في النقد الأدبي

بقلم
د.ناجي حجلاوي
السّؤال الدّائم في شعر سالم
 (أ)  مدخل: لماذا سالم المساهلي بالذّات؟
دأبت الحركة النّقديّة على الاحتفاء بالأدباء الّذين قضوْا، جريا على اعتبار أنّ الظّاهرة الأدبيّة قد اكتملت واستقرّت معالمها، وهو إجراء يسيء إلى الأديب من جهتيْن: يبخس حقّه زمن حياته من جهة ويُفوّت فرصة الانتشار على أدبه. وقد عبّر «عليّ الدّوعاجي» عن مثل هذه الإساءة الموجعة في قوله:
عاش يتمنّى في عنبه *** مات جابولو عنقود
ما يسعد فنّان الغلبة *** إلاّ من تحت اللّحــود
وتصدّيا لهذه الإساءة فإنّ الاهتمام بشعر «سالم المساهلي» يندرج في إطار الاهتمام بالأحياء لأنّ الأحياء وحدهم هم القادرون على تغيير الواقع الرّديء نحو الأفضل المُشرق، ولاسيّما إذا كان هذا الأدب فيّاضا بمعاني الالتزام كالهويّة والحرّيّة. زد على ذلك نُلفي هذا الشّاعر ناشطا ثقافيّا مبدعا ومُكْثِرا بشهادة الأستاذيْن: «محمّد القاضي» و«عبد العزيز شبيل»، على سبيل المثال(1)، وللشّاعر من المؤلّفات ما يلي: «أشواق الخيل»، و«ماذا..لو يبوح النّخل؟»، و«حديث البلاد» و«المحكيّات».
(ب) ما الهويّة؟
الهويّة مفهوم يُعنى بتحديد الخصائص النّوعية المحدّدة للأنا وهي في أبسط تعريفاتها ما يضبط الفوارق مع الأعداء، وهم أصحاب الدّائرة المقصاة عن الآخر الّذي هوّ وجه من وجوه الأنا(2) ، وهذا الجوهر المفهومي يتشكّل من أبعاد انتمائيّة عديدة أهمّها البُعد اللّغوي والبعد الوطني والبعد المتمثّل في الآخر الإنساني علما بأنّ هذه الأبعاد متفاعلة فيما بينها تفاعلا إيجابيّا وإن تغلّب أحدهما على الآخر فلا يلحق بالهويّة الضّيْر وإنّما الخلل في تشويه بُعد منها أو توظيفه توظيفا مخِلاّ تضخيما أو تشويها: فهل لهذه الأبعاد حضور في شعر سالم المساهلي ونصوصه؟
• البعد الانتمائي اللّغوي:
 يبدأ الدّارس في تحليل هذا العنصر بوضع إصبعه على صورة شعريّة فذّة تنهض على أساس التّناص مع نصّ تأسيسي مقدّس يتّجه فيه الخطاب إلى مريم العذراء «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ»(3). يقول الشّاعر: يهزّ بجذع الكلام(4) طلبا للحياة الكريمة المستمرّة لأنّ مريم أوشكت على الهلاك والنّخلة تهبها الاستمرار في الحياة النّابضة. إنّها صورة شعريّة تجسّد المجرّد من أجل تقريب المعنى. والمعنى كامن في الكلام وهو الجانب التّطبيقي من اللّغة(5). ويتجلّى إصراره وإيمانه باللّفظ وجدوى الكلام حتّى أنّه يغمغم به ويُشعل له الشّموع ويُقيم له طقوسا في غناء ونشيد مقدّسيْن مصحوبيْن بتعاويذ تحولُ دون التّلذّذ ببهجة الكلام