في ذكرى عيد ميلاد الإصلاح

بقلم
حسين السنوسي
قراءة غير موضوعيّة في مجلّة «الإصلاح» (4)
 (4) حول التّربية ودورها في الإصلاح  
1.تساءلنا في العدد الفارط عن علاقة التعّليم بفشل التّنمية ونجيب هنا بالقول إنّ التّعليم ليس مسؤولا عن حالة اللاتنمية بقدر ما هو جزء منها. هناك حلقة مفرغة تربط بين تعليم آداؤه دون المستوى بكثير وبين بيئة اقتصاديّة يرسم ملامحها قطاع عام تنخره المحسوبيّة والزّبونيّة وتغيب فيه العقلانيّة الإقتصاديّة  وقطاع خاص يتميّز بـ «قصور آدائه وضعف قدرته على خلق فرص عمل». لذلك فإنّنا نتّفق إلى حدّ كبيرمع مصباح الشّيباني حين يعتبر أنّه من الخطإ «تحميل التّعليم مسؤوليّة بطالة الشّباب المتعلّم مع إغفال ما للسّياسات الإقتصاديّة والإجتماعيّة التّشغيليّة من تأثير فاعل في إنتاج وإعادة إنتاج وتأزيم هذه المعضلة التّربويّة والإجتماعيّة»(1)  . 
2. المطلوب إذن كسر هذه الحلقة المفرغة وكما قلنا أعلاه إنّ الإصلاح يحتاج إلى تنمية تحتاج بدورها إلى إصلاح فإنّنا نؤكّد هنا على أن الإصلاح والتّنمية يتطلّبان  تعليما ناجعا وتربية تمدّ المجتمع بقيم إيجابيّة ولكنّ التّعليم والتّربية يحتاجان لآداء دورهما إلى سياسات عامّة وسلوكات فرديّة وإلى غير ذلك من «العناصر الإقتصاديّة والسّياسيّة والإجتماعيّة والثّقافيّة والرّمزيّة الدّافعة للمعرفة»(2)    
3. لا غرابة أن يكون موضـــوع التّربيـــة أكثـــر المواضيع حضورا في مجلّة «الإصلاح» ولا غرابة أن يعتبر كتاّب «الإصلاح» أنّ إصلاح المنظومة التّربويّـــة هو الإصلاح الذي لا يتمّ الإصلاح إلّا به (3) فقد تفطّـــن روّاد النّهضـــة في هذه الأمّة منذ أكثـــر من قرن إلى أنّ الوصول إلى الحرّيـــة والعـــدل والشـــورى وغيرها من الأهداف العظيمـــة التّي رسموها لنـــا لا يكون إلّا إذا حملـــت هذه الأهداف وحمتها شعوب تؤمن بهـــا وكيف لشعوب شكّـــل الإنحطاط  قيمها أن تنخرط في هذه القيـــم الجّديدة بدون تربية جديدة؟   
4. كلّ المصلحين تقريبا كانوا رجال تربية وتعليم فكان منهم من باشر التّدريس ومن سعى إلى تجديد مناهج التّعليم ومضامينه (4) ومن بعث المؤسّسات التّعليميّة الجّديدة (5)   إضافة إلى اعتمادهم جميعا على الكتابة -الصّحفيّة والعلميّة- أداة للوصول إلى من لم يتّصل بهم مباشرة. لا غرابة في هذا ما دام  «إصلاح حال الإمّة ونهضتها إنّما يتمّان بتغيير فكرها ووعيها» (6) والسّبيل إلى هذا التّغيير يمرّ حتما بتربية تزرع القيم الإيجابيّة وتعليم يجعل النّاشئة يستوعبون علوم عصرهم ويهيّئهم إلى المساهمة في تطويرها.   
5. هدف التّربية هو ببساطة بناء الإنسان الجّديد. يتميّزهذا الإنسان-المشروع أوّلا بتخلّصه من أخلاق العبيد التي أنتجت لنا هذا الكمّ الهائل من الأنذال واللّصوص والمنافقين والعجّز والإنتهازيّين وثانيا بتقديسه للعمل واحترامه للوقت وثالثا بعقلانيّته التّي تحميه من القراءات الخرافيّة للكون والمجتمع ومن العلاقات  المتّشنّجة بنفسه وبالآخرين. 
