مقالات في التنمية

بقلم
محمد الطرابلسي
الحوكمة الرشيدة و دورها في مكافحة الفساد
 مقدمة:
تعتبر« الحوكمة الرشيدة» مطلبا عبّرت عنه العديد من المؤسّسات القطريّة  والعالمية وخاصّة المؤسّسات الدّولية المانحة على غرار البنك الدولي وصندوق النّقد الدولي ومنظمة الشّفافية الدوليّة، إلى جانب منظّمات المجتمع المدني المدافعة عن حقوق الإنسان والحرّيات العامة . 
ونتيجة لإنتشار مظاهر الفساد خاصّة في الدول العربيّة، أصبحت الحوكمة بديلا إستراتيجيّا لإدارة شؤون الدّول نظرا لما يحمله هذا المصطلح من معاني الشّفافية والنّزاهة  والمساءلة التي تقوم على تشريك الجميع في إدارة الشّأن العام.
فماهي الحوكمة الرّشيدة؟ وماهي مؤشّراتها أو معاييرها؟ وماهو دورها في مكافحة الفساد بمختلف أشكاله؟
1 – الحوكمة الرّشيدة: المفهوم و المعايير 
أ‌- ماهية الحوكمة الرّشيدة:
تعتبر « الحوكمة الرّشيدة» (GOUVERNANCE) مرادف للتّسيير الإقتصادي والإداري الفعّال والأمثل الذي يسعى للإجابة عن مختلف الإنتقادات الخاصّة الموجّهة للدّول والمؤسّسات، والتي تشكّك في الإصلاحات الهيكليّة المسيّرة بطريقة علويّة ، أي من الأعلى نحو الأسفل والتي أدّت إلى فراغ مؤسّساتي بدل تعبئة قدرات وطاقات المجتمع التي يزخر بها. 
ولا بدّ من الرّبط بين «الحوكمة الرشيدة» والتّنمية التّشاركية وحقوق الإنسان والدّيمقراطية : فالحوكمة في جوهرها تعني احترام القانون عند تسيير القطاع العام والخاص على حدّ السّواء ومحاربة الفساد بمختلف أشكاله. فهي تعني مجموعة الطّرق المتعدّدة لتسييرالأعمال المشتركة من طرف الأفراد  والمؤسّسات العموميّة والخاصة (البنك الدولي 1992) .
وقد عرّفها الأستاذ « CALAME PIERRE  بيار كلامي» بالجامعة الفرنسيّة المتخصص في مجال« حوكمة الشّركات» على أنها:« مجموعة من العلاقات فيما بين القائمين على إدارة المؤسّسة ومجلس الإدارة وحملة الأسهم وغيرهم من المساهمين، فهي تعني بالنّسبة لهم النّظام الموجود بين الأطراف الأساسيّة التي تؤثّر في الأداء وتشمل مقومات تقوية المؤسّسة وتحديد المسؤول والمسؤوليّة».
وقد يبدو هذا المصطلح «الحوكمة الرّشيدة» من أكثر المصطلحات شيوعا في السّنوات الأخيرة لدى السّاسة ورجال الإقتصاد والمجتمع. وبالرغم من وجود عدّة مفاهيم كما أشرنا، فإنّ مفهوم الحوكمة لا يزال غامضا غموض الواقع الإقتصادي والإجتماعي والسّياسي للدّول العربيّة. وحسب رأينا الحوكمة هي عمليّة متكاملة لإدارة الشّأن العام، تشارك فيها الأطراف السّياسية ( الحكومة والمعارضة) والقطاع الخاص والمجتمع المدني ( منظّمات وجمعيّات) مع مراعاة درجة الاختلاف بين هذه الأطراف في رسم السّياسات، ففي ظلّ «الحوكمة الرشيدة» كلّ مكوّنات الدّولة والمجتمع معنيّة برسم السّياسات العامّة، وتلعب الحكومة دور المنسّق بين مختلف هذه الأطراف إضافة إلى دورها التنفيذي. فهي مجموعة القوانين والنظم التي من شأنها أن تضمن حسن تسيير الدّولة بكل نزاهة وتهدف إلى تحقيق الشّفافية والعدالة وضمان حقّ المساءلة للمسؤولين والحدّ من استغلال المناصب السّياسية لأغراض شخصيّة بشكل يؤدّي إلى الزّيادة في الاستثمارات وتحقيق مواطن شغل جديدة. كما تعني في جوهرها الإلتزام بالقانون وضمان الشّفافية الإدارية وتوفير هياكل إداريّة للمحاسبة لها صلاحيات غير مقيّدة بشروط. 
