في العمق

بقلم
عبدالمجيد بن ابراهيم
نقد المنظومة الاصولية الفقهية التقليدية الاجماع والقياس: الدور والخلفية
 في إطار مشروعنا المتركّز على نقد المنظومة الأصولية  الفقهيّة  التقليديّة، نتناول هذه المرّة مسألة الإجماع والقياس اللّذان يشكّلان ركيزتين لهذه المنظومة  ويدفعان نحو التأسيس لسلطة «النّص» مقابل نفي «العقل»، فكيف يتمظهر دور الإجماع والقياس في نفي العقل وأي خلفيات تقف وراء ذلك؟
تشكّل المنظومة الأصوليّة الفقهيّة الشّافعية لحظة ارتداديّة رجعيّة على ماهو متقدّم عليها (1) خاصّة فقه الإمام أبي حنيفة النعمان (توفي سنة 150هـ) المعروف بفقه الرأي وفقه الإمام مالك ابن أنس (توفي سنة 179هـ) القائل بالمصالح والاستحسان. هذه المنظومة  يطغى عليها «طلب النّصوص»(2) ويشكّل الإجماع والقياس رافعتين هامّتين في تأكيد هذا المغزى، فكيف ذلك؟
(1) الإجماع  والقياس إصرار على نفي العقل 
وحرب ضروس على «التّنوع»
(1-1) الإجماع
رغم الجدال الحاصل والاختلافات المتواترة حول مفهوم الإجماع (3) فإنّ المنظومة اللأصولية التقليديّة حرصت على الانتصار على مفاهيم للإجماع  خاصّة،  فالمزاج العام لهذه المنظومة استهجن جملة من الإجماعات مثل «إجماع العوام» (4) و«إجماع الفرد الواحد» (5) بينما وقع التاكيد على «إجماع السلف» و«إجماع الأمة» وطبعا «إجماع الفقهاء». ومهما يكن من أمر  فإن الإجماع هو «منظومة» أو سلطة أو هو تحديد «عقل الجماعة»، إنّه عبارة عن مبادئ عامّة تحكم العقل الجمعي،  إنّ تلك المبادئ هي عبارة عن خطوط  حمراء يمنع المساس بها  والاجراءات العقابية هي «التبديع» كما يشير الشيخ محمد الخضري في كتابه «أصول الفقه». إنّ المساس بتلك المبادئ أو الاجماعات هو مساس بالجماعة وإدخالها في مسارات الفتنة. 
إنّ هذا التصوّر يشرّع  لتكوين حدود لا يجب تجاوزها بالنّسبة للفرد. إنّ التّصور يهدف الى محاصرة كل انفلات  على ما حدّدته «الأمّة» أو ما حدّده «الفقهاء» ولاسيّما المحاولات الفرديّة لصياغة أفكار جديدة لأنّ ذلك يعدّ انتهاكا لتماهي الجماعة. سوف نحاول مزيد توضيح هذه الأمور الصّعبة جدّا من خلال بعض الأمثلة:
* لقد مورست هذه السّلطة بطرق عديدة، فقد أشار الأستاذ سامي في كتابه  «نقد العقل الأصولي» الى أنّ سلطة الاجماع لعبت دور العائق الابستمولوجي والمعرفي عند الإمام المعتزلي أبي الحسين البصري وخاصة ما سمّي بـ «إجماع السّلف»  الذي كان في عمقه تمثله «الجوقة الفقهيّة الحنبليّة». ألم يشكّل هذا الإجماع أيضا كسلطة نفي لآراء خرجت عن السياج الدوغمائي للجماعة وضرب لأفراد  انتجوا أفكارا جديدة ورغم ما تمتّعت به من قوامة لكن تمّ التّصدي لها ومورس ضدّها النّفي والتّشريد، فالإمام الطّبري (توفي سنة 310هـ) قد عرف الأمرّين من قبل السّلطة والفقهاء الحنابلة  حتّى انّ كتب التّاريخ تورد أنّه دفن ليلا. كما يمكن أن نشير هنا الى حالة أخرى عرفت القمع أيضا تحت سلطة الإجماع وإجماع الفقهاء وفلسفتهم المقدّسة،  فالبغدادي صاحب كتاب «الفرق بين الفرق» تعرّض هو الآخر الى الهرسلة من قبل الفقهاء الحنابلة  إذ يشار الى أنّه تعرّض للضّرب ومات منفيا منكورا.  
