شخصيات

بقلم
التحرير الإصلاح
ابن خلدون
 هو أحد أعلام الحضارة الإسلاميّة، وهو عبقري متميّز ترك بصمات واضحة على الحضارة الإنسانية عامة، كان عالمًا موسوعيًا متعدد المعارف والعلوم، وهو رائد مجدّد في كثير من العلوم والفنون. هو المؤسس الأول لعلم الاجتماع وعلم العمران، أخضع الظواهر الاجتماعية للقوانين وسبق «مالتس» إلى نظرية تزايد السكان وهو واضع أسس علم التاريخ وأحد رواد فن الترجمة الذاتية، كما أنه أحد العلماء الراسخين في علم الحديث، وأحد فقهاء المالكية المعدودين، واختص في مجالات أخرى من بينها اللغة والتربية والفن والصناعة وترك وراءه نظرة موسوعية أثرت في رواد النهضة الأولى أيما تأثير. 
قال عنه مؤلف موسوعة « قصة الحضارة» أرنولد توينبي: « ابتكر ابن خلدون وصاغ فلسفة للتاريخ هي بدون شك أعظم ما توصل إليه الفكر البشري في مختلف العصور والأمم». وقال عنه المفكر روجيه غارودي: «ففيما يتعلق بدراسة هيكل المجتمعات وتطورها فإن أكثر الوجوه يمثل تقدما يتمثل في شخص ابن خلدون العالم والفنان ورجل الحرب والفقية والفيلسوف الذي يضارع عمالقة النهضة عندنا بعبقريته العالمية منذ القرن الرابع عشر» وقال عنه إيف لاكوس «إن ابن خلدون كان مكتشفا لأخطر ظاهرة في عصرنا وهي ظاهرة التخلف وعالجها بأسلوبنا الحديث فكان زميلا لنا ومعلما»
هو عبد الرحمن بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، ولي الدين الحضرمي الإشبيلي ولد في تونس سنة 732 هـ (1332م) من أسرة أندلسية ذات أصول عربيّة نزحت إلى تونس في منتصف القرن السابع الهجري. تلقى تعليمه على يد والده الذي اهتم بتعليمه الفقه والأدب العربي وحفظه للقرآن فأرسله ليتعلم أكثر منذ حداثته على يد كبار العلماء في تونس آنذاك. بعد أن فقد أباه ومعلميه نتيجة وباء الطاعون الذي اجتاح البلاد سنة 749 هـ ، غادر البلاد ليعيش متعلّما ومعلّما وممارسا للسياسة بين مدن شمال إفريقيا والأندلس حيث رحل إلى بسكرة وبجاية وتلمسان ومراكش وفاس وغرناطة. لم يقنط ولم يكل أو يملّ ، فحين تضيق به الأرض يرحل وكلّه أمل في أن يجد مكانا يعمّق فيه علمه وينشره حتّى استقر به المقام سنة 784 هـ في القاهرة حيث أكرمه سلطانها الظاهر برقوق، فعمل بها أستاذاً للفقه المالكي ثم قاضي القضاة المالكيين ، وظلَّ بها فترة تناهز ربع قرن، تخللها زيارته لدمشق رحلاته كسفير لعقد اتفاقات للتصالح بين الدول إلى حين وفاته سنة 808هـ (1406م) عن عمر بلغ ستة وسبعين عامًا. 
لم يعرف التاريخ السياسي العربي الاسلامي رجلا ملئت حياته بالمغامرات والأحداث  مثل ابن خلدون حيث تقلّب كثيرا في مواقفه من الحكام ودخل معهم في صراعات اعتمد فيها على دهائه وتعرّض في مسيرته إلى السجن والإبعاد لكنّه جلب لنفسه الاحترام حيثما رحل نتيجة حبّه للعمل وعزيمته  وعبقريته الفذّة وطموحه وتواضع.
وتعد ترجمة حياة ابن خلدون من أكثر ترجمات شخصيات التاريخ الإسلامي توثيقا بسبب المؤلف الذي وضعه ابن خلدون «رحلة ابن خلدون في المغرب والمشرق» ليؤرخ لحياته و تجاربه، روى فيه فصولا من حياته بجميع ما فيها من ايجابيات وسلبيات وذكر فيه الكثير من تفاصيل حياته المهنية في مجال السياسة والتأليف والرحلات، لكنه لم يضمنها كثيرا من تفاصيل حياته الشخصية والعائلية.
قام ابن خلدون بدراسة تحليلية لتاريخ العرب والمسلمين، معتمدا منهجاً استقرائياً استنتاجياً، وعرض محتويات الأحداث التاريخية على معيار العقل حتى تسلم من الكذب والتزييف، فكان بذلك مجدداً في علم التاريخ. 
عدد المؤرخون لابن خلدون عددا من المصنفات في التاريخ والحساب والمنطق غير أن من أشهر كتبه كتاب بعنوان: «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، وهو يقع في سبعة مجلدات وأولها المقدمة، وهي عبارة عن مدخل موسع لهذا الكتاب وفيها يتحدث ابن خلدون ويؤصل لآرائه في الجغرافيا والعمران والفلك وأحوال البشر وطبائعهم والمؤثرات التي تميز بعضهم عن الآخر حيث عالج ابن خلدون في مقدّمته واقعات العمران البشري، التي تشمل كل القواعد في الاتجاهات العامة التي يسلكها أفراد المجتمع في تنظيم شؤونهم الجماعية، وضبط العلاقات وتنسيقها «الظواهر الاجتماعية».
إن أهمية ابن خلدون ليس فقط من جهة التاريخ والعمران بل من جهة الأخلاق والسياسة لأن نظرته الواقعية مكنته من فهم طبيعة الملك وعلاقة الروحي بالدنيوي وتفسير كيفية انتقال الدول من البداوة الى الحضارة ووضع قانون يحدد المراحل وأطوار صعود الدول وانحطاطها. وقد حذّر ابن خلدون  بأن الحضارة لا تدوم والـدور يعود على الجميع ونبه إلى أن المسألة الأساسية ليست في البحث عن الشروط المساعدة على السؤدد بل عن الشروط المبعدة للانحطاط والتخلف.
رحل ابن خلدون منذ قرون ولكنه يبقى شاهدا على عظمة الفكر الإسلامي المتميز بالدقة والجدية العلمية والقدرة على التجديد ودوره في إثراء الفكر الإنساني.