6. هذا الإنسان-المشروع هو الإنسان-الخليفة لذلك فإنّنا نتّفق مع مصدّق الجليدي حين يسعى إلى تأسيس التّربية على قاعدة قرآنيّة إستخلافيّــة (7) فيجعل منها كلّا متكاملا بمكوّناته الرّوحيّة والأخلاقيّة والصّحيّة والعقليّة والجّماليّة والمهنيّة والإجتماعيّة والبيئيّة.  نتّفق أيضا مع أبي يعرب المرزوقي  حين يقدّم ترجمة عمليّـــة (8) لهذه الرّؤية في شكل نظام تربويّ وظيفته «تكوين إنسان سليم البدن واللسان» «ذي مكسب حضاريّ»،«متشبّع بروح المواطنة»،«له موقع في الجّهاز الإقتصادي» و«قادر على الإبداع الرّمزي».  
7. يتّفق كتّاب «الإصلاح» على أنّ آداء النّظام التّربوي في تونس لوظيفته هذه مشروط بمراجعته مراجعة جذريّة. لذلك لا بدّ من تقييمه تقييما يقطع مع «القراءة التّمجيديّة»(9)    التّي اعتمدها نظام ما قبل الثّورة لنحلّل نقائصه التّي صارت معلومة للجميع ثمّ ننطلق من هذه النّقائص لـ«بلورة الاستراتيجيّات التربويّة» اللاّزمة للخروج من وضعيّة يصفها الكثيرون بالكارثيّة.
8. أوّل ما يمكن أن يقال في هذا الموضوع هو أنّ التّعليم لم يعد قادرا حتّى على آداء دوره الأساسي : تعليم التّلاميذ القراءة والكتلبة والحساب. يقول محمّد القوماني في هذا السّياق : «يقرّ المدرّسون(..) بالتراجع الواضح بل المفزع لمستوى المتعلّمين في امتلاك اللّغات بما في ذلك اللّغة العربيّة وكذلك ضعفهم الفادح في استيعاب العلوم المميّزة لكلّ شعبة من شعب التّعليم الثّانوي» (10) ثمّ يتساءل ونتساءل معه عن علاقة هذه الوضعيّة الكارثيّة بالواقع المادّي المتردّي لمؤسّسات التّعليم وتردّي القيم والعلاقات في الفضاء المدرسي وتراجع الدّور التّثقيفي والتّنويري للمدرسة وانحدار قيمة التّعليم في نظر المتعلّمين بسبب انسداد الآفاق بعد التّخرج.
9. لا شكّ أن هذه العوامل تفسّر جزئيّا الحالة المفزعة للنّظام التّربوي في تونس ولكن لا بدّ أن نضيف إليها ثلاثة عوامل أخرى على الأقلّ. أوّل هذه العوامل هو العشوائيّة والدّغمائيّة اللتين ميّزتا سياسة تعميم التّعليم بما في ذلك التّعليم الجامعي. العامل الثّاني هو ما يمكن أن نسمّيه بالمأزق اللغوي ونقصد به فشل سياستي الإزدواجيّة اللغويّة والتّعريب كلتيهما. العامل الثّالث والأخير هو ضعف اقتصاد البلاد والقطاع الخاص أساسا. 
10. هناك أوّلا الدّمقرطة المغشوشة للتّعليم والتّعليم العالي بصفة خاصّة. هل هناك دراسات علميّة جادّة تثبت أنّ البلاد تحتاج إلى هذا الكمّ الهائل من المتخرّجين من الجامعة في كل الإختصاصات تقريبا ؟ ألا تحتاج البلاد إلى عمّال وحرفيّين بقدر ما تحتاج إلى إطارات ؟ نحن نعتقد أنّ هذه السّياسات التّي تريد إيصال أكبر عدد ممكن من التّلاميذ إلى الجّامعة  مسؤولة إلى حدّ كبير عن هذه المفارقة التّي يشير إليها القوماني بقوله «في مقابل تراجع المستوى نلاحظ في كلّ سنة دراسيّة نسب نجاح عالية لا تناسب ذلك التّراجع» (11)  .
