ناحية وما لاحظه من تزامن سواء ذلك الذي أصبح الآن مفسّرا أو ما كان مصادفة محضة اعتقد في ألوهيّة النّجوم ومنحها قوى خارقة فخاف منها وعبدها طمعا في بركاتها واتقاء لغضبها ورجاء مرضاتها. فعبد الفراعنة، مثلا، «الشعرى اليمانية» رغبة في منفعته باعتبار أن خصوبة الأرض مرتبطة بظهوره المتزامن مع فيضان النيل ورهبة منه لما يحدثه الفيضان من هلاك ودمار. كما ألّهت الشّمس باعتبار أنّها مصدر الضوء والدفء أي الحياة. 
-----
-  دكتور  بالجامعة التونسية
ghorbel_nabil@yahoo.fr