في العمق

بقلم
الهادي بريك
المساجد بين التدجين وبين التحزيب
 تثار مسألة المساجد من حين لآخر إثارات إعلامية عمياء أو أنها تريد لنا العمى. ويحاول هذا المقال أن يعالج السياسة الدينية في المساجد من حيث الإمامة ومن حيث الخطاب وعلاقة ذلك بالمواطن المستهلك من جهة وبالدولة الملهوفة على تأميم المساجد. للقضية أبعاد عميقة في الدلالة وبعيدة في التاريخ إذ أن أس القضية برمتها هي العلاقة بين الدولة وبين الدين أو بين الدولة وبين المجتمع وهي العلاقة التي ظلت متوترة أبدا بدرجات متفاوتة كمّا وكيفا مذ إغتيلت القيم التي تأسّس عليها الإجتماع الإسلامي الأوّل سيّما قيوميّة المجتمع على التّدين وتصريف شأنه إجتهادا وإفتاء وغير ذلك في حين تقوم الدّولة على تيسير المناخات الملائمة لتلك القيوميّة ولذلك التّصريف. ليست الدّولة سوى منقلب من منقلبات التّطور الإنتظامي لإجتماع النّاس أي لعمرانهم بالتّعبير الخلدوني الأروع. إذ هي القبيلة في حضارة الرّيع العربيّة فلمّا جاء الإسلام سمّاها مدينة كما هو مبثوث في كتابه، والتّسمية تعكس تشوف الإسلام إلى غرس قيم التحضّر ومثل الترقي وإعادة إنتظام العمران البشري وفق قواعد جديدة أسّها التكافل وضمان الحقّ في التنوع. بدأت المعركة حامية الوطيس بين الدولة وبين المجتمع في تاريخنا مبكرا إذ إتخذت الدّولة الأموية العقيدة الإرجائية لها دستورا محاولة تمريره عبر الخطاب الديني في المسجد بحسبان المسجد يومها أخصب رئة يتنفّس منها الرّأي الحرّ، بل لك أن تقول أنّ المسجد يومها كان هو عصب المجتمع المدني بتعبيرنا المعاصر. يحمل الأمويون على ذلك الذي تعرضوا له من عشرات المحاولات العسكرية الإنقلابية من لدن الخوارج من جهة والشيعة من جهة أخرى. ومن هنا حقّا نشأت المعادلة الفكرية السياسية التي تغشانا نحن اليوم أي بعد خمسة عشر قرنا كاملة وقوامها أن الإرهاب والدكتاتورية صنوان شقيقان أو توأمان لدودان لا بل إنّ العلاقة بينهما علاقة والد بمولود حتى إنّك لتحار حقّا من يلد من؟ هل أنّ الإرهاب هو الذي يلد الدّكتاتورية أم أنّ الدكتاتورية هي التي تلد الإرهاب. 
دعنا من ذلك الآن على قيمته الفكريّة والتاريخيّة ولنعد إلى معالجة المسألة المثارة اليوم إعلاميّا فيما جرى من مساجلات بين وزير الشؤون الدينية السيد عثمان بطيخ وبين ثلّة من الأئمة. 