إنّ الإجماع الذي في عمقه تسطير لعدد من الفقهاء يلبس لبوس الجماعة ووحدتها ليمارس القمع والإرهاب الفكري تجاه الآراء المختلفة ولا يلعب الإجماع هذا الدور القهري  فقط حماية للجماعة بل كذلك في تأكيد سلطة النّص مقابل نفي العقل.
-إنّ الإجماع أو الكثرة في وجه من وجوهه توهب العصمة على النّصوص ويمكن الإشارة الى «الحديث المتواتر»  الذي يعني الحديث الذي ذكرته الجماعة، فالإجماع في عمقه حسب المنظومة الأصولية الشّافعية مزيد  إضفاء المشروعيّة على النّصوص.
إنّ استقراء جملة الإجماعات الحاصلة في التاريخ هي في أغلبها توثيق «للنّص»، وتوثيق النّصوص حول النّوازل الجديدة ولعلّ ذلك واضح من خلال الحادثة التّاريخيّة في عهد أبي بكر حول «ميراث الجدّة» حيث أنّه ذكر له الحديث في أمرها فطلب توثيقه. إنّ سيرة الإجماع تؤكّد أنّ ما يسمّى بـ « الإجماع الاجتهادي» هو في نطاق ضيّق جدّا وهو ما يثبت الإرادة  في تأكيد «سلطة النّصوص» والحيلولة دون تدخّل «روائح العقل».
هكذا نصل الى أنّ الإجماع يشكّل رافعة لتأكيد وحدة الجماعة ظاهرا وعمقا محاصرة انفلات الفرد والرأي الحرّ والحيلولة دون التّعددية الفقهيّة أو الفكريّة لأنّ ذلك تفريق«للجماعة  الاسلامية» وقوّتها والإجماع أيضا هو تأكيد  تلك النّزعة النّصيّة  التي يدعّمها الإقبال الكثيف على أخبار الآحاد في المنظومة التقليديّة.
(1-2) القياس
يشكّل القياس آلية وليس مجرّد دليل شرعيّ، إنّه آليّة تحكم العقل العربي عموما كما يشير الى ذلك المفكّر اللاّمع محمد عابد الجابري - رحمه الله- فهو «آلية لتأكيد الغائب على الحاضر وتأكيد تبعيّة الحاضر للماضي».
إنّ القياس كما تعرّفه كتب الأصول هو تعدية حكم شرعي على واقعة جديدة تشترك معه في نفس العلّة. فالقياس هو محاولة لالقاء التّطابق بين النّص الثّابت المتناهي وبين الواقع الدّينامي اللاّمتناهي الوقائع  كما يشير الى ذلك حجّة الإسلام الغزالي. إنّه محاولة لإضفاء شرعيّة النّصوص على الوقائع.  إنّ ذلك الفضاء  الذي يُدعى «منطقة ما لا نصّ فيه»  سيتحول الى واقع منصوص عليه غير قادر على الانفلات من سلطة النّص. إنّ هذا التّصور يقوم على أنّه ما من واقعة الّا ويغطّيها النّص، فكلّ شئ أحصيناه في الكتاب والاّ فإنّ ذلك يكون سببا في التّشكيك في النّص وقدرته وهو لا يجوز لأنّه نصّ مقدّس مصدره الاهي. إنّ هذه المصادرة تحوّلت الى مصدر لتهوين العقل وتقليص من دوره وتدخّلاته في الفقه. 