يقول:«أُغمغم باللّفظ غناء وتعاويذ وكلام آخر لا أدري»(6) . ويبدو أنّ السّكر في حضرة الكلام الاحتفاليّة هي الّتي أدخلت الشّاعر في حالة هستيريّة يغيب فيها الوعي ويحلّ الهذيان ولا تفسير لذلك إلاّ أنّ الشّاعر مجنون الهويّة والانتماء والجنون هو الوجه الآخر للتّعقّل. إلاّ أنّ الوعي الانتمائي لدى الشّاعر يحتدّ ويحتدّ ليقف على بعض الإخلالات الّتي تُلحق بالخطاب اللّغوي فتجعله «سباحة في الضّباب». وهذا الضّباب هو الوهم. يقول:
قصائدنا لا دليـــــل لهـــــا 
غير وَهْمُ التّواصل والانتماء (7)
ومن ذلك يتّضح جليّا أنّ الشّاعر يعني ما يقول ومدرك أنّ اللّغة تضطلع بوظيفة مزدوجة : تحقّق الوظيفة التّواصليّة من جهة وتعمّق الشّعور بالانتماء فكلّ ناطق بلسان هو بالضّرورة رابط لجسور الالتقاء مع النّاطقين بهذا اللّسان إلاّ أنّ الوهم يظلّ غالبا على العلم بمفعول المراوغة المتواصلة والمتوارثة ممّا عمّق وعي النّعامة الّتي تَدُسُّ رأسها في التّراب ظانّة أنّها بذلك تنجو. يقول الشّاعر:
لماذا نُراوغ منذ القديم القديم 
ونغمس روؤسنا في الكلام البليغ (8) 
إنّه كلام قد وُظّف توظيفا سالبا فجرّ الهوان على المتكلّم كما جرّها على روحه، ولمّا بلغ هذا الهوان حدّا كبيرا بدأت بوادر الثّورة تبدو على الشّاعر في ارتفاع درجة النّبرة الإنشائيّة بعد أن استنفدت الأساليب الخبريّة أغراضها، يقول:
بِمثل هوان الرّوح هانت قصيدتي 
وأيّ كلام قد يضمّ التّلاشيا (9)
وبعد ذلك يتطوّر الإنشاء البادي في السّؤال إلى تقرير وحكم جازم فيُعلن أنّ «كلّ الّذي ندّعيه هُراء» (10) كفرانا بكلّ ضروب الادّعاء الزّائف وكلّ هراء تلبّس بالخطاب السّائد. فكثير من الأشياء مضافة خادعة. ويبدو أنّ هذا الخلل قد حيّر السّامع كما حيّر الشّاعر لذلك لجأ إلى أسلوب الأمر وهو عودة إلى الإنشائيّة استجماعا لشتات القوّة وطلبا للثّقة بالذّات وتدعيما للمواقف ودعوة للعشق. 
يقول: « تدثّرْ بعشق الصّمت إنّك مُفرد»(11). 
إنّ عشق الصّمت مفارق للصّمت ومجانب للضّعف لأنّ الإشارة إلى التّفرّد تُنير معنى الرّكون إلى الصّمت، فالله رمز التّفرّد والتّوحّد ناطق غير صامت فكأنّنا بالشّاعر يدعو إلى التّخلّق بأخلاق الله في تفرّده. والشّاعر المنعزل إنّما يتفرّد ليتفرّد في قيله الشّعري بدليل ما ذهب إليه الشّاعر من الزّعم البادي في أنّ الفنّ الصّادق هو المخلّص من رداءة التّوظيف، كالّذي جرى من توظيف متعلّق باللّغة باعتبارها البُعد الانتمائيّ الأوّل من الهويّة.
فأزعـــــم أنّ القصيـــــــدة 
لا تستقيـــم بغيــــر الكـــــذب (12). 
