فلسطين بوصلتنا

بقلم
مصطفى يوسف اللدّاوي
المصالحة الفلسطينيّة بين الترف الفكري والجدل البزنطي
 تكاد لا تتوقف الحوارات الفلسطينيّة في الدّاخل والخارج حول المصالحة الوطنيّة، والأزمة المستحكمة بين حركتي فتح وحماس، والانعكاسات السلبية على القضية الفلسطينية جراء حالة الانقسام الحادّ على الأرض وبين السكان، التي فرقت بين أبناء الشعب الواحد، ومزقت قضيتهم، وشتّت جهودهم، وشوّهت صورتهم، وجعلت منهم مثالاً سيئاً، ونموذجاً لا يحتذى، بعد أن كانت ثورتهم وانتفاضتهم هي القائد والرّائد، والمثال والنموذج، ومضرب المثل لدى شعوب العالم قاطبةً، الذين كانوا يفتخرون بالانضمام إليها والعمل معها، ولا يتردّدون في تقديم العون لهم، وإعلان مساندتهم في نضالهم المشروع.
ولعلّه يوجد اجماع شبه كامل بين مختلف فئات الشّعب الفلسطيني في الدّاخل والخارج على وجوب إتمام المصالحة، وإنهاء الانقسام، والمباشرة في تشكيل مؤسّساتٍ وطنية جامعة، تشارك فيها جميع القوى والفصائل، ولا يستثنى منها فريق، ولا يحرم منها طرفٌ، عقاباً أو اقصاءً، إلاّ إذا رغب فريقٌ من تلقاء نفسه ألاّ يشارك في الحكومة، وألاّ يكون جزءاً من مؤسّسات السّلطة الإدارية، وفق قناعاته الخاصّة، شرط ألاّ يعرقل عمل الحكومة، وألّا يكون سبباً في تعطيل عملها، أو تجميد نشاطها وشلّ حركتها.
وفي سبيل تحقيق المصالحة وإنجاز الوفاق الوطني، عقدت مؤسّساتٌ فلسطينية ودولية، برعاية مؤسّسات علميّة وسياسيّة أفريقيّة وأوروبيّة، عشرات الملتقيات والمنتديات والمؤتمرات، الفكرية والسياسيّة، شارك فيها كتابٌ وباحثون ومختصون، وممثلون عن القوى والفصائل الفلسطينيّة، ونقابيّون وإعلاميّون، وناشطون دوليّون، وخبراء إقليميّون، وأصحاب تجارب دولية سابقة، ممّن مرّت بلادهم في هذه المنعطفات، وعانت شعوبهم من مثل هذه الأزمات، وقد أنفق القائمون على هذه المؤتمرات مبالغ طائلة، سخّرت بأكملها لدعوة المشاركين واستضافتهم، وتحضير الأوراق البحثيّة والمقترحات العملية وتوزيعها، لتكون قاعدة الحوار وأساس النقاش.
يتبارى الباحثون والمتحدّثون على اختلاف مشاربهم وأفكارهم، وتعدّد لغاتهم وأجناسهم، في بيان مخازي الانقسام وعيوبه، وتعداد مساوئه ومضاره، واستعراض نتائجه السّيئة على الشّعب والقضيّة، ويكاد يسمع الحضور من المتحدثين ما يغنيهم عن سؤال الفلسطينيين أنفسهم، الذين يعيشون في الوطن، ويعانون من الانقسام، ويتعرضون لآثاره المقيتة، إذ أن بحوثهم شاملة، ومحاضراتهم وافية، ومعلوماتهم طافية، واحصائياتهم دقيقة، وبياناتهم شافية، وعندهم من الرؤى والأفكار الكثير والغريب، ممّا من شأنه أن ينتشل الفلسطينيين من ضائقتهم، ويخرجهم من أزمتهم، ويحقّق لهم حلمهم والمراد.
يستفيض الباحثون في تحميل المسؤوليّة على الأطراف الفلسطينيّة المختلفة، وتوزيع اللّوم على القوى المهيمنة على الشّارع الفلسطيني، فلا يتردّدون في توجيه أصابع الاتّهام، وتحديد الجهات المسؤولة عن الخرق، والمتسبّبة في الأزمة، والمعطّلة للحلّ، وإن كانوا لا يتفقون على طرفٍ مدانٍ أكثر من الآخر.
إذ أن بعضهم يتهم السلطة الفلسطينية وحركة فتح بالوقوف وراء تعميق الانقسام وتعطيل المصالحة، وأنهم يستجيبون للضغوط الدّولية، ويخضعون للتوجيهات الإسرائيلية، التي تمانع المصالحة، ولا ترغب في إتمامها، وترى أنها تضر بمصالحها، وتعطّل مشروعها، وأنّ السّلطة بالتزامها بالتنسيق الأمني مع العدوّ الصهيوني، وقيامها بعمليات اعتقال ومحاكمة لعناصر وكوادر ينتسبون إلى حركة حماس، فضلاً عن عمليات التضييق والملاحقة والمصادرة التي تمارسها أجهزة أمن السلطة في المناطق الخاضعة لها في الضفة الغربية.