11. هناك ثانيا معضلة اللّغة. السّؤال في حقيقة الأمر بسيط : بأيّ لغة يجب أن ندرّس؟ السّؤال بسيط ولكن الجّواب معقّد. في نفس المقال المشار إليه أعلاه يستشهد القوماني بفصل من القانون التّوجيهي للتّربية والتّعليم يدعو المدرسة إلى «تمكين المتعلّمين من إتقان اللّغة العربيّة ومن حذق لغتين أجنبيّتين على الأقلّ» (12). العربيّة للتواصل والثّقافة ولتحصيل المعارف وإنتاجها واللّغات الأجنبيّة «للإطّلاع المباشر على إنتاج الفكر العالمي». يتضمّن هذا الهدف توزيعا للأدوار بين اللّغة الوطنيّة واللّغات الأجنبيّة يسهل الإتّفاق عليه لكنّ السّؤال الذّي لا بدّ من طرحه يتعلّق بواقعيّته أي بقابليّته للتّطبيق.
 12. لنلاحظ أوّلا أنّ هذا الهدف ينهي عمليّا حالة الإزدواج اللّغوي مادام يجعل من اللّغة الوطنيّة وحدها  لغة التّعليم ويكل إلى اللّغات الأخرى مهمّة وصلنا بمصادر المعرفة التّي ينتجها الآخـــرون. هذا إذن نعي أو على الأقلّ إعـــلان فشل لهذا الخيار الذي مثّل العمود الفقري للمشــروع البورقيبي في التّعليم (13). فشل الإزدواج اللّغوي كما كان لابدّ أن يفشل لأسباب عديدة أوّلها وأبسطهـــا عدم قدرة عامّة النّاس على استعمال لغتين بنفس القدر وضرورة أن تكون للمتعلّم علاقة حميميّة بلغة تعلّمه وهذا ما لا يتوفّر إلّا في اللغة الوطنيّة.
13. لنلاحظ ثانيا أنّ البلدان التّي أقلعت اقتصاديّا في العشريّات الأخيرة طبّقت هذا التّوزيع الذّكي للأدوار بين لغتها الوطنيّة واللّغات الأخرى. ما الذي يجعل هذا الهدف صعب التّحقيق في ربوعنا إذن ؟ هو أنّه يحتاج إلى انخراط كلّي في مشروع التّعريب من قبل المدرّسين والمشغّلين والتّلاميذ والعائلات وهذا مفقود كما يلاحظ ذلك الدّكتور محمود الذّوّادي حين ينبّه إلى  «فقدان المناعة اللّغويّة لدى التّونسي» (14)    وفقدان حماس هذا الأخير لإستعمال اللّغة العربيّة والذود عنها بل احتقاره لها وإحساسه بالدّونيّة تجاه بقيّة اللغات.
14.هناك أخيرا معضلة انسداد الأفق بعد التّخرّج أي بتعبير أوضح عجز المشغّلين -أي القطاع الخاصّ أساسا- عن استيعاب الحاصلين على الشّهادات العليا. هذه المعضلة تعيدنا إلى الحلقة المفرغة التّي تربط بين رداءة التّعليم وحالة اللّاتنمية والتّي يستحيل كسرها إلّا بثورة ثقافيّة عارمة ّ تكون منطلقا لإقلاع علميّ وتكنولوجيّ واقتصاديّ.
(5) عود على بدء : من الثّورة إلى المواطنة إلى النّهضة
1. الثّورات العربيّة -التّي كتب على بابها «ارفع رأسك يا أخي» - قد تكون بداية البداية لهذه الثّورة الثّقافيّة. لن يكون هذا سهلا لأنّه إذا كان «الشعب يريد» فإنّ العسكر لا يريد والرّجعيّة لا تريد والتّطرّف لا يريد والإمبرياليّة لا تريد ثمّ إنّ الشّعب نفسه يريد ولا يريد ويريد أحيانا ما لا يستطاع فيخسر ما يستطاع ويريد بعضه ما لا يريد بعضه الآخر. 