إنّ الكذب المقصود هو الكذب الفنّي علما بأنّ الصّدق الّذي يتّكئ عليه الفنّ الشّعري إنّما هو الصّدق الإبداعي لا الواقعي كما قرّره أرسطو منذ القرن الثّالث ق.م في كتابه فنّ الخطابة حيث قرّر أنّ المحاكاة هي النّفاذ إلى الكلّيّات (13). فهل يتنافى هذا الصّدق الفنّيّ مع التّعبير عن المضامين المتعلّقة بغير الذّات؟
• البعد الوطني:
وإلى جانب البُعد الثّقافي الفكري المتمثّل في الجهاز اللّغوي فإنّنا نلفي انتماء ثانيا تُحقّق فيه الذّات الشّاعرة جزءا من كينونتها المتدفّقة وهذا البُعد يتماهى فيه الشّاعر مع البلاد، إذ ينسحب من على الرّكح ليفسح المجال لمقول البلاد فتتكلّم البلاد على لسانه أو يتكلّم هو على لسان البلاد، ولا يذهبنّ الظّنّ بالمتلقيّن لشعر سالم المساهلي أنّ البلاد لم تتحدّث إلاّ في مجموعة «حديث البلاد» وإنّما هذا الحديث سؤال دائم في شعر سالم فاسمع إلى ما قاله في مجموعة «انعتاق»:
أعلن وفاءَك للبلاد فإنّها
فوق الجميع وحُبّك المقدورُ 
هذي بلادُك والبلاد عزيزة
وهواك فيها منبـع وجــذورُ (14)
ولو اكتفى سالم المساهلي بهاتيْن البيتيْن لكفاه فخرا ولكفى مدينة الكاف أنّها أنجبت شاعرا أصيلا ترى فيه البلاد القدر الّذي يراه فيها وتلك نافذة يطلّ منها الشّاعر على أبناء وطنه الّذين هم موضوع البُعد الانتمائي الثّالث او هم جزء منه .
• الآخر البعد الانتمائي الثّالث
وإذا ذابت الّذات الشّاعرة في هوى الوطن والبلاد فإنّ ما يُشكّل ذلك هو شعب وأرض وثقافة. وإذ تستقلّ هذه الذّات عن الآخر فإنّها تجد نفسها مورّطة من حيث لا تشعر في الاشتراك العضوي معه، إذ تتجاوز الخلاص الفردي لتندب حظّ أبناء الشّعب المنكود الّذي ينوء بحمل الجهل والفقر والمرض والتّخلّف والضّعف يقول الشّاعر في هذا المجال:
ووا أسفاه على أشلاء قوميّ
تمزّقها المخالب والنّيوبُ (15)
ولكنّ الشّاعر الّذي يرى بألف عيْن ويسمع بألف أذن ويتكلّم بألف لسان(16) يتضاعف وعيه الفردي المتطلّع إلى آفاق أوسع من الواقع الممزّق المسكين تحت وطأة الرّضى  بالموت، وأمام ذلك يصرّح الشّاعر متوجّعا ومتفجّعا:
فكيف أصوغ الحُلم أخضر يانعًا
وذي أمّة ترى الموت شافيا؟ (17)
وسُرعان ما يضع إصبعه على موضع الدّاء العنيف لأنّ مهمّة الشّاعر تتجسّد في تعرية الواقع وفضحه من أجل بناء واقع شعريّ آخر هو بالضّرورة أفضل ممّا هو واقع في انتظار بناء أركان واقع مادّي جديد تتوارى فيه الألاعيب الهجينة غير الأصيلة.
لماذا نُمارس... 
موهبة الاختلاف الهجين؟ (18)
إنّ الرّغبة في البناء تنبع من نفي الواقع البشع والإصرار على التّصدّي لقوى التّراجع المهدّمة لصروح الإنسان:
محال أن تقتل أمريكا *** فينا «الإنسان»(19). 
وهكذا يؤسّس هذا الإصرار سبيلا قويمة لبلورة مخرج شعريّ يمهّد للخلاص الخالص من كلّ براثن الأوحال. إنّها النّبوءة الشّعريّة والمعرفة الخالصة الّتي يتّصف بها سيّد العارفين:
أنت الملاذ المطمئنّ العائد 
قد أرهقته معابِر وجُسور(20)
فالخلاص جماعيّ وسبيل النّجاة سبيل تتّسع للجميع المشارك في ترديد «نشيد الانتصار». إنّ شعر سالم المساهلي شعر حالم آمل مُطِلّ على شُرُفات الحياة المستقبليّة:
فلا داء مثل القهر والصّمت والضّنّى
ولكنّ نشـيد الانتصار مُدويّا.(21)
 
الخاتمة
إنّ سؤال الهويّة والتعلّق بالمرآة العاكسة للأنا وللآخر سؤال حالم أخضر يانع ودائم في شعر سالم أثار شهيّة الكتابة النّقديّة لدى بعض النّقّاد وهو في حاجة أكيدة لمثل هذه الأقلام لأنّه تربة ثريّة وأرض خصبة فيها العديد من النّخيل والخيول والأحاديث والمحكيات إثراءً لمكينة الأدب التّونسي الحداثي.
