قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
في التطبيع البيئي مع الجريمة
 (1) 
تطالعنا الصّحف التّونسية بين حين وآخر بأخبار صادمة عن جرائم قتل واعتداء بالفاحشة أو اغتصاب غاية في البشاعة والاستهتــــار بالقيم الانسانيّة عامــــة والإسلاميّة على وجه الخصوص. ويعيدا عن المهاترات التي يحفل بها الاعلام والفضـــاء السمعي البصـــري، فلن يكون بوسعنا الاحتكام الى أيّة منظومــــة أخرى في تحديد المحمود من السلوك والمنبوذ منه بعيدا عن منظومــــة القيم التي تأصلت عندنا منذ مئات السنيــــن وهي المنظومة التي رعاها الدّيــــن الإسلامي على مرّ العصور. 
بلغت بعض هذه الجرائم حدّا من الاستهتار لم نعهـــده من قبل إذ لا عهد لنا بولد يقتل والــــده أو آخر يذبح أمّه ذبحا أو يذبح أبناءه أو يقتلهم تباعا بلا رحمــــة  ولا شفقــــة، ليس هذا فحسب بل إن تواتر هذه الجرائم وارتفاع نسقها واختلاف الأمكنة التي حصلت فيها في الرّيف وفي المدينة سوف يجعلنا عاجلا أو آجلا نضع أيدينا على قلوبنا خوفا من تحوّل هذه الجرائم الصّادمة إلى شئ اعتيادي لا يثير الاهتمام.
 (2)
لا تتناول هذه الصّحف جرائم القتل والاغتصاب من منظور علم النفس أو علم الاجتماع أو أيّ علم آخر يمكنه مقاربة هذه الظاهرة  والوقوف على أبعادها ومحاولة البحث في الأسباب والحلول لمثل هذه الظّاهرة الخطيرة وإنّما تكتفي فقط بالتفاصيل. وقد تذهب بعض الصّحف بعيدا في محاولة استثمار أيّ جريمة في زيادة التّرويج للصّحيفة كأن تزور العائلة أو تجري بعض التّحقيقات في تفاصيل الجريمة أو حول شخوصها أو المتأثّرين منه من ذوي القرابة ولكن هذا الأمر لا يعدو أن يكون عملا صحفيّا غايته الإثارة  أو تحقيق السبق الصحفي والتعريف بهذه الجرائم لا أكثر ولا نستطيع مطالبة هذه الصّحف بأكثر ممّا تفعله، فهي ليست مراكز بحثية ولا هي صاحبة الاختصاص .
لا يهمّنا في هذا الصّدد ما يرد من إدانات شعبيّة أو على أعمدة الصّحف والجرائد لكلّ جريمة صادمة لأنّ الاكتفاء بالإدانة واستنكار الفعل لن يؤدّي في النّهاية إلى القضاء على مثل هذه الظواهر ولا إلى معالجتها إذ المهمّ في الرّاهن وفي المستقبل أيضا الإجابة على الأسئلة المتّصلة بهذا الإجرام المنافي لكلّ القيم الإنسانيّة من جهة وللقيم الإسلاميّة الأصيلة والمتأصّلة فينا من جهة أخرى. إنّ الذي يهمنا حقيقة هو هذا التّنامي الخطير للجرائم داخل مجتمع متجانس من حيث القيم والأصول والعادات والتّقاليد ومن حيث الانتماء الدّيني الواحد الذي يكاد يكون فريدا من نوعه مقارنة ببقيّة الشعوب التي يعاني اختلافات حادّة في الانتماء من جهتي العرق والدّين .فهل حقّا نحن أمام وضع كارثي أصبح من الواجب التّصدي له ومحاولة إصلاحه بسرعة قبل فوات الأوان؟ وهل يكون المجتمع هو الذي جني على نفسه من خلال سكوته الطويل واكتفاءه بقراءة الصّحف والتفكّه وجعل هذه الجرائم موضوعا للحديث في المقاهي؟ وكيف لمجتمع صغير متجانس أن يقبل بمستوى من البشاعة وهو الذي كان دائم الادّعاء أنّه مجتمع مسالم ومتصالح مع نفسه وبين أفراده؟ وهل نحن حقا أمام انفراط لعقد القيم وقد دخلنا طورا جديدا من فقدان الثّقة بالأطر والمؤسّسات الرّاعية للمجتمع والأفراد وأصبح بالتّالي شأن العدالة شأنا ذاتيا لا شأن الدّولة ولا هو شأن الفضاء العام وما ينتجه من قيم رادعة للفرد والجماعة ؟.