إنّ الاجتهاد في المنظومة الأصوليّة الشّافعية يعرف  بـ«القياس» وهو تعريف أطلقه عليه الإمام الشّافعي في كتابه الرّكيزة «الرّسالة». إنّ هذا التّعريف يؤكّد أنّ ثمّة إرادة كامنة في تحديد دور العقل، فإذا ما نظرنا الى الاستعمال المحدود للقياس أي إفراده بصفة الاجتهاد حسب التّعبير الأثير للأصوليّين الشّافعيين  فإنّ ذلك يخدم أطروحتنا القائلة على وجود عداء للعقل  في المنظومة التقليدية.
ثمّة شئ أخير لابدّ من ذكره وهو أنّ الأصولييّن كثيرا ما يطلقون على القياس صفة «النّص» ويعتبرونه مع الإجماع  من النّصوص الالاهيّة  فأين هو استعمال العقل في استنباط الأحكام؟ إنّنا لا نبالغ حين نقول أنّنا قد قربنا من لحظة «اغتيال العقل»  ومحاولات ضربه في المهد والتّخلص من امكانياته الرّهيبة والخطيرة.
حاولنا أن نحلّل مدارات الانتصار للنّصوص وضرب مفاعيل العقل، لكن هذا الخيار ينسجم مع رؤية ذات خلفيّة كامنة في المنظومة الشّافعية التقليدية، فماهي هذه الخلفيات؟
(2) إدانة العقل:  الخلفيات والدلالات
لماذا هذا العداء للعقل؟ لماذا يقع تتبّع كلّ حالة عقليّة ابداعية منفلتة وتحول الى«حالة مبتدعة» أساسها«الفتنة» ويكون الجزاء هو «اللّعن» و«النكران». أليس الأجدى هو الاستفادة من تلك الحالة وجعلها مفيدة للأمّة و «تنظيماتها» أم أنّ الأمر يعود الى كون الإجماع والقياس نصّين لا يجوز المساس بهما  لأنّهما في مرتبة الاكتمال والقداسة. إنّ التّعلق بالإجماع والقياس وكأنّهما  من صلب الكتاب في غاية الخور والضّعف، فعن أي إجماع يتحدّثون وعن أي قياس يشيرون؟
هل هو إجماع الصّحابة ومتى وقع ذلك الإجماع؟ ألم يختلف هؤلاء الصّحابة رضوان الله عليهم وكتب الفقه زاخرة بتوثيق تلك الاختلافات؟ ألم نجد آراءهم تختلف الى درجة التّناقض أحيانا؟ ألم يختلف عمر بن الخطاب مع عليّ بن ابي طالب وزيد بن ثابت مع عبد الله بن مسعود؟ .. ثم لماذا أغمض الأصوليّون أعينهم عن الحدث التراجيدي  وهو حدث «الفتنة الكبرى» والذي تقاتل فيه الصّحابة فيم بينهم   فأين هذا الإجماع المزعوم؟ والأمر أيضا ينسحب على إجماع الفقهاء الذين شقّتهم اختلافات صغيرة وكبيرة، ألسنا امام مذاهب اربعة وهي في الأصل كانت عشرة أو أكثر؟
إنّ الإجماع كما تصوّره المنظومة الأصوليّة التقليديّة هو من قبيل الأوهام  وأمر في غاية الخور كما تعوّدنا الوصف.أمّا بالنّسبة للقياس فهو يقف أيضا على أرض متحرّكة، فما الذي يؤكّد اشتراك النّوازل الجديدة مع الوقائع القديمة في علّتها؟ أليست العلل لاسيما المستنبطة تدخل القياس في مجال الغموض والشّك والظّن. إنّ هذه الملاحظات تدفع بالقياس أيضا الى فقدان المشروعيّة .