2. يريد بعضه ما لا يريد بعضه الآخر. لا نتحدّث هنا عن الإختلاف الطّبيعي في الآراء بل عن «تشوّش المنظومة القيميّة» (15)   و»الفوضى الثّقافيّة والإيديولوجيّة « التي «تحول بيننا وبين تحديد هويّة وطنيّة محدّدة المعالم» وتجعلنا « لا نتبنّى نفس السّلّم القيمي ولا نعمل في نفس الإتّجاه ويصدّ البعض منّا مجهودات وتوجّهات البعض الآخر» ولا يغرّنّك في هذا اتّفاق التّونسيّين حول الفصل الأوّل من الدّستور أو حول الدّستور بكامله فهذا اتّفاق شكلي لا يلزم بمشروع مشترك ولا يضمن الحدّ الأدنى من التّفاهم.  
3. عندما يرتفع اللّغط وتكثر المزايدات حول أهداف الثّورة يكون من الضّروري أن يتذكّر الجّميع أنّ هذه الأخيرة كانت فعلا عفويّا لا قيادة له ولا برنامج. لذلك فإنّ الحديث عن أهدافها هو من قبيل تقويل شهدائها وجرحاها والمشاركين فيها غير ما قالوا أو أكثر ممّا قالوا.  
4. لم يعبّر إخواننا الذّين قاموا بالثّورة وقدّموها هديّة لنا جميعا على أكثر من رغبتهم في العيش الكريم. أمّا ما يجب فعله لكي يكون العيش كريما فمسألة فيها خلافات كثيرة لذلك فإنّ الثورة-الهديّة  حملت معها هديّتين أخرتين كفيلتين بعرض الخلافات وحلّها نظريّا وعمليّا : حرّيّة الكلمة وحرّيّة الحركة.
5. لم تكن الثّورة اشتراكيّـــة أو إسلاميّة أو وحدويّة كما حلمت بها التّيّارات الثلاثــــة بل كانت ثورة «ديمقراطيّـــة» بالمعنــــى البسيط للكلمـــة. أعني أنّهــــا أعــــادت للنّاس ألسنتهم المقطوعـــة وأيديهم المبتـــورة ووضعتهم أمام مسؤوليّاتهـــم: هـــذه حرّيتكـــم ردّت إليكم فافعلوا بها ما شئتم أو ما استطعتم.
6.هذا يعني أنّ سقوط الإستبداد -وهو الوصف الدّقيق لما سمّي بالرّبيع العربي- لا يؤدّي إلى قيام نظام ديمقراطي بالضّرورة أو كما يقول محرز الدريسي إنّ «الوضع الثّوريّ القائم في البلدان العربيّة (...) معادلة مركّبة مفتوحة على كلّ الإحتمالات» (16)    وما بناء المجتمع والدّولة الديمقراطيّين إلّا واحد من هذه الإحتمالات «نفترض ونأمل» حسب تعبير الدريسي أن «الحراك الثّوري»  سيؤدّي إليه. 
7. بعلاقة مباشرة مع هذا الإحتمال يتساءل محمّد القوماني في العدد الخامس من الإصلاح «هل تفتح الثّورات العربيّة عصـــر المواطنة في ربوعنـــا ؟» وبعد أن يصف الوضعيّة السّائدة في المجتمعات العربيّـــة والمتميّزة بسيادة مفهوم «الغلبة» بدلا من مفهوم «التّعاقـــد» يدعو إلى «تفعيل» المواطنة انطلاقا من انّها حاضرة في «النّصوص القانونيّة التي تنظّم الدّولة والمجتمـــع» وفي «الخطابات المتداولــــة» وأنّ «المشكلة تظلّ في ضمورهــــا وإفراغها من محتوياتها».
8.  يعتقد مصباح الشيباني  بدوره أنّ قضيّة المواطنة هي «أهمّ مطلب وتحدّ أمام الثّورة العربيّة الرّاهنة»(17)    وأنّ بناءها يستوجب «الإنتقال من واقع سياسيّ ومجتمعيّ تحكمه ثقافة «الرّعيّة» إلى واقع مجتمعيّ جديد ويتساءل عن كيفيّة «تشكيل قيم ومعايير جديدة من الوعي القانوني والسّياسي والثّقافي التّي تؤسّس للنّظام الدّيمقراطي وتمكّن الشّعب العربي من أن يبني تجربته الخاصّة».
