قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
جربة نموذجا
 تنطلق جحافل المصطافين نحو مدينة جربة مع اشتداد الحرّ كل صيف وقلّ أن تجد في تونس من لم يرغب في زيارتها وإنّما قعد به عن ربوعها مانع. ولا يكتنف المدينة جمال مأتاه الشّمس فقط وإنّما يتعدّى جمالها كل وصف بما حباها الله من موقع جغرافي وشاطئ خلاب وعمارة زاهية متناسقة. ولعلّ أكثر ما يعجب منه الزّائر روعة التّناسق في العمران بين المدينة والرّيف وسرعة انتقال الزّائر إليها من قمّة البهرج الحضاري الوافد إلى بساطة البناء التقليدي المعتاد. 
تلفحك نسائم البحر عند مدخلها من أيّ نقطة عبور دخلت ويشتد عليك حرّ شمسها في الهجيرة ولكنّك لا تجد عنــــاء في بلوغ الشّاطئ أو في فضاء حاجة ترومها فــــي أيّ وقت من اللّيل أو من النهار، إذا سلكت طريق الشّاطئ فإنّك ستجد أمام ناظريك ما لا عهد لك به من خضرة في النّبات والأشجار ومن أناقــــة في الطّرقات وفخامة في النّزل والمقاهي والمطاعم. علي امتداد الطريــــق الشاطئي تمتدّ النّزل على مساحات مختلفة من الأرض، كلّ فندق لا يشبه الآخر وكلّ وحدة سياحيّة تغريـــك بالاقتراب من الأخرى، فتحار من كثرة الفنادق وما يتبعها من المرافق من أين يأتي روّادها وكيف يتسنّى للجزيرة النّائيــــة توفير ساكنيهـــا؟ ولكنّ عجبك سرعان ما ينتهــــي حين تدرك حجم ما تحدثـــــه زيارة واحدة  في الزّائـــــر والإغــــراء الذي يدفعه دفعا للعودة من جديد وهو يكاد يقول بأن جربة هبة الشاطئ.
إن مدينة جربة ليست بالطّبـــع هبة الشّاطئ وإن كان وجودها علي ساحل البحر قد حوّلها إلى مقصــــد للزّائرين من الدّاخل والخارج على مدار العام، فهذه المدينة ضاربة القدم في التّاريخ تشهد بذلك الآثار والمخطوطات ومراجع المؤرّخين، فقد سكنها «اللّوبيـــــون» و«الفينيقيــّـــون» و«العــــرب» و«الأسبان» و«الأتراك» و«اليهـــــود» الذين مازالوا أقلّية فيها وفيها كنيسهم المشهـــور بالغريبة. وسكّانها كانوا بربرا في الفتح الإسلامــــي ولكنّهم سرعـــان ما أذعنوا للدّين الجديد لما فيه من سماحة وأصبحـــوا مسلمين ولم يخرجوا عن دينهم رغم كلّ محاولات الغزو التي قام بها الأسبان والرّومان، بل إنّ أهل جربة كانوا في مقدمة المدافعين عند كلّ غزو، كما أنّ جربة لم ترضخ للإستعمار الفرنسي وقاومته ببسالة وكان منها زعماء وطنيّون شاركوا في الحركة الوطنيّة لعلّ أشهرهم الزّعيم «صالح بن يوسف».
في مدينة جربة الكثيـــــر مــــن مظاهر الحداثــــة التي لا تخطئها العين وفيها من الأصالة ما يفوق ذلــــك، فهي مشهورة بكثرة مساجدهـــا منذ القدم بل إنّ من المساجــــد ما لا يفصل بعضها عن يعض إلاّ شــــارع واحد أو شارعين وقد لا تخلو قريـــة من قراها من مسجــــد يرتاده النّاس ويعمرونه في أوقات الصّلاة ليلا ونهارا. ومساجد جربة بسيطة في عمرانها وأثاثها، يجد الدّاخل إليها راحة في النّفس واطمئنانا قلّ نظيـــره ورغـــم اختلاف المذاهب فيها بين كثرة «مالكيّة» وقلّـــة «إباظيــــة» إلا أنّ هذا الاختــــلاف لا أثر له في الواقع حيث يتعايش الجميع منذ مئات السّنين دون أيّ شائبـــة. 
أمّا «اليهـــود» فهم مواطنون كغيرهم من أهل جربــــة لهم صناعتهـــم ونمط حياتهــــم وأحياءهم ودور عبادتهــم ومناسكهــــم في جوار سلمي مع المسلمين لم يعكر صفوه شئ منذ أمـــد، وحتي الحادث الذي وقع في «كنيس الغريبة» منذ سنيــــن، فقد ظلّ نشازا ولم يكن له أثر يُذكر.
إن مدينة جربة ليست إلاّ مثالا للاعتبار في كيفيّة المواءمة بين الحداثة والأصالة في تناســــق غير مسقط، وضمن مقاربة تنمويّة تأخذ بعين الاعتبار حاجــــة السّكان وإمكانيات المدينة وما يتوفر فيها من موارد طبيعيّــــة وبشريّة. وهي كذلك نموذج في القدرة على التّعايــــش السّلمي رغم الاختلاف، تعايـــــش غير مصطنع وإنّما هو تعايش حقيقي تحكمه قوانيــــن النّمو الطبيعــــي للمدن والتطور الحضاري للسّكان ضمن وحدة المصير وغلبة المشترك على الفردي. أمّا مسألة الانفتاح والقبول بالآخر، فليس أدلّ عليها من كون المدينـــة تستقبل سنويّا ما يزيد عن المليون زائر من مختلف الأجناس والأعراق، يستقبلهم أهلها بكل بشاشة ويتكلمون معهم لغتهـــم ويوفّرون لهم كل ما يحتاجونه ويمدّونهم بكلّ ما يمكن أن يُرغبهــــم في العودة من جديــــد وكثيـــــر من زائريها يعــــودون مرّة ومرّة بعد أن ألفوا المكان وأهله.
إنّ المدن لا تختار مواقعها ولكنّها تصنع مع مرور السّنين خصوصياتها، ويضع ساكنوهــــا بعرقهم وجدّهم وتفاعلهــــم مع الناس أسبابا للحياة والعمران، غير أنّ هذه المدن تحتاج من الدّولة إلى عمل جادّ من أجل إنماءها ومساعدة أهلها على الاستقرار والتّقدم والمساهمة في المجهود العام للدولة والمجتمع، ومن ثمّ فنحن لا نحتاج الآن إلي تصنيف السّكان بحسب انتماءهم الجغرافي بين قابل للنّمو وآخر محكوم عليه بشظف العيش وكأنه ضحيّة الجغرافيا، وإنّما نحتاج أن ننظر إلى الوطن في عمومه كجسد واحد لكل عضو وظيفته.
حبّذا لو تصبح كل المدن مثل جربة في لطفها وطيبة أهلها وجدّهم وكدّهم وفي انفتاحها على محيط محافظ وعالم مختلف المشارب والهويات، وحبّذا لو نستطيع إعادة النّظر في ما صنعته دولة الاستقلال من ميز وحيف بين الجهات وتنمية غير عادلة حتى يصبح بإمكاننا الحديث عن نمط مجتمعي حقيقي يوفّر للنّاس جميعا أسباب الحياة الكريمة ضمن مقاربة جديدة لا يهمّها لغو الحديث في الصّراع بين الأصالة والمعاصرة ولا لغو القائلين بأنّ الجغرافيا هي من يحدّد أهميّة المدن. فهل يمكن أن تكون جربة نموذجا للاحتذاء به؟
------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com