ب – معايير الحوكمة :
للحوكمة الرّشيدة معايير عديدة متّفق عليها دوليّا، تعتبر أمرا ضروريا ومطلبا أساسيا للحكومات والمنظمات الوطنية والدّولية، فهي ضروريّة لتقييم أداء الحكومات وتحديد مواضع الخلل. كما أن المنظمات تستفيد من وضع معايير للحوكمة لتحدد طبيعة تدخلها وقدرتها على المساعدة لإصلاح الوضع العام ومعالجة المرض بعد تشخيصه. ومن بين هذه المعايير نذكر :
• معيار المساءلة العامة: يخص أربع مجالات 
- درجة إنفتاح المؤسسات السياسية في بلد معين.
- درجة المشاركة السياسية و نوعيتها.
- درجة الشفافية ومدى القبــــول الذي تحظى به
الحكومة لدى الشعب.
- درجة المساءلة السياسية.
• معايير الحقوق و الحريات :
- الحقوق السياسية للأفراد.
- الحريات المدنية.
- حرية الصحافة والتعبير.
- الأداء السياسي.
- مدى إنتشار ثقافة حقوق الإنسان والحريات العامة.
-الشفافية في التعامل بين الأفراد والجماعات.
• معايير جودة الإدارة : 
يمكن هذا المعيار من قياس درجة الفساد في مجال إدارة الموارد وإدارة السوق الوطنية والمحلية ومدى إحترام الحكومة للقوانين و يشمل معيار جودة الإدارة: درجة الفساد، نوعية الإدارة، حقوق الملكية، الإدارة المالية وإحترام وتطبيق القوانين.
ويعتمد تحديد معايير « الحوكمة الرشيدة» على إعطاء العناصر المذكورة علامات أو أعداد معينة. ويغطّي معيار المساءلة بيانات انفتاح الحكم على المعارضة والمشاركة السّياسية بناءا على درجة حريّة الإعلام وفعالية البرلمان أو مجلس نوّاب الشّعب وحريّة التّنظم السّياسي والتعيين بالوظائف العليا للدّولة. وتوفير كامل المعلومات التي تعكس لنا مدى انسجام المجتمع مع الحكومة وطريقة الحكم. ويمكّن معيار جودة الإدارة من توفير معطيات ذات طابع فنّي يتعلّق بمؤشّر الفساد في استخدام الأملاك العامّة لغايات خاصّة.
2 -  دور الحوكمة في مكافحة الفساد:
أ‌- مفهوم الفساد و أشكاله:
• الفساد لغة وإصطلاحا:
ورد الفساد في معاجم اللّغة في صيغة «فسد» الشيء يفسد بضمّ السّين (فسادا)، والمفسدة ضد المصلحة والمنفعة، كما ورد مصطلح الفساد في القرﺁن الكريم في مواضع عديدة ليدلّ على معاني مختلفة، فقد ورد ليعبر عن الطغيان والتجبّر، كما في قوله تعالى:﴿ تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَــــادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (القصص 83)، أو الجدب والقحط كما في قوله تعالــــى : ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم 41)، كما ورد الفساد في القرآن الكريم بمعنى معصية الله كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ (المائدة 33). 
وفي الحقيقة تعدّدت تعاريف الفساد ولكنّها تتّفق على اتجاه واحد يعني إساءة إستعمال السّلطة العموميّة أو الوظيفة لتحقيق مكاسب شخصيّة، فهو يعني سوء إستخدام النّفوذ العام لتحقيق مكاسب خاصة ويشمل ذلك جميع رشاوي المسؤولين المحليّين أو الوطنيّين أو السّياسيين.