9. لا شكّ أنّ تأسيس هذه الثّقافة الجّديدة عمليّة مضنية وطويلة النّفس لأنّها  تفترض قطيعة في كلّ ما يتمّ من خلاله «بناء أنساق المجتمع الثّقافيّة والسّياسيّة والإجتماعيّة والرّمزيّة» ولأنّ الهدف هو الوصول إلى تبنّي الدّيمقراطيّة  «في عقول الناّس وضمائرهم» وفي الممارسة اليوميّة لمختلف المؤسّسات فضلا عن «النّصوص الدّستوريّة والقانونيّة» ولأنّ هناك «شبكة معقّدة من الإكراهات الماليّة والعسكريّة والإقتصاديّة» ستضاف «إلى المقاومات المتوقّعة من مجموعات المصالح القديمة»  السّاعية إلى الحفاظ على النّظم القديمة والعلاقات القديمة والثّقافة القديمة.
10. لاشكّ أيضا أنّ هذه الثّورة السّياسيّة والثّقافيّة لا أمل في نجاجها إذا لم ترافقها ثورة إقتصاديّة واجتماعيّة لأنّ ممارسة الحقوق التّي تضمنها الدّيمقراطيّة لا معنى لها  ما لم يتحرّر المواطن من «الخوف ومن واقع الحرمان والجّوع». نلتقي هنا مرّة أخرى بالتّلازم بين الإصلاح - كتغيير للعقلياّت وللعلاقات-  والتّنمية - كتغيير كمّي وكيفي في إنتاج الثّروة وتوزيعها-.
11. نعود إلى واقع الثّورة التّونسيّــــة لنلاحظ أنّها وفّقت إلى حدّ الآن (18) في  الحفاظ  على «الحدّ الأدنى الدّيمقراطـــي» الذي لا معنى لبنـــاء المواطنة بدونه وهو قدر مقبول من حريّة الكلمة وحريّـــة الحركة لذلك فإنّ أبواب الإصلاح والتّنميـــة مازالت مفتوحة وأبواب الثورة الثّقافيّة مازالت مفتوحـــة ولكنّ الطّريق مازالت طويلة وفرص عودة الإستبداد مازالت متوفــّرة للذين يريدون استغلالها. لذلك فإنّ المطلوب في الفترة الحاليّة هو التّركيز على التّصدّي لهذا الخطـــر والتّحلّي بالصبـــر اعتبارا لأنّ الأهداف الأخرى التي تنتظــــر التّحقيق منـــذ عصر النّهضة ما زالت بعيدة المنال. 
12. في هذا الموضوع تضمّن العدد السّادس العشر مقالين لفيصل العشّ ومحمّد الحمار يتكاملان إلى درجة كبيرة. يقول العشّ إنّ أمام الثّورة مطبّات قد تدفع بها إلى المصير الذي آلت إليه نسبة كبيرة من الثّورات وهو الفشل وعودة الدكتاتوريّة. هذه المطبّات هي الثّورة المضادّة والمطامع الأجنبيّة والوضع الإقليمي والمشكل الأمني وهشاشة قطاع الإعلام (19)  . أمّا الحمار فدعا بوضوح إلى الوفاق كطريقة وحيدة لتجنّب العودة إلى أنفاق الدّكتاتوريّة. 
13. الوفاق لا يعني العودة إلى الوحدة الزّائفة - فتلك مجالها الوحيد هو الدّكتاتورية- ولا التّخلّي عن تنافس المشاريع بل ردّ هذا التّنافس إلى حدّه الأدنى وتعويضه مؤقّتا بالتّفاهم الذّي يهدف إلى سدّ الأبواب أمام عودة الإستبداد. الوفاق يفترض إذن تنازلات - من القوى ذات الشّعبيّة الكبيرة أساسا - ولكنّها تنازلات ضروريّة لتحقيق هدفي المرحلة : دعم المسار الدّيمقراطي وتحقيق الإستقرار الضّروري للقيام بالخطوات الأولى في اتّجاه بناء  اقتصاد جديد .  
14. يبدوهذا الهدف شديد التّواضع إذا قسناه بأحلام الشّباب والفقراء الذّين قاموا بالثّورة وبما حلمت به أجيال من المثقّفين والسّياسيّين المنتمين إلى تيّاراتنا الثّلاث ولكنّ عدم تحقيقه يجعل هذه الأحلام أبعد منالا ويفتح الباب على مصراعيه أمام عودة الإستبداد والفساد.