وقبل ذلك لا بدّ لنا من إستدعاء بعض الحقائق التي ننطلق منها وعلى رأسها قطعا ما مفاده أنّ السلطان ـ الدولة ـ متشوفة أبدا إلى التّغول والهيمنة وإبتلاع أي وجود أو قوّة يمكن أن تعيقها في تنفيذ سياستها. الذين يستثنون هؤلاء من هذا أو أولئك لأيّ سبب ديني أو ديمقراطي أو غيره إمّا أنّهم واهمون أو أنّهم ماكرون. الذين يقومون بذلك يخلعون العصمة على الدولة ورجالها ومؤسساتها أي أنّهم يزاولون التشيع السّياسي حتّى لو كانوا « سنة» أقحاحا. ولنبذ ذلك جاء التشريع الإسلامي بفريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وهي الفريضة التي عدّتها بعض الفرق الإسلاميّة القديمة ركنا سادسا من أركان الإسلام. بل جاء التّشريع الإسلامي لأجل نبذ ذلك بقيوميّة الأمّة على شأنها فهي التي تستأجر من تشاء لخدمتها من رجال الدولة وهي التي تعزل من تشاء منهم. الحقيقة الأخرى مفادها أن المجتمع له أن ينشئ ما تسنى له من المؤسسات ومن كل فنّ وضرب وحقل وتخصّص، وما ذلك سوى لتحصين نفسه ضد أي تغوّل محتمل للدّولة التي تحتكر العنف دوما ومن قديم الزّمان وليس المسجد سوى مؤسّسة من تلك المؤسّسات حتّى لو تلبس دوره في الثقافة العربيّة بالدّين والتّدين تلبّسا سلبيّا. للدّولة أن تملك القوّات المسلّحة وقوات الأمن لحفظ الأمن وحرمات النّاس وحقوقهم وكراماتهم ولحماية البيضة كما يقال بالتّعبير التّراثي القديم ولها أن تملك الدبلوماسيّة الخارجيّة وما عدا ذلك فليس لها الحق فيه حتى لو كان القضاء نفسه إذ لم يكن القضاء مهمة حكوميّة بل هو مهمة مجتمعية وذلك هو المعني اليوم بالقالة التي لا يكاد يصمت بها قلم ولا حنجرة أي إستقلال القضاء. ليت شعري عمّن يستقل القضاء إذا لم يستقل عن الدولة إستقلالا وظيفيّا يحرس المجتمع ويوسع من دوائر العدل فيه والمساواة والقسط. أنّى لرجل كبير من مثل سلطان العلماء العزّ إبن عبد السلام أن يسوق أمامه مماليك مصر وهم حكّامها إلى سوق النّخاسة لبيعهم رقيقا إذا لم يكن يتمتّع القضاء يومها ـ والمجتمع كله بأسره من خلفه ـ بالسّلطان الكبير؟ حتّى الحضارة الأروبية التي بلغت الذروة اليوم في إستقلال القضاء لم تصل إلى ما وصل إليه الفقه الدستوري عند العز إبن عبدالسلام.
لنقصر القول على تينك الحقيقتين بما يخدم الغرض من هذا المقال. ولنعد إلى الموضوع مرة أخرى.
المسجد بطاقمه وخطابه وأهله مؤسسة سياسية أولا يكون. 
هناك تلبس رديء جدا بين بعض الكلمات التي نستخدمها كثيرا اليوم ومنها قطعا السّياسة والحزب. نشأ الخلط الشّنيع بسبب أنّ الحزب مؤسّسة سياسيّة بإمتياز دقيق وكبير ولكن غاب عنّا أن السّياسة لا يزاولها الحزب فحسب. السّياسة بما هي أفعال وأقوال وإنتظامات ترمي إلى الفعل في موازين القوى القائم يزاولها المجتمع نفسه من خلال مؤسساته المختلفة. الرأي العام الشعبي عندما يتجه إلى هنا أو إلى هناك هو عمل سياسي. المصارف والشركات التي تمسك الرساميل الضخمة تزاول السّياسة. نشأ خلط عجيب عندنا بين التسييس وبين التحزيب. عندما تتعرض البلاد ـ أي بلاد ـ إلى قضية تعتبر قضية وطنية كبرى ذات أولوية ـ إحتـــلال مثلا أو هجوم أو إنفصـــال أو ثورة أو غير ذلك ـ ... أليس يكون مطلوبا من المساجد أن تتقدم العمل الواجب فعله يومها؟ عندما ينتفض الشّعب ضد حاكم جائر أليس من حقّه أن يوظّف المساجد؟ ألا يسمّى ذلك سياسة؟ الذين ينعقون اليوم بلسان يمنع المساجد من التّسيّس والتسييس ومزاولة السّياسة إمّا أنهم حمقى وما أكثر الحمقى الذين ينعقون بما لا يعون وإمّا أنهم أصحاب مشاريع فكريّة أو إستبداديّة معروفة تريد إرباك الحالة الثّورية في تونس أو تعويقها أي تدجين المساجد لتظلّ أوكارا للتّدين التقليدي الأسطوري الخرافي الذي ينتهي بنا إلى البدعة الأموية الإرجائية ومفادها أن وضعنا السّياسي إرادة إلهية والثائر ضدّها على مرمى حجر من الكفر أو الهرطقة أو الزندقة أو الفسق. هب أنّ المساجد عندنا إنخرطت في حملة لمقاومة التّطبيع مع الكيان الصهيوني .. هب أنها إنخرطت في حملة لمقاومة الإعلام الرّسمي الفاسد عندنا .. في حملة ضدّ العولمة في بعدها الإستهلاكي مثلا .. في حملة لإعادة الإعتبار للتّعليم الزّيتوني إلى آخر ذلك ممّا يمكن أن يكون .. هل نخرج من الورطة التي أوقعنا فيها أنفسنا لنقول أنّ مثل تلك الأعمال ليست أعمالا سياسيّة أم نجرّم مثل ذلك لنحرم البلاد من رساميل شعبية وقيمية كبيرة التأثير؟ أم نوافق المساجد فيما يتفق مع الحكومة ونوصد أبوابها فيما دون ذلك؟ 
المقصود هو مقاومة التحزيب ومرادفات التحزيب.
تحييد المساجد عن الإهتمام بالشأن العام سواء كان سياسيا أو إقتصاديا أو إجتماعيا أو إداريا دستوريا أو خارجيا .. ذلك تحييد لا يفضي إلاّ إلى تخريب المساجد أن تؤدي دورها الوطني المطلوب سيّما في بلاد لا يتمتّع مجتمعها بمؤسّساته المدنيّة بكلّ حرّية. أمّا عندما يتعلّق الأمر بمقاومة التّحزيب للمساجد فذلك أيضا عمل سياسي بإمتياز شديد يجب علينا الإنخراط فيه ومن داخل المساجد نفسها. عندما تتبنى المساجد حملة بل حملات لمقاومة التحزيب فيها نكون قد خطونا في الإتجاه الصحيح خطوات عملاقات. عندما قال سبحانه:« وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا». فإنّ المقصود هو أنّ المسجد مؤسسة مشتركة بين كل الذين يؤمونها للعبادة والخلافة والعمارة وإقامة العدل وطلب العلم وبثه وغير ذلك. فلا يدّعى بإسم حزب ولو كان الحزب الحاكم الذي حاز على مائة بالمائة من أصوات النّاخبين الذين لم يتخلف منهم أحد بل حتى لو كان ذلك الحزب إسلاميّا قحّا على منهاج الخلافة الرّاشدة. لا يدعى له ولا يدعى عليه. ولكن عندما يكون الخطاب المسجدي كثير الإلحاح على قيم العدل والشورى والكرامة والتعاون والوحدة والتنوع والحرّية فإنّه يكون خطابا سياسيّا مطلوبا لأنّ المسجد مؤسّسة إجتماعية أهليّة مستقلة يستخدمها المجتمع أداة من أدوات التّحرير والتّحرّر من كل ضروب الإستعباد السّياسي والإسترقاق بطريق الجهل والأمية والتفرق.
هناك تحزيبات أخرى أخطر علينا من التحزيب السياسي.
