قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
الكتاب والإرهاب
 «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، هذا هو شعار المرحلة الحالية والمعركة بالطبع هي معركة القضاء على الإرهاب، وبغض النّظر عن المداد الذي سال ويسيل كلّ يوم في ما يحبر من مقالات هنا وهناك، فانّنا لم نستطع بعد أن نقارب موضوع الإرهاب مقاربة عميقة وربما سنحتاج الى نواة أخرى وللكثير من الضحايا حتى نتّفق في النهاية على أنّ الحلّ لا يكمن في المواجهة الأمنيّة فقط ولا في فرض أجندات بعينها على النّاس وإنّما يكمن الحلّ في مقاربة شاملة هدفها الوصول كما يفترض إلى تأسيس دولة وطنية جامعة، ترتقي بالانسان في شتى المجالات وتتيح للجميع فرص المشاركة البنّاءة في تقرير المصير.
(2)
اللّذين يكتبون وهم في سعة من أمرهم عن ضرورة تجفيف منابع الإرهاب محاولين في كلّ مرّة القفز على الحقائق، ليسوا بالطّبع كمن يسقط ضحيّة للإرهاب شهيدا أو جريحا ولا هم كعوائل هؤلاء الشّهداء والجرحى، وإن كان من الضّروري مساهمة أطراف متعدّدة في تناول موضوع الإرهاب باعتباره خطرا داهما يهدّد الوطن في وجوده، فلن نجد أمرا أشدّ إلحاحا من فتح المجال أمام الجميع من كل الاختصاصات حتى يساهموا بالقدر اللاّزم في مواجهة هذه الآفة على مختلف الأصعدة والتقليل من خطرها على الوطن والمواطنين، ومن نافل القول حينئذ أنّ الأمر لا يجب أن يقتصر على السّياسيين والإعلاميين والأمنيين وحدهم وإنّما يجب أن يتعدّاه إلى ذوي الرأي من المفكرين والجامعيين وأخصائي العلوم الانسانية ومجتهدي الدّين وعلمائه المشهود لهم بالاعتدال والمعرفة، وهذا أمر ممكن التحقّق وسيكون له عظيم النّفع في القضاء على هذه الظاهرة الغريبة عن المجتمع وعن الدّين في آن واحد.
(3)
ثمّة ضرورة ملحّة لحماية الناشئة من الوقوع في براثن الانحراف بجميع أشكاله، ولكن هذه الضرورة تصبح أكثر إلحاحا حين يتعلق الأمر بحمايتها من السّقوط فريسة لتجّار الدّم من الإرهابيّين، وإذا كان المجتمع جادّا في مسعاه هذا فليس أمامه بدّ من مراجعة كل ما يتعلق بأساليب التنشئة الاجتماعية السليمة من بواكير الصّبا وصولا الى الشباب .من هنا يبدو جليّا أنّ تفاقم ظاهرة الإرهاب لم يحدث صدفة ولا كان نابعا فقط عن رغبة في التغيير أخطأت وسائلها وأهدافها، وإنّما هومحصلة لعوامل عدّة لعلّ أهمّها ما يعانيه الشّباب من تهميش ثقافيّ وسياسي ومن حرمان اجتماعي بسبب البطالة وانسداد الأفق وهو أيضا محصلة لنمط تنموي ونموذج اجتماعي وافد من الشّرق ومن الغرب لا يتيح للنشء سوى استهلاك ما تحمله رياح النموذجين فيزداد غربة كلّما أوغل في أيّ منهما، فهو في كلتا الحالتين منبت لا حول له ولا قوة، وهو في أحسن الأحوال لاهث وراء سراب المدنية والحضارة في النّموذج الغربي للاقتداء وهو متوهّم قوّة وأدات تدمير في النّموذج الشّرقي. 
(4)
لن نستطيع التّوسع في الحديث عن موضوع بمثل هذه الأهمية في حيز مقال قصير ولكن يكفي أن نذكر على سبيل المثال أنّ علاقة التونسيين بالكتاب ما فتئت في انحدار متواصل وهذا ليس حالهم وحدهم بل هو حالة عامّة في الوطن العربي كله، ولعلّنا نلاحظ بسهولة قلّة الباحثين عن الكتاب في كل المعارض التي تقام في البلاد، وقلّة المترددين على دور الثّقافة وعلى المكتبات العمومية، ولا يتعلّق الأمر فقط بعجز النّاس عامّة عن شراء الكتاب لغلاء ثمنه وإنّما يتعلّق بعزوف النّاس عامّة والشباب خاصّة عن الكتاب وقراءته إذ أنّنا لا نجانب الصّواب إذا قلنا أنّ الغالب الأعم من الشّباب لا يستشعر الحاجة للقراءة ولا يتذوّق شيئا من إبداع المبدعين وإنّما يكتفي بما يملى عليه أثناء التحصيل الدراسي علي هزالته ولا تجد عنده أي رغبة في الأطلاع أو أي حافز للتواصل مع ثقافقته أو مثقفيه ولا مع ثقافات العالم وابداعاتها من الكتب في شتي المجالات وقد قيل أمة اقرأ لا تقرأ.
(5)
إنّنا إذ نشير إلى أهمّية الكتاب كرافد من روافد المعرفة وكوسيلة من أهمّ وسائل التّواصل مع الإبداع والمبدعيين، فإنّنا لا نغفل أهمّية الوسائل الأخرى ولكنّنا نودّ التّأكيد فقط على مقدار ما نعانيه من تخلّف حضاري على صعيد الإنتاج المعرفي والإبداعي الجاد حتى أنّ إسبانيا وحدها تنتج ما يفوق إنتاج العالم العربي كلّه في السّنة الواحدة وأنّ إنتاجنا من الكتب لا يزيد عن الواحد في المائة من الإنتاج العالمي . ولعلّنا نلاحظ مدى القصور المعرفي عند أبنائنا ومدى نفورهم من الكتاب وفساد الذّائقة الأدبية والفنية عندهم .
وقد جرى التركيز في السّنوات الفارطة وفي فترة حكم المخلوع خاصّة على أنّ الإنتاج الغالب من الكتب يتعلّق بالكتاب الدّيني أي ذلك الذي يتناول مسائل الدّين وقد تمّ التّأكيد دائما على خطورة هذه الكتب ومنعها بالجملة أحيانا وهذا الإدّعاء فضلا عن تهافته لا يريد أن يرى الأمر إلاّ من زاوية المقاربة الأمنيّة إذ أنّ ما يبذل من جهد في مجال تصحيح المفاهيم وتطوير المقولات الدّينية هو من الأهميّة ومن التّطور بمكان ولكنّنا نتناول الأمر من باب سدّ الذّرائع فنمنع الجيّد بمثل ما نمنع الغثّ ونفرض على النّاشئة فرضا أن تبحث بمفردها عمّا يروي ضمأها وقد لا تجده إلاّ في ما لا نريد لها أن تقع عليه فيكون الكتاب حينئذ محفزا على التّشدد بدل الانفتاح والوسطية وتلك لعمري أهمّ مقدّمات الغلوّ في الدّين.
 .------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com