قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
مقدّمة لحراك شعب المواطنين
  (1)
كثيرون هم اللذين استبشروا بالدّعوة إلى حراك شعب المواطنين وكثيرون اعتقدوا منذ اليوم الأول أنّها دعوة ميهمة ليس لها أي أفق، ولكن الجميــع انتظر لعلّ الأيام تأتي بما يدعم وجهتي النظر ولكن الغموض ظلّ قائما و بدأ الخلاف يدبّ داخل الذين سهروا على إخراج الحراك أنفسهم ومنهم من أعلن انسحابه أصلا بما أصبح يهدّد الفكرة نفسها بالفشل.ولم تكن دعوة الرئيس المنصف المرزوقي لتأسيس حراك شعب المواطنين في أعقاب خروجه من السّباق الرئاسي ومن قصر الحكم مبتورة عن سياقها، فقد جاءت إثر تقييم لتجربة حكم من جهة وإثر حراك انتخابيّ شاقّ على مدى ما يقارب الشّهرين من جهة أخرى، ومن ثمّ فقد كانت البدايات السّياسية ومخرجات التقييمات المشتركة لأهل الحراك كل من موقعه وراء بلورة فكرة الحراك بلا شك، غير أنّ هذا العامل السّياسي بامتياز أريد له منذ البداية أن يكون محدود التأثير وقد يُراد له الآن أن يختفي تماما وهذه مفارقة من الصّعب فهمها عند الطّرفين آنفي الذّكر أي المستبشرين بالدّعوة والرّافضين لها أو الغير مقتنعين بجدواها.
الرّئيس المرزوقي رجل فكر ولكنّه رجل سياسة خاض كل معاركه السّابقة وناضل وسجن من أجل أفكاره السّياسية وانتمائه الحزبي ولم يستطع رغم الجهد الذي بذله أن ينزع عنه عباءة السّياسي أو يقنع النّاس بثنائيّة السّياسي والمفكر في شخصيته ومن ثمّ فهل يمكن له أن ينزع عنه عباءة السّياسي الآن بعد أن علق في أذهان الناس كونه الرئيس السّابق؟ وهل يمكنه أن يقود حراكا اجتماعيّا وفكريا بعقل المفكّر والمناظل الحقوقي قاطعا نهائيّا مع كونه الرّئيس وزعيم الحزب السّياسي والمقاتل الشّرسش لنظام لا يصلح ولا يصلح؟
 (2)
أظنّ أنّ فكرة «حراك شعب المواطنين» قد تبلورت فعلا في ذهن الرّئيس بعد نفوره وطائفة من اللّذين معه من مناورات السّياسيين ومماحكاتهم، وقد أذهب حدّ القول بأنّ الرّجل يشعر في قرارة نفسه بالمرارة من السّياسيين ومن السّياسة ومن المثقفيين والمناضلين الذين تركوا مواقع النضال من أجل النّاس وفي سبيل انعتاقهم ليتحوّلوا إلى أدوات لا أكثر في لعبة أكبر منهم لم يكونوا فيها أكثر من وقود لاشعال المعارك، وقد يكون بامكاني أن أضيف بأنّ الرّجل يشعر بنوع من الإحباط من أصدقاء الأمس اللّذين تحوّلوا إلى قطّاع طرق مهمتهم قطع الطريق عنه والحيلولة دونه ودون الوصول ثانية الى كرسي الرّئاسة مع يقينهم أنّه الأفضل للتّجربة وللوطن إن لم يكن في شخصه فقط فبفكره ومواقفه وممارساته. ولا شكّ في أنّ الفكرة بنت بيئتها في البداية على الأقل ومن ثمّ فلن نجانب الصّواب اذا قلنا أنّ في الأمر شيء من الهروب إلى الأمام نتيجة للشّعور بالعجز أو الإحباط ولكن هذا لن يكون بالامكان تقديم تبريرات بشأنه تزيد الأمر تعقيدا في مشهد معقّد أصلا.
