الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد الرابع والعشرين

 بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله

 

تعيش تونس هذه الأيام حالة من الاحتقان السياسي في غاية الخطورة خاصة بعد مقتل الرفيق شكري بلعيد وفشل القوى السياسية في الوصول إلى حلّ لمسألة التحوير الوزاري وبناء الثقة في ما بينها وفي ظل أجواء مشحونة بالخلافات والانقسامات والنوايا غير الحسنة التي يضمرها بعض الفرقاء المشاركون في العملية السياسية واعتمادهم اسلوب التجييش وحشد الانصار في الشارع لإثبات الوجود واستعراض القوّة . وإذا أضفنا إلى هذا الاحتقان هشاشة الوضع الاجتماعي والصعوبات الاقتصادية المتراكمة منذ سنتين، فإنه لا يمكن إخفاء مخاوفنا الحقيقية من الانزلاق نحو اعتماد العنف السياسي المنظم كأسلوب للتعامل بين الفرقاء السياسيين وعندها ستحصل الكارثة لا قدّر الله .. فبلادنا لا تستطيع تحمّل مزيد من الأزمات والفتن. ونحن الآن أمام لحظة فارقة في تاريخ ثورتنا ستتحمّل النخبة السياسية والثقافية مسؤوليتها في توجيه المسار في الاتجاه الصحيح أو السقوط المدوّي المصحوب بموجات من العنف ستأتي على الأخضر واليابس وسيتضرر منها الفاعل والمفعول فيه وسيكتوي بها الجميع لأنّ الانزلاق نحو العنف السياسي بجميع أشكاله سيكون إعلانا لنهاية حلم شعب بأكمله دفع من أجله الغالي والرخيص. حلم يتمثل في تأسيس جمهورية المواطنة ودولة مدنية تتسع للجميع وتعمل على تحقيق شعار الثورة المركزي " شغل، حرية، كرامة وطنية".

إن أزمة تونس تكمن في نخبها كما صرّح بذلك السيد حمادي الجبالي لجريدة "الشرق الأوسط" منذ أكثر من شهر. فعوض أن تقوم بمهامها في البحث عن حلول للمشاكل المتراكمة وتقود عملية إعادة البناء  أو على الأقل الخروج من المأزق، غدت هذه النخب جزءا من المشكل لأنها في مجملها مهوسة بالحكم إمّا لأنها حرمت منه طيلة نصف قرن وترى أن الثورة قد فتحت لها الباب بمصراعيه لتتسلّمه وهذا ينطبق على طائفة منها تحمل معها عقدها ومآسيها و50 سنة من القهر والظلم  والمطاردة والسجن وإمّا لأنها تخاف أن تخسره إلى الأبد وهذا ينطبق على طائفة أخرى ارتمت في أحضان الطواغيت ولوبيات الفساد مقابل عطايا وتحقيق الامتيازات فانبرت تدافع عن السلطة السابقة وتبرر ممارساتها، وهي تخشى اليوم من فتح ملفاتها وإبعادها عن موقع القرار ودواليب الدولة. ولا تشترك هاتان الطائفتان إلا في استبطان ثقافة العنف ومنطق الإقصاء ،بوعي أو من دون وعي،وهو ما يجعل المشهد السياسي يتجه عموما إلى مزيد من الاستقطاب الثنائي الحاد ونحو الفرز والانقسام الذي قد يفضي ، لا قدّر الله، إلى المواجهة وإدخال البلاد في دوامة العنف خاصّة وأن الإعلام أو ما يسمّى بالسلطة الرابعة يساهم يوميّا في نشر ثقافة العنف اللفظي والدفع إلى التشنج والصراع وفتح الأبواب للعنف الجسدي. وبين هذه وتلك تتيه الطائفة المتبقية من النخبة المسكونة بفكرة المصلحة العامّة وتكريس الديمقراطية وحقوق الإنسان ويزداد ضعف الخط الوسطي المعتدل ويضيق مجال دعوته ليكون الوطن للجميع وميدان خدمته مفتوح لكل أبنائه مهما اختلفت مشاربهم الفكرية والسياسية.

إن العنف إذا انطلقت شرارته الأولى لن يتوقف قبل تدمير البلاد وتفقير العباد ولنا في تجارب جيراننا عبرة ومثل . وستكون الفرصة مواتية لبعض الأطراف الأجنبية لحشر أنوفها في شأننا الداخلي وتوجيهه نحو تحقيق مصالحها.  فهل ستستفيق النخب من تخمّرها وتقتنع بأنه لا خيار لإبعاد شبح العنف عن بلادنا إلا الحوار والدعوة إلى التهدئة والبحث عن سبل التوافق الوطني أم أنها ستزيد في سرعة التوتّر وتتجه مباشرة إلى التصادم.

" وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " (الأنفال 25)