إنّ القياس كما  هو في سياق المنظومة الفقهيّة يصلح فقط للأمور الفرديّة والجزئيّة وهو أمر تفطّن له العديد من الفقهاء المعاصرين من أهمّهم الاستاذ حسن الترابي، لكن لم يعمل على نقد أسسه الابستمولوجية وتجاوزه واكتفى فقط بتوسيعه اذ قال بـ «القياس الواسع».
إنّ هذه النقديات تقودنا الى الدّخول في عمق ودواخل المنظومة الأصولية الفقهيّة والخلفيات الكامنة التي تحركها.إنّ استدعاء القياس والإجماع في السّياق الاجتهادي الأصولي ليس إلّا محاولة لتقنين سلطة الفقهاء. إنّه تقنين من أجل الحفاظ على تلك السّلطة ودورها في المعرفة والمجتمع.فالإجماع يظهر كآلية للحاق بالوقائع عبر النّصوص وكذلك القياس الذي يكرّس هامشية مبدأ «البراءة الأصلية» التي تعني مزيد تدخّل العقل.
إنّ الفقهاء الذين خسروا السّلطة السّياسيّة أوهمّشتهم السّلطة في مرّات عديدة من التّاريخ عملوا على احتكار السّلطة العلميّة والمعرفيّة واعتبروها «أرضهم» و«فضاءهم» التي منعوا التدخّل فيها. إنّها اذا مسألة دفاع عن دور ووظيفة،  فالفقهاء يدافعون عن أنفسهم لذلك وضعوا «سياجا دوغمائيا» يمنع الاقتراب منه هو مجالهم الخاص، مجالهم المعرفي الخاص وهو يمثّل مشروعيّة دورهم بل وجودهم الخاص.لكنّ هذا الدّور لم يعد ممكنا لأنّ آلة الفقهاء وعقل الفقهاء وتخريجاته الفقهيّة صارت عقيمة  قد أصابها الصدأ وركبها العفن وصارت تحتاج الى الإصلاح وتحتاج الى التغيير.
إنّه الإصلاح الجذري حسب طارق رمضان، فلم يعد ممكنا بقاء الفقهاء بمثل تلك المشروعيّة القديمة لاسيما في الفترة المعاصرة. لا يمكن أن يبقى الترتيب الابستمولوجي للعلوم بنفس التّرتيب وبنفس القيمة. لا يمكن أن يبقى الفقهاء على رأس الفاعلين في عملية الاجتهاد وفي عملية انتاج المعرفة الدينية. إنّ هناك فاعلين آخرين أثبتوا جدواهم مثل علماء الاجتماع والاطباء وعلماء الإحصاء والتاريخ وعلماء اللّغة ...إنّ هذا التمازج وهذا التّشارك هو القادر وحده على إنتاج قراءة معاصرة للنّص.
إنّ المنظومة الأصوليّة الفقهيّة التي بنت سياجها الدوغمائي الوثوقي من خلال تقديس النّصوص حتى تمّ الاضفاء على الإجماع والقياس صفة المعرفة الوثوقيّة. إنّنا نحتاج الى التّحررمن تلك الوثوقية لمعانقة تصور رحب  يحرّر الفقه من سلطة الفقهاء ويعمل على تنسيبها من خلال اثبات وجود فاعلين آخرين لهم قدرة وهو محور مهمّ في تجاوز التصور القديم  لأنّه سيجعل النّص قادر على استيعاب العصر والحداثة.
 الهوامش
(1) برنشفيك في مجلة «إسلام».
(2) التيارات الايديولوجية في الإسلام: الأستاذ سالم بنحميش.
(3) أصول الفقه للشيخ محمد الخضري
(4) إجماع العوام مصطلح للإمام محمد بن جرير الطبري.
(5) إجماع الفرد الواحد وقد قال بها إمام المعتزلة الأكثر جرأة ابراهيم النظّام.
 -------
-  أستاذ  التاريخ.
imedfawzi14@yahoo.fr