• أشكال الفساد :
للفساد أشكال متعدّدة نذكر منها الفساد الأخلاقي والفساد المالي والإداري والفساد السّياسي، لكنّنا سنركز في تحليلنا على الفساد المالي والإداري بإعتباره الأكثر شيوعا وله ارتباط وثيق بالفساد السّياسي والأخلاقي : 
يعني الفساد المالي والإداري « التغيير الغير مرغوب فيه في المعاملة بين القطاع العام والقطاع الخاص الذي يمثل تقويضا للثّقة أو خرقا للقوانين والسّياسات والإجراءات التي توضع موضع التّنفيذ للصّالح العام، لغرض تحقيق المنافع الشّخصيّة على حساب المجموعة الوطنية وذلك بإعطاء    أو أخذ الرّشاوي أو الامتيازات وبإساءة إستعمال السّلطة والنفوذ في المؤسسات العمومية ». ومن أسباب ظهور الفساد المالي والإداري : تهميش دور المؤسّسات الرّقابية التي قد تكون تعاني هي نفسها من الفساد، ووجود البيروقراطية في مؤسسات الدولة وضعف مؤسّسات المجتمع المدني وتهميش دورها، إضافة إلى توفر البيئة الإجتماعية والسياسية الملائمة لظهور الفساد.
وللفساد أبعاد سياسيّة تتمثّل في وجود إدارة سياسيّة ضعيفة تتعايش مع الفساد ولا تمسك القدرة على مكافحته ، وأبعاد إقتصاديّة تتمثل في البطالة وتدنّي الرّواتب والأجور وانخفاض القدرة الشرائية وانتشار الصفقات التجارية المشبوهة النّاتجة عن عمليات السمسرة، وبعد إجتماعي يتجلى عندما يغدو لكل شيء ثمن يقاس بالدّنانير: عندما يغدو للقيام بواجب وظيفي معين ثمن، ولإجراء معاملة مع إدارات الدولة ثمن، ولتصريف أعمال الحكم ثمن، وللكلمة في وسائل الإعلام ثمن،  ولحكم القضاء في بعض الحالات ثمن، وعندما يصبح لكل شيء ثمن فإنّ الفساد قد أضحى في حياتنا العامّة من صلب ثقافة المجتمع وبذلك يكون المجتمع في هذه الحالة قد ابتلي بما نسميه « ثقافة الفساد» .
ب‌-  دور الحوكمة في مكافحة الفساد :
تتضمّن هذه الفقرة مجموعة من التّوصيات لتفعيل دور الحوكمة الرّشيدة في مكافحة الفساد بمختلف أشكاله وخاصة الفساد المالي والإداري ومن هذه التوصيات :
- نشر ثقافة الحوكمة في المجتمع وذلك من خلال وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني، فعندما يدرك المجتمع أهميّة الحوكمة في مكافحة الفساد الذي يحاول أن يسلب المجتمع ثرواته وأمواله ومكاسبه، فإنّه سيدعم تطبيقها وإرساء قواعدها والدفاع عنها. ولهذا السبب ندعو إلى إرساء « مركز وطني للحوكمة وضمان الشفافية» يتولّى مهمة إعداد برامج إعلاميّة لترسيخ ثقافة الحوكمة في البلاد.
- إلتزام الإدارات العموميّة بمبادئ الشفافية وذلك بمصارحة عموم النّاس ببرامجها المزمع إنجازها على المدى القريب والمتوسّط والبعيد.
- تكثيف الرّقابة على الإدارة العمومية والخاصة وإحداث لجان رقابة محليّة تشارك فيها المنظمات والجمعيات والأحزاب.
- نشر الوعي الفكري والإقتصادي والإجتماعي والدّيني لدى عموم النّاس بأهمية مكافحة الفساد واعتبار ذلك مهمّة وطنية يشارك فيها الجميع.
- العمل على تخفيض نسب البطالة وتوفير الشّغل للعاطلين عن العمل بما يؤمّن دخلا ثابتا لكافة أبناء الوطن. 