(3)
في بداية الثّمانينات من القرن الماضي اهتز المجتمع التونسي بفعل جريمة اغتصاب حدثت في تونس ، كانت تلك الجريمة غريبة عن سلوك النّاس الأسوياء بقدر غرابتها عن سلوك المنحرفين منهم، جريمة غريبة لا عهد للنّاس بها ولذلك فقد سال بشأنها حبر كثير وانبرت أطراف عديدة من حقوقيين وجامعيين وكتّاب ومفكّرين للبحث في الأسباب والنتائج المرتبطة بها وفي العلاج التشريعي والقانوني الذي يجب أن يحمي المجتمع والأفراد من مثل هذه الجرائم .غير أنّ المقاربة لم تكن شاملة وخاصة في ما يتعلق بما هو ثقافي وديني أي في ما يتّصل بمنظومة القيم حيث كان الصّراع في حينها كما هو اليوم بين منظومتين واحدة تدّعي الحداثة وأخرى تدّعي الأصالة، وفيما  كانت الأولى تكتفي بالمعالجة الأمنية والقانونية، كانت الثّانية ترى في مثل هذه الجرائم إفرازا طبيعيّا لمنظومة القيم المفروضة على المجتمع في السّلوك واللّباس والتّحرر من القيم الأصيلة للمجتمع. وقد كان بإمكان المنظومتين أن تتواضعا على مقاربة غير تلفيقيّة تأخذ بعين الاعتبار الجانب التّشريعي دون أن تتحاشى الغوص في الجانب القيمي حتى تكون متناغمة مع مجتمع يرنو الى حداثة عميقة تؤمن بالحرّية والتّعدد وحقّ الفرد في الوفاء للقيم التي تناسبه.
بعد سنوات من تلك الواقعة لم يعد الحديث عن اغتصاب وقع لفتاة عنوة يثيـــر أي اهتمــام لأنّ المجتمــــع اعتـــاد على مثل هذه الجرائم التي لم تعد شيئا مثيرا مع ما صار يحدث من جرائم اغتصاب للأطفال وقتلهم وتعذيبهم ومع ما صرنا نقرأه عن جرائم القتل لأتفه الأسباب مرّة من أجل سيجارة ومرة من أجل بضع دنانير وأخرى لمجرد خلاف تافه في استهانـة غير مسبوقة بالذّات البشريّــــة وحقهــــا في الحياة...
(4)
لا يوجد تعريف واحد للجريمة مهما كان نوعها ولكن تتّفق التّعريفات على أنّها انتهاك للعرف السّائد في المجتمع بفعل إجرامي وهي بالمحصلة الفعل الذي لا يختلف النّاس في كونه فعل يستوجب العقاب، ونحن هنا لسنا بصدد القانون لأنّه مهما كان العقاب  مشدّدا فلن يستطيع أن يحدّ من عدد الجرائم ولا من تطور نسقها. ولا يكاد مجتمع يختزل أيّ أمر في بعده القانوني أو الأمني دون السّقوط في ردّ الفعل الذي يزيد الأمور تفاقما، غير أنّ محاولات التّأكيد على أنّ الجريمة بنت طبيعيّة للبيئة الاجتماعيّة الفقيرة لا تتطوّر إلّا ضمن أحزمة الفقر قد يحتاج منّا إلى مزيد من البحث، فقد عاش أجدادنا وآباؤنا ظروفا إجتماعيّة غاية في القساوة سمتها الرئيسيّة الجهل والفقر ولكنّهم لم يكونوا عنيفين تجاه بعضهم البعض ولم نسمع منهم حديثا عن جرائم نوعيّة تواترت في عهدهم، وقد كانوا في المحصلة يعيشون ضمن فضاء قيمي يضبط سلوكهم من دون الحاجة لا إلى تشديد العقوبة ولا إلي تكثيف الرقابة الأمنية.
في النهاية يجدر بنا التّأكيد على ضرورة الحذر ممّا نكاد نسميه تطبيعا بيئيّا مع الجريمة خاصّة مع كون الفضاء الافتراضي للانترنت والإعلام البصري يمتلئ في كل حين بصور القتل البشع من دون ضابط و«داعش» مثال على ذلك، ممّا يجعل النّاس وخاصّة من بسطاء العقول لا يستقبحون هذا الفعل ولا يتوانون عن ارتكابه إذا أدّت بهم ظروف ما لارتكابه إذ لا أحد يخطّط لجريمته لسنين طويلة ولا مفرّ من تأثير البيئة حتى وإن كانت افتراضيّة  ولنا في جرائم الذّبح التي حدثت مؤخرا خير مثال.
------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com