15. بتعبير آخر يمكن القول إنّ المطلوب تحقيقه اليوم ليس «أهداف» الثّورة بل «شروط» الثّورة.  المواطنة غاية في حدّ ذاتها ولكنّها أيضا مقدّمة للنّهضة وشرط لها والنّهضة هي الثّورة أو قل إنّ الفرق بينهما هو ذات الفرق بين القمر والهلال : النّهضة هي الثّورة إذا اكتملت.
16. المواطنة هي الوسيلـــة  لبناء فكر المستقبـــل واقتصاد المستقبل ومجتمع المستقبـــل ودولة المستقبــــل وهي الوسيلة لتحقيـــق مــــا عجزت الــــدّول الإستبداديّـــة عن تحقيقه لذلك فإنّنا نتّفق مع الهادي بريك حين يكتب إنّ «ثورة الرّبيع العربي ... ليست سوى مفتاحا لتدشين مرحلة الثّورة الفكريّة والثّقافيّة... ثورة نسمّيها: علّمني كيف أفكّر» (20) وحين يضيف إنّها  «جولة أولى من جولات كثيرة وطويلة كفيلة بفضّ السّؤال الحضاريّ الإشكاليّ الكبير.»(21) كما نتّفق مع محرز الدّريسي حين يقول إنّ «الثّورة منحتنا فرصة تاريخيّة نادرة ومكثّفة للنّهوض التّاريخي» (22).
17.ندعم المواطنة إذن كغاية في حدّ ذاتها ونستعملها لتوفير «الشّروط التّي تجعل مشروع التّحرّر والتّنوير العربي الإسلامي ممكنا نظريّا من جهة الأسس وممكنا عمليّا من جهة الآليّات»(23) ثمّ لـ «بناء تنوير عربيّ إسلاميّ تستعيد به هويّتنا أفقها الكوني فننخرط من جديد في الفعل الحضاريّ العام للإنسانيّة»(24).
18. لمشروع التّحرّر والتّنوير هذا مكوّنات فكريّة وسياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة لا يكتمل إلّا بها ولكنّنا نودّ أن نؤكّد هنا على ما يتعلّق فيه بالجّانب الدّيني خطابا وفقها وعملا. هذا أمر شديد الحساسيّة لأنّه يتعلّق بمقدّسات الأمّة ولأنّ الفكر والعمل الإسلاميّين الحديثين  ولدا في مجتمعات استبداديّة فتأثّرا بها كما كان لا بدّ أن يتأثّرا ولأنّ جزءا مهمّا من تراثنا يحمل في جيناته آثار «الملك العضوض». ولأنّ نجاح «الثورة الدّيمقراطيّة» والتّنوير العربي-الإسلامي متوقّف على مدى نجاحنا في بناء ثقافة تتعايش فيها القيم الإيمانيّة مع قيم الحرّيّة والعقلانيّة.
19. خصّص الباحث الهادي بريك ثلاثة مقالات لهذا الموضوع دعا في الأوّل (25) إلى إنتاج خطاب إسلاميّ جديد ورسم في الآخرين (26) ملامح فقه سياسيّ حديث. يتميّز الخطاب الإسلامي حسب الكاتب  بشموليّته («خطاب جامع يغطّي الحياة بأسرها») وبـ «تشكّله من مكوّنين يتّصلان وينفصلان في الآن نفسه : الوحي الثّابت من جهة والتراث البشري من جهة أخرى». 
هو خطاب يتّجه إلى فطرة الإنسان وإلى عقله وإلى إحساسه ويسعى إلى تحريره بالتّوحيد ويجعل كرامته كإنسان أساسا لتحقيق قيم العدل والرّحمة والخير. هو أيضا خطاب يتيح «الفرصة لقوانين التّعدّد ونواميس التّنوّع وضرورات الإختلاف». 