في حين يرى آخرون أن حركة حماس هي المسؤولة عن الحالة المتردية التي وصل إليها الفلسطينيون، وأنها تعرقل أي اتفاق، وترفض تنفيذ بنود المصالحات المتكررة، وأنها دوماً تعود لمناقشة ذات القضايا، وتنكث ما تمّ الاتفاق عليه في لقاءاتٍ سابقة، وأنّها تعطّل عمل حكومة الوفاق، ولا توفّر لها سبل النّجاح، ولا تلتزم إزاءها بتنفيذ ما تمّ الاتّفاق عليه، وهي التي ترفض تمكين الحكومة من إدارة المعابر وخاصّة معبر رفح، الذي يستفيد منه سكّان قطاع غزة جميعاً، ويتضرّرون كلّهم في حال إغلاقه.
ويتّهم ممثلو القوى الفلسطينيّة وبعض المستقلين والباحثين حركتي فتح وحماس بأنهما يستأثران بالقرار، ويستحوذان على السلطة، وينفردان في النقاش، ويرفضان مشاركة الآخرين في الحوار، ويتصرفان وكأنهما وحدهما ولا شريك لهما، وأن الوطن ليس فيه سواهما، ولا ينبغي لغيرهما أن يتدخل في التفكير أو المساعدة في تقديم الحلول            ل     واقتراح المخارج المناسبة.
ولهذا فإنهما يتقاسمان الأزمة، ويتطلعان إلى تقاسم الحلّ، وتوزيع مكاسب المصالحة مكاسب المصالحة على نفسيهما فقط، ويهملان كل الأطراف الأخرى، ويرون أنها  الأخرى، ويرون أنها غير ذات قيمة، ولا أثر لها في المجتمع، تمثيل لها في صفوف ولا تمثيل لها في صفوف الشعب، ولا وزن لها في القرار، في حين أن هذه القوى تؤكد فعاليتها، وتصرّ على وجودها، وترى أنّ المصالحة لا تستقيم بين الاثنين دون أن يكون لها ومعها إطارٌ وطني جامع، يشمل الجميع ولا يستثني أحداً، يحفظها ويحميها، ويحصنها أمام الخطوب والتحديات المحليّة والخارجيّة.
لا يقبل ممثلو الحركتين بالاتّهامات الموجّهة إليهما، ويحاول كلّ فريقٍ أن يبرئ نفسه ويتّهم الآخر، ويسوق على ذلك أدلّة كثيرة، وبراهين متعدّدة، ويعود إلى الوراء سنين طويلة، يفنّد الاتفاقيات، وينبش صفحات الحوار، ويستعيد دور منظمة التّحرير الفلسطينية، التي استطاعت أن تكون الوطن والعنوان، ويدعو من ليس عضواً فيها أن يلحق وينتسب، لأنّه سيكون فيها قوياً، وللشّعب والقضيّة نافعاً ومؤثراً.
بينما يرى فريقٌ آخر أن منظمة التحرير الفلسطينية ليس اطاراً مقدّساً، ولا مرجعاً إلهياً ينبغي الالتزام به، والعمل تحت مظلته، فالمنظمة برأيهم فرّطت وتنازلت، فقد اعترفت بالكيان الصهيوني، وسلمت له بأكثر من 78% من أرض فلسطين، وتنازلت له طوعاً عنها، واكتفت من أرض فلسطين التاريخية بما نسبته 22% فقط، كما أنّها شطبت الميثاق الوطني، وأضفت الشرعيّة على الكثير من سياسات السّلطة، كونها تشكّل المرجعيّة العليا للشّعب والسّلطة.
أفكارٌ كثيرة تُطرح، وكلماتٌ عديدة تُلقى، واتهاماتٌ خطيرة تُتبادل، ونقاشاتٌ مستفيضة لا تتوقف، وأدلّةٌ وبراهين تقدم، وشواهدٌ وأحداثٌ تعرض، وسجالٌ من الكلام لا ينتهي، وأيادٍ لا تتوقف عن طلب الحديث والمداخلة، في جدالٍ بيزنطيٍ لا يتوقف ولا يصل إلى اتفاقٍ أو قناعاتٍ مشتركة، اللهم إلا قناعةً واحدة أكيدة، يتفق عليها الجميع، ويجمعون عليها رأيهم، ويرفعون بها عقيرتهم بعالي صوتهم، دون خجلٍ أو إحساسٍ بالعيب، أن المصالحة مستحيلة، والوفاق مستبعد، والوحدة محرّمة، والتلاقي ممنوع، والانقسام دائم، والفرقة واجبة، والاحتراب قادم، وعلى الشعب أن يصبر ويحتمل، ويقبل ويرضى، ومن لا يعجبه الحال فإنّه يستطيع أن يهاجر ويرحل، فإنّ له في دول أوروبا أو في جوف البحار متسعٌ ومكانٌ.
-----------
-  كاتب فلسطيني
moustafa.leddawi@gmail.com