تأملات

بقلم
يسري بن ساسي
على هذه الأرض حضارة تستحق الحياة
 فسيفساء باردو ما كانت بالنسبة لي قصّة حضارة فحســب ..بل كانت قد ألهمتني  حينما تأمّلتها لأوّل مرّة وجلــت بين زخارفهـــا وتلاوينهـــا مقالا أسميته «ليت العالم فسيفساء»..ليت العالم شعوب وحضــارات منفتحة آفـــاق شمائلها فيّئها على فيّئ.. ليت العالم شعوب وحضارات موصولة رحاب معارفها نيّئها بنيّئ.. ليت العالم شعوب وحضارات مفتولة سراط مناهجها بيّنها ببيّن.. ليت العالم شعــوب وحضارات راسية جلائل مآثرها ميّزها حذو مّيز.. ليتها تقرّ بأنّها مختلفة وأنّ هذا الاختلاف آية الكون وجدول الحياة وطرفة الدّنيا..لكن كل هاته الأمانــي عن حوار الحضــارت وتمازجها تبدو هي النّكتة وتلوّح هي المسخـــرة.. فأضداد الحضــارة وأعداء الإنسانيّة ككلّ مـــرّة وفي كلّ كرّة يأبون ذلك... 
يأبون إلاّ أن تشهد هاته الفسيفساء كما شهدت من قبل نفائس المتاحف والمعابد والمكتبات على غلّهم الدّفين وحقدهم الكمين تجاه الحضارة وهاته المرّة تجاه أرض ما استبطنت يوما كلّ هذا العداء والموت لزائريها وقاطنيها  ..  هاته المرّة شاهدة فسيفساء  باردو الخالدة على اعتلال أنفسهم وضمور ضمائرهم واختلال بواصلهم ... شاهدة أنّ أطروحتهم وكلّ ما به جادت قرائحهم وقحط أفكارهم هو بذر الدّمار والخراب في كلّ شبر وكل مدار ..طمس كلّ حضارة وكلّ تاريخ .. تفتيتنا.. تشتيتنا.. تمزيقنا.. فلا ذكر لنا ولا ذاكرة .. 
الحضـــارة العربيّــة الإسلاميـّــة لم تحــرق مكتبـــات ولا دمّـــرت تــراث شعـــوب ولا هدّمت متاحفا ولا أتلفت مجلّــدات وإن يكــن في تاريخها الكثير من الحروب والويلات فغالبها لم يضمر مسبقا غلوّا على حضارة سبقتها أو تاريخ أمّة تلدتها ولم تكن تتربّــص في الأركان لنسف بدائع  خلّفتها أمم وروائع حاكتها الشعوب ...وقيّم  الدّليل  هاته الفسيفساء وغيرها من أهرامات وحدائق تروي لنا حقبــات من التّاريــخ وتنطــق عن رقي فنّ وإبداع ذوق..
نعم من هنا مرّ البرابرة والرّومان وكانت بيزنطا وجاء الفينيق وعبر الوندال وفتح العرب وكانت الأساطير وكانت القصص عن علّيسة وحنبعل ويوغرطة وكتبوا لنا شيق التّاريخ ودوّن ابن خلدون بعضا من هذا التّاريخ ثمّ صار جزءا من تاريخ أرض جادت بأصيل الحضارة فلم كلّ هذا الغبن ..
نعــــم لربّمـــــــــا لم يترصّـــدوا الفسيفســــاء هاتــه المـــرّة ولكـــــــن ترصـــــــــــدوا الأرواح ولكـــــــنّ المـراد أكـبـــر مـــن قتــل الأفـــراد... أعظــــم مــــن ترهيــب النّـــــــــــــاس ..أهــــول مـــن القتــــل والإجرام .. هو إماطتنـــا من التّاريخ ووئد هــــــذه الحضــارة للأبد وقبلا كانت معركتنا استرداد إشعاع واليوم لمن لا يدركون هي أعتى المعارك التي نخوضها معركة بقاء ووجود وذود عن هويتنا  وذاتنا وصميم  كياننا الذي يضمحلّ شيئا فشيئــا أمـــام فتـــن وحــروب في كلّ رقعـــة من أرضنا .. وليس هؤلاء هاته الفئة الضّالــة من الشّباب التي دفـــع معظمهـــا الجهـــل أو الفقر أو كلاهما معا إلى خنادق الإرهـــاب والتي يتحمّــل مجتمعنــا جــزءا كبيــرا من مسؤولية وقوعها في براثن العنف والمخدرات وليسوا أيضا جملة المرتزقة ممّن دينهم المال ولكن هم تجّار البشر والحروب والسّلاح وبائعو الوهم وصانعو العولمة وداهنو الحرب بالسّلام نعرفهم جيّدا لكنّنا لا نعرفهم حقا.. وأبعد من تقريب الشعوب مرادهم وأنأى من محونا منالهم .. 
هنا بعد كل اللّغات التي عرفناها ونعرفها وسوف نعرفها ..هنا بعد كل الحضارات التي مرّت وبصمتها فينا تركت ..هنا لغة الضّاد ..هنا لغة القرآن ..إنّا جعلناه عربيّا ..هنا الحضارة العربيّة الإسلاميّة باقية على أن يطمزوها و يطمسوها لتغدو هباء منثورا في خضم الدّواعش والمعارك والفتن والحروب ..ستبقى لمن يشاء ولمن لا يشاء لأنّ وإن ندروا وصاروا غرباء ..لازال فينا بعض من ضمائر حيّة وبعض من فكر يقاوم وشيئ من إبداع يصمد أمام قطاّع الحضارة وأعداء الشعوب ويوما ما ستحيا لغة القرآن بعد طول طول سبات..  
-------
-  كاتبة تونسية
docyosra@hotmail.fr