عندما يكون المسجد ذا خطاب فئوي أو جهوي أو يستخدم بوقا لتيار فكري إسلامي أو لمذهب أو لطريقة أو لمدرسة كلامية مثلا أو غير ذلك فضلا عن كونه يدعو إلى ما ينافي القيم الإسلامية من مثل الفرقة أو التمييزات العنصريّة أو غير ذلك.. عندما يكون المسجد بمثل ذلك فإنّه لا يقلّ خطرا عن التحزيب السّياسي. إذ العلّة من منع التّحزيب السّياسي ـ وليس التسييس أو التّسيس ـ هي العلّة نفسها من منع مثل تلك التحزيبات وهي : إستجماع شروط التكافل والتعاون والتعارف والقبول مهما كانت التعدديات كبيرة وكثيرة ـ ومنها التّعدد الدّيني نفسه في المجتمعات المتعدّدة دينيا وتونس لا تشذ ّعن ذلك كثيرا ـ لوأد دابر الفرقة والإنقسام لأي سبب كان ولو كان السبب دينيا. ولا مشروعية لأي دين ـ ولو كان الإسلام نفسه ـ يفرّق النّاس ولا يجمع شملهم. وحاشا الإسلام أن يكون عامل تفريق إلاّ أن يكون حملته وحملة خطابه أدعياء.
هما محذوران إذن : التدجين والتحزيب.
التدجين تمارسه الدولة التي تعمل على تحويل المساجد أوكار جهل وأميّة وتدين أسطوري خرافي. والتحزيب تمارسه بعض التيارات السلفية المغشوشة في الغالب وليست وحدها في هذا الإثم. إذ الدولة نفسها تزاول التحزيب السياسي وذلك عندما تستعيد الأبواق التي كانت تستخدم المساجد في عهد المخلوع بن علي لتوسيع دائرة الفساد والإفساد. وبين التدجين والتحزيب ـ بمعنييه السياسي والفئوي ـ هناك طريق ثالث إسمه : رسالة المسجد هي رسالة الإسلام نفسها أي رسالة التحرير الجامع الذي لا يحرر الناس من عبادة القبور ليجعل منهم عبدة للطغاة. هي رسالة مدادها العلم والمعرفة وليس البهلوانيات التي نفق سوقها عند كثير من الخطباء. هي رسالة تجمع الناس كلهم على طريق واحد فمن أبى فله ذلك إلا أن يبغي وحسابه على رب العالمين يوم الدّين. 
تحرير المشكلة وحلها عند الحسن البصري.
كيف ذاك؟ هذا رجل من أجل التابعين ورعا كما يروى عنه. قيل لبعض الأمراء الذين عاصرهم الرجل أنه لا يغشى أبوابكم؟ فأجاب بصدق قائلا : «إحتجنا إلى دينه ولم يحتج إلى أموالنا لذلك نأتيه ولا يأتينا». إنّما نشأت النكبة عندما خرّ المجتمع صريعا جاثيا في وجه الدّولة التي أمّمت الحقل السّياسي بالكلية تقريبا وفرضت سلطانها على أعرق وأكبر مؤسّسة أهليّة مدنيّة لتغدق على طاقمها ولنا في تراثنا « المجيد» عبارة «إقطع لسانه» أي بالمال. حاول أحدهم أن يعدل النصاب فقال لمعاوية وهو على عرشه وبين ملإه : «السلام على الأجير» فثار الملأ محتجا ولكن أسعف معاوية دهاؤه ليتخلّص من الموقف الحرج ومن الجانبين بذكائه المعهود. هي معركة حامية الوطيس إذن علينا جميعا خوضها لتحرير المجتمع ومؤسساته من سلطان الدولة أن ينبسط عليها ببغي وظلم إذ لو خضع ثلث الخطباء فحسب لسياسة « إقطع لسانه» طوعا أو كرها لأضحت مساجدنا أضرحة يؤمن فيها المصلون وراء هذا الدعاء الذي نشأ يوما فينا حقيقة لا خيالا:  «ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار».
-----
-  باحث تونسي مقيم في ألمانيا
brikhedi@yahoo.de