- وضع قوانين صارمة بحقّ مرتكبي الفساد المالي والإداري والمتلاعبين بأموال الشعوب وإعتبار الفساد من الجرائم الخطيرة مثله مثل جريمة الإرهاب.
3 – واقع الحوكمة الرشيدة في البلدان العربية :
كشفت منظمة الشفافيّة الدّولية في تقريرها الأخير لسنة 2014 فساد غالبيّة الدول العربيّة بدرجات متفاوتة، إذ جاءت معظم الدّول العربية في مؤخّرة التّرتيب. مع العلم أنّه يتمّ منح الدّول المشاركة في هذا التصنيف والبالغ عددها 175 دولة درجات تتراوح بين الصفر (0) والمائة (100) درجة، فكلّما اقتربت درجة الدّولة من مؤشّر الصّفر كلّما دلّ ذلك على أنّ تلك الدّولة أكثر فسادا وكلما اقتربت من المائة كلما عكس ذلك نزاهتها وتراجع نسبة الفساد فيها. ومن خلال هذا التقرير يمكن قراءة واقع الحوكمة في الدول العربية وفيما يلي جدول إحصائي مأخوذ عن منظمة الشفافية الدولية يلخّص ترتيب الدّول العربيّة حسب مؤشّرات الفساد :
المصدر: منظمة الشفافية الدولية 2014
خاتمة:
لقد حاولنا من خلال هذا المقال الوقوف عند مفهوم الحوكمة ومعاييرها ودورها في مكافحة الفساد المالي والإداري وقد توصّلنا إلى النّتائج التالية:
- إنّ نظام الحوكمة بما يمثّله من قوانين وتعليمات وأسس يمثّل في حقيقته اتجاهاً إصلاحيّا ًيوفّر أساسا ثابتا وثقة كاملة للمتعاملين مع مؤسّسات الدّولة المختلفة بحيث يوفّر هذا الأساس ضماناً للجدوى الاقتصادية وضمانا للشفافية والنزاهة في المعاملات.
- إنّ نظام الحوكمة يمكّن من تحقيق الشفافيّة والعدالة ومنح الحقّ في مساءلة الإدارة من الجهات المعنيّة .
- إن نظام الحوكمة يمكن من تحقيق الحماية اللازمة للملكية العامة مع مراعاة مصالح المتعاملين مع مؤسسات الدولة المختلفة والحدّ من استغلال السّلطة للأغراض الشخصية .
- إن نظام الحوكمة يمكن من زيادة الثّقة في إدارة الإقتصاد الوطني بما يساهم في رفع معدلات الإستثمار وتحقيق معدلات نمو مرتفعة في الدّخل الفردي.
المراجع :
المراجع العربية:
- بسام عبد الله البسام 2014 : 
الحوكمة الرشيدة ، مجلة بحوث إقتصادية عربية، الجمعيـــة العربيــــة للبحـــوث الإقتصاديـــة، القاهـــــرة ، ص 176  - 200 .
- يوسف أمير فرج 2011 :
الحوكمة ومكافحة الفساد الإداري والوظيفي وعلاقته بالجريمة على المستوى المحلي والإقليمي والعربي والدولي، الإسكندرية ، مكتبة الوفاء القانونية .
- براهمي سمية و بلعايش ميادة 2014 : 
مساهمة المراجعة الجبائيــــة في مكافحة الغش والتهرب الضريبي لتفعيــــل مبادئ حوكمة الشركــــات، مجلة بحوث إقتصادية عربية، الجمعية العربية للبحوث الإقتصادية، القاهرة ، ص ص 228  - 245 .
المراجع الفرنسية:
• CALAME Pierre,
 Repenser la gestion de nos sociétés : 10 principes pour la gouvernance du local au global, Paris, Editions Charles Léopold Mayer, 2003, 96 p.
• CALAME Pierre ,
 Pour une gouvernance mondiale efficace, légitime et démocratique, Paris, Editions Charles Léopold Mayer, 2003, 200 p.
• Roland Pérez,
La gouvernance de l,entreprise, Éditions La Découverte, collection «Repères»، PARIS, 2009, 126P.
 -------
-  باحث في العلوم الجغرافية
geographie_tunisie@yahoo.fr