انهارت أحزاب وكادت أخرى تنهار وصعدت طبقة سياسية كانت في أحسن الأحوال تتمنّي السّلامة وعادت أمور وممارسات كانت تعدّ من العهد الماضي، ليس هذا فحسب بل كدنا نظن الثّورة في عداد الأموات، ولقد جرى التّأكيد خلال الانتخابات الفارطة على أنّ البلد يتّجه بخطى حثيثة نحو انقسام حادّ بين نموذجين فضلا عن الانقسام الجهوي وذلك المتعلّق بفرص النّمو وتوزيع الثّورة ، ومن ثمّ فقد كان رهان الذين راهنوا على فوز الرّئيس المرزوقي بالرّئاسة رهانا استراتيجيّا ظنّا منهم أن ما حدث وما يمكن أن يحدث من أزمات وهزّات لا يمكن تلافيه أو الحدّ منه سوى بالتمترس وراء الرّجل من أجل الحفاظ على آخر المواقع التي لم تسحب بعد لفائدة من يظنّون أنّها الثّورة المضادّة، فلمّا تيقنوا من خروجه من السّباق بإعلان النتائج جاءوا بفكرة «حراك شعب المواطنين» كبديل ثوري لمواجهة المنظومة القديمة من جهة وكأداة مدنيّة من أدوات الصّراع لا على الجهة السّياسية فقط ولكن على كل الجهات السياسية والثقافية والاجتماعية والفكرية والجمعياتية والمدنية، حراكا يضمّ كل من يرغب في المشاركة من المواطنين المهتمين بشأن الوطن. ولكن هل كان توقيت الإعلان مناسبا ؟ وهل كان الجمهور جاهزا لهذا الاعلان وخاصة ذلك الجمهور المستهدف مباشرة؟ وهل كان للهزيمة الانتخابيّة وحدها فضل التأثير أم كان لجملة من العوامل الأخرى تأثيرها من دون أن ينجح أهل الحراك في ابرازها بالقدر الضروري؟
(3)
من يلامس المشهد السّياسي والحزبي يدرك أنّ الحزب الوحيد الذي يبدو متماسكا فكريّا وتنظيميا هو حركة النهضة وأنّه الحزب الوحيد القادر على التّواصل مع الحكم من دون قوّة دفع إعلامية أو بروبقندا كاذبة بل إنّه كان قادرا على الصمود في وجه كل الهزّات التي استهدفته واستهدفت البلد بعد الثورة. ولعلّنا نجزم أنّه كان السدّ المنيع في وجه اللآلة القديمة وأتباع النّظام البائد ولولاه لكان الأمر حسم في الانتخابات الأولى حيث لم يكن بمقدور أحد غير حركة النهضة الوقوف في وجه الثورة المضادة  في ظل التّراخي العام وانشغال الناس بالمطلبية المشطّة ومغادرة الغالبية صفوف الثورة مبكرا.
صحيح أنّنا نكاد نحصي ما يزيد عن المائة حزب  وصحيح أيضا أن النّهضة لم تكن في المشهد السّياسي وحدها وإنّما كانت مسنودة بأحزاب أخرى فازت معها وشاركتها أعباء الحكم أو ساندتها ووقفت إلى جانبها وآزرتها، ولكن حجم المناكفة وكثرة التآمر ومحاولة تصوير المشهد السّياسي على أنّه صراع حضاري بين نموذجين مجتمعيين مختلفين ظلّ يقضم من رصيد الجميع حتى أودى بمن أودى وأضعف من أضعف ولم يبق من المشهد إلاّ غبار الأحداث بعد سقوط طبقة وصعود أخرى. ونحن إذ نقرّ بهذا كلّه فلن يكون ذلك مبررا لمزيد من اللاّمبالات إذ سنحتاج دائما إلى تيّار ثالث يمكن لأن يكون سندا لحركة النهضة وغيرها من الأحزاب التي بقيت في المشهد السّياسي الحالي وفيّة للثورة أو على الأقل طامحة لذلك ولا شك أنّ «حراك شعب المواطنين» يجب أن يتنزّل في هذا الإطار حتّى لا يصطدم بحركة النّهضة من جهة ولا يساهم من حيث لا يشاء في مزيد من التشضّي ممّا سوف يزيد في نفور النّاس من كل عمل من شأنه المشاركة في تحديد مصير الوطن في قادم الأيام والسنوات...
(4)
يوشك أن يحلّ موعد الإعلان عن بداية الحراك فعليّا يوم 20 مارس الجاري أو بعده بقليل ولعلّ من أوكد الأولويّات في نظري إعادة النّظر في التسمية لأنّها توحي بشيء من العنصرية وتقسيم للنّاس بين مواطنين وآخرين لم يصبحوا كذلك بعد، ولا يكفي حسن النّية دائما خاصّة كون الحراك مدعو للتّفاعل مع غالبيّة النّاس بغض النّظر عن الانتماء الحزبي أو المناطقي. ولكي يكون الحراك رافدا من روافد التغيير والمشاركة فإنّ عليه أن ينآى بنفسه عن الدّخول في صراع  مع الأحزاب حول قواعدها بل عليه أن يسعى نحو إتاحة الفرص الممكنة لمشاركة الجميع بأن يكون فضاءا جامعا لليمين واليسار وللسياسي وغير السياسي، وللمثقف والمفكر وكذلك لعموم المواطنين من بنزرت إلى بنقردان. لن تربح السّاحة السّياسيّة شيئا إذا انضاف إليها مولود جديد ولكنّنا سنربح جميعا إذا أتاح لنا الحراك فرصة جماعيّة للالتقاء حول مشروع للوطن هدفه البناء والحفاظ على المكاسب في كنف الديمقراطية والحفاظ على الهويّة والرّقعة الجغرافيّة والحفاظ خاصّة على روح الثّورة التي رفعت شعارات الحرّية والشّغل والكرامة الوطنيّة .
------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com