20. هذه الخصائص العظيمة  تحتاج إلى ترجمة عمليّة تنتج الخطاب المرجوّ الذّي يتعامل مع «الأصل النّصّي الصّحيح» بدون واسطة ويوازن بين النّص ومقاصده ويركّز على «التّحدّيات الحقيقيّة العظمى التّي تواجه الأمّة» ويعزّزها بـ «جهاز دفاعي متين قوامه القيم الأسلاميّة وبث ثقافة الوسطيّة والإعتدال والتّعارف والحوار وقبول التّعدّد». لكنّ بيننا وبين هذا الخطاب -أو بالأحرى هذه الثّقافة الجّديدة- عوائق أهمّها الماضويّة وعدم التّوازن بين الغيب والشّهادة والتّقليد وغياب المقاصديّة والقطيعة مع الواقع.
21. أهميّة هذا الذّي يدعو إليه الهادي بريك  فيما يتعلّق بالخطاب الإسلامي عامّة وبالفقه السّياسيّ خاصّة تكمن في أنّه رافد أساسيّ لبناء حداثة إسلاميّة تضمن ما ضمنته «الحداثة الأخرى» من حرّيّة ومساواة وعقلانيّة وتزيد عليها بالمصالحة بين الأرض والسّماء وبين الإنسان ونفسه وهذا هو في نهاية التّحليل هدف حركات الإصلاح من عصر النّهضة إلى يومنا هذا.         
(6) خاتمة في عدم موضوعيّة هذه القراءة 
1. عندما شرعت في كتابة هذه الإنطباعات كان هدفي هو استعراض المضامين الأساسيّة لمجلّة «الإصلاح» والتّعليق عليها ونظرا لغزارة المادّة رأيت أن أكتفي بأعداد السّنة الأولى. لكنّــي ألاحظ الآن أنّي لم أف حتّى هذه الأعداد الأولى حقّها فلم أتحدّث عن الوسطيّة ولا عن المرأة ولا عن ختم النّبــوّة ولا عن النّخبـــة ولا عن اليسار الإسلامي ولا عن القضيّـــة الفلسطينيّــة ولا عن الشّريعــة ولا عن حقوق الإنسان.
2. ولقد بدأت هذه الخواطر قارئا ثمّ استفزّتني القضايا المطروحة فاستحلت كاتبا ولعلّي كتبت أكثر ممّا قرأت ولعلّي قرأت أقلّ ممّا يجب. قد يكون ذلك كذلك ولكن لا بأس ما دام الهدف لا يتعدّى تقديم «لوحة انطباعيّة» يمكن للنّاظر إليها أن يكوّن له فكرة أوّليّة عن توجّه المجلّة والموضوعات التّي شغلت كتّابها. 
3. هذا الجّانب الإنطباعي هو السّبب الأوّل الذّي جعلني أصف هذه القـــراءة بأنّها غير موضوعيّـــة أمّا السّبب الثّاني فهو أنّها قراءة منحازة مادام صاحبها «يعترف» منذ السّطور الأولى بعلاقة قرابة تربطه بتوجّه المجلّة. هي إذن قراءة لا تدّعي الإلتزام بقواعد البحث العلمي ولكن لا بأس في هذه أيضا ما دام الهدف منها هو الذّي ذكرناه في النّقطة الفارطة.
الهوامش
(1)  القوماني والجليدي والدريسي.
(2)  عدد 19.
(3)  نفس المرجع
(4)  انظر إلى مساهمات الدريسي والقوماني والمرزوقي في هذا الموضوع.
(5)  محمّد الطّاهر بن عاشور مثلا
(6)  خير الدّين التّونسي مثلا
(7)  بن عاشور-عدد 3
(8)  عدد 1.
(9)  عدد 3.
(10)  الدريسي عدد 1
(11)  العدد 7.
(12)  نفس المرجع
(13)  نفس المرجع
(14) و (15) منتدى الفرابي. عدد 6
(16)  عسلوج عدد  26
(17)  عدد 11.
(18)  عدد 5.
(19)  كتبت هذه الفقرة في بداية جانفي 2015
(20)  في العدد الموالي أضاف العش مطبّات أخرى من بينها ما أسماه بالبنية الإجتماعيّة المتآكلة التّي تتضمّن أساسا مشكلات الفقر والبطالة.
(21)  عدد 23
(22)  عدد 25
(23)  عدد 9
(24) و (25) الفارابي عدد 26
(26)  عدد 24.
(27)  الأعداد 25 و 26.
-----------
-  أستاذ جامعي تونسي مقيم بفرنسا.
houcine.senoussi@gmail.com