قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
نكبة العرب وثوراتهم
 (1)
نكبة العرب خصوصا والمسلمون عموما لا تنتهي فصولها إذ لا يكاد ينتهي فصل حتى يبدأ فصل آخر في تعاقب محيّر لذوي الألباب، فقد كان أجدادنا يعتقدون أنّ تحرّرهم من الاستعمار كفيل وحده بخروجهم من التّخلف ولحاقهم بركب الشّعوب المتقدّمة غير أنّ الاستعمار رحل بعد سنوات من الكفاح والجهاد والألم ومكابدة الفقر والحرمان ولم يخلف وراءه إلاّ أنظمة كان بعضها أشدّ على النّاس من المستعمر.
اختفت من قاموس السّياسة مفردات الاستعمار والجهاد والمقاومة وحلّت محلّها مفردات البناء والقضاء على التّخلف واللّحاق بركب الحضارة وجاءت الأحزاب والثّورات بفكرة الدّولة الوطنيّة وظنّ الجميع أنّ حكامهم سوف يكونون منهم وأنّهم أصبحوا بفضلهم مالكين لثرواتهم وعقولهم وأوطانهم ولكن تعاقب السّنين جعل الجميع يدرك أنّ الأمر لم يكن أكثر من وهم و أنّ الدّولة الوطنيّة لم تفلح في تحقيق معظم شعاراتها وأنّما  انحسرت في شخص حاكمها ومن والاه لتتحوّل إلى طاحونة تطحن البلد بمن فيه وليس أمام النّاس إلاّ القبول بالواقع وبمقاربة الحاكم بأمره مقاربة وحيدة يُدار بها شأن الوطن وشأن الإنسان وإلاّ فالعصى لمن عصى و السّجون شاهدة على كل شيء.  
(2)
لم تكن نكبة الأوطان في حكّامها وأحزابها الحاكمة وإنّما كانت نكبتها الكبرى في نخبتها، فقد نشأت نخبها ضمن الفضاء العام الذي سيطر عليه الحاكم بأمره، فضاء كان فيه للسّياسة التّربوية والثقافية  قصب السّبق في الصّراع مع المجتمع وقيمه وعبثا حاول النّاس على مدى عقود أن يتحرّروا من قبضة الحاكم في التّعليم والثقافة، وأن يدلوا بدلوهم كلّ من موقعه في صناعة الإنسان القادر على تحقيق أهداف المشروع الوطني الذي يخرج المجتمع حقيقة من ظلمات التّخلف الحضاري إلى نور المعارف والرّقي .
لا ندّعي أنّ النّخبة كانت صنيعة الاستعمار وإنّما نريد القول أنّ تواطؤا ما بين المستعمر القديم والمستبد الجديد كان كفيلا بتوليد نخبة منبتة عن مجتمعها، تدين لغته وتسم دينه بالرّجعية وتتّهم تاريخه كلّه بالاستبداد والدّمويّة والعجز عن صناعة إنسان متحضّر. نخبة تصارع من داخله للقضاء على كل موروثه الحضاري و تدّعي زورا أنّها ترغب في تحريره من عوامل التّخلف الكامنة فيه، وكلّما ازدادت اصطداما به كلّما قوي تحالفها مع الحاكم المستبدّ حتى كادا يصبحان وجهين لعملة واحدة.
(3)
أثبتت موجة الثّورات العربيّة الحديثة صحّة فكرة التّأثير المتبادل، ليس في العالم فحسب بل في فضاءنا العربي خاصّة  إذ بدأت إرهاصات الثّورة تتعاقب بمجرّد نجاح الثّورة التونسيّة في أحداث تغيير درامي في و ضع البلد، وهكذا امتدّت الثّورة الى مصر وليبيا واليمن وسوريا، وكان مأمولا أن تمتدّ إلى بلدان أخرى لا يختلف واقعها عن بلدان الثورات في شئ .غير أنّ هذه الثّورات أثبتت أيضا حجم التّأثير المتبادل في حالة الجزر كما في حالة المدّ، وليس أدلّ على ذلك ممّا أعقب الانقلاب على الثّورة في مصر من انتكاس في كل الثورات العربية وإن بطرق متفاوتة. ولعلّنا سوف نتأكّد أكثر مع تلاحق الأيّام أنّ نكبة مجتمعاتنا في ثوراتها إن وئدت، لن تتمّ من دون مساهمة النّخبة التي تربّت و ترعرعت في كنف الاستعمار ومن ورثه من نظم الاستبداد. وأنّنا سوف نكون إزاء حالة فريدة في التّاريخ الحديث حيث تتولى النّخبة الغارقة في الوهم حرق أوطانها أو المساعدة في ذلك نكاية في مجتمعاتها التي لم تسلمها طواعية عنان قيادها.
ولعلّنا نتذكر هنا أنّ ما فعله العسكر في مصر لم يزد عن كونه قام بتجميع الصّف الثّوري من غير الإسلاميين مع المستفيدين من سقوط الثّورة  مضافا إليهم الأحزاب التي لم تجد لها حظّا يذكر بعد الثّورة فلمّا قضى مأربه وانفض السّامر بدأ بالانقضاض على الجميع بشكل فضيع لم يسبق له مثيل.
(4)
ليست المشكلة في كون بعض نخبنا تريد الهيمنة فكريّا وسياسيّا على مجتمعاتها بطرق غير ديمقراطية لأنّ هذه النخبة تدرك أنّها لن تستطيع ذلك حتى لو عاد الاستعمار من جديد ووضعها في هرم السّلطة، وإنّما المشكلة في كون هذه النّخبة باتت تشكّل عامل تعطيل لقدرات المجتمع بدءا بمحاولتها استنساخ نماذج مشوّهة من تاريخنا أو من تاريخ غيرنا من جهة ومحاولاتها التي لا تنتهي في تحويل الصّراع  من صراع مع الاستعمار وقواه القديمة والحديثة إلى صراع بيني داخل المجتمع الواحد بين من تراه هي جديرا بالحياة في كنف قيمها هي وبين من تراه غير جدير بالحياة أصلا لأنّه يخالف قيمها ومشروعها المجتمعي. وهذا في حدّ ذاته يعدّ إرهابا بكلّ المواصفات لأنّه يحول بين النّاس وحقّها في أوطانها ولعلّنا لا نجانب الحقيقة في شئ إذا قلنا أنّ مقاومة الإرهاب لن تجدي نفعا ما دمنا لا نبذل الجهد اللاّزم في التقليل من خطر هذه الدّعوات إلى الاستئصال والانقسام وما دمنا لم ندرك حجم استفادة أعداء اليوم والأمس من كلّ ما يهدّد أوطاننا ولنا في الرّاحة التي يشعر بها الكيان الغاصب في فلسطين خير دليل اذ استطاع تحويل الصّراع من صراع معه الى تحالف معه وتلك نكبة النكبات.
------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com