الهوامش:
(1) انظر مقدمة  مجموعة  حديث البلاد 
(2) انظر امين معلوف. الهويات القاتلة ص5
(3)  سورة مريم 19/ 24
(4) مجموعة انعتاق 
(5)  انظر تمام حسان، اللغة العربية معناها و مبناها ،الفصل الاول الكلام و اللغة ،ص ص32 -43
(6) مجموعة انعتاق
(7) مجموعة انعتاق، ص 65. و اشواق الخيل 
(8) مجموعة انعتاق، ص65.
(9)  مجموعة انعتاق، ص49
(10)  مجموعة انعتاق 65.
(11)  مجموعة انعتاق، ص53.
(12) مجموعة انعتاق
(13) انظر احسان عباس،فن الشعر،ص25
(14) مجموعة انعتاق، ص 125.
(15)  مجموعة انعتاق، ص84.
(16)  انظر جبران خليل جبران، العواصف، تعريف الشاعر 
(17)  مجموعة انعتاق، ص47.
(18)  مجموعة انعتاق، ص64.
(19)  مجموعة انعتاق، ص73.
(20)  مجموعة انعتاق، ص129.
(21)  مجموعة انعتاق، ص 54.
المصادر:
* سالم المساهلي، انعتاق، مطبعة الزّرلي، الكاف- تونس، ط1، 2007.
* سالم المساهلي، حديث البلاد، تقديم محمّد القاضي وعبد العزيز شبيل، مطبعة الزّرلّي - الكاف، ط1، مارس 2005.
المراجع:
* أمين معلوف، الهويّات القاتلة، ترجمة نهلة بيضون، الفارابي، بيروت، ط2، 2011.
* عبّاس الجرايري، في الشّعر السّياسي، الشّركة الجديدة دار الثّقافة، الدّار البيضاء، ط2، 1982.
* إحسان عبّاس، فنّ الشّعر، دار الشّروق، عمّان –الأردن،ط5، 1992.
* أبو زيّان السّعدي، في النّقد والأدب، الشّركة التّونسيّة للنّشر وتنمية فنون الرّسم، تونس، ط1، 2002.
* محمّد لطفي اليوسفي، في بنية الشّعر العربي المعاصر، المطابع الموحّدة، تونس، 1985.
* بدريّة الأشهب، السّبحة والمنديل (شعر بالعاميّة)، مجلس الثّقافة العامّ، طرابلس، 2006.
* أمين ألبرت الرّيحاني، مدار الكلمة دراسات نقديّة، دار الكتاب اللّبناني، بيروت، ط1، 1980.
* محمّد زغلول سلام، دراسات في القصّة العربيّة الحديثة أصولها واتّجاهاتها أعلامها، منشأة المعارف، الإسكندريّة، د.ت.
* محمّد خير شيخ موسى، فصول في النّقد العربي قضاياه، دار الثّقافة، ط1، الدّار البيضاء، 1984.
* محمّد غنيمي هلال، قضايا معاصرة في الأدب والنّقد، دار نهضة مصر للطّبعة والنّشر، الفجّالة-القاهرة، د.ت.
* إحسان عبّاس، اتّجاهات الشّعر العربي المعاصر، دار الشّروق للنّشر والتّوزيع، عمّان-الأردن، ط2، 1992.
-------
-  شاعر وناقد تونسي
hajlaoui.neji@gmail.com