في ذكرى عيد ميلاد الإصلاح

بقلم
حسين السنوسي
قراءة غير موضوعيّة في مجلّة الإصلاح (2)
 1. ينطلق الفكر و العمل الإصلاحيّان من سؤال بسيط هو «لماذا نحن متأخّرون ؟».  إذا أردنا التّفصيــل قلنا إنّ أسئلة الإصلاح هي سؤال التّشخيص عن هذا المرض العضال الذي نسمّيه تأخّرا وسؤال الأعراض عن علاماته وسؤال الأسباب عن أسبابه العميقة وسؤال العـــلاج عن كيفيّة الخروج منـه وسؤال الهويّــــة عمّن هؤلاء المتأخـّــــرون ؟ (من نحن ؟ ) وأخيرا سؤال الآخر عن هذا الحاضر الغائب الذي يدفعنا كلّما سألنا «لماذا تأخّرنا ؟» إلى أن نضيف «وتقدّم غيرنا ؟»
2.هناك ألف جواب على سؤال الهويّة فمن قائل «تونسيّون منذ ثلاث آلاف سنة» إلى قائل «مسلمون وكفى» إلى مؤكّد على أنّنا بربر أوّلا وأخيرا مثل كلّ سكّان المغرب الكبيرإلى مدّع أنّنا جميعا قرطاجيّون إلى مدافع عن انتمائنا إلى أمّة عربيّة واحدة  إلى غير هؤلاء من دعاة الهويّة المتوسّطيــة أو الإفريقية أو الكونية.
3. غنيّ عن البيــــان أنّ هذه الإجابــــات لا تتناقض بالضّرورة، فمن المضحك مثلا أن تسأل شخصا «هل أنت عربيّ أم مسلــــم ؟» ومن الغريـــــب أن تبخس النّاس حقّهم في الإنتمــــاء إلى الكون الفسيــــح بمجرّد أن يبدوا تشبّثهم بعروبتــــهم وإسلامــــهم. غنــــيّ عن البيــــان أيضا أنّ بعض هذه الهويّات ايديولوجيّــــة تسعي إلى ليّ عنق الواقع وتطويعه ليطابــــق خطابا أريد له أن يســــود. غنيّ عن البيان أخيرا أنّ قدرة هذه الخطابات علــــى الإقناع والتّعبئة لا تتوقّف على صحّتها فقط بل تتأثّر بسلـــــوك الدّاعين إليها: ينفّر منهــــا السّفهاء والمجرمـــون ويحبّبها إلى النّاس العقلاء وصنّاع الحيــــاة، كما تتأثّــــر سلبا وإيجابا بما تنجزه هذه الخطابـــــات على أرض الواقع : تنتعش بفعل الإنجازات والإنتصارات وتضعف في فترات الجزر والإنحسار (1) . 
4. أوّل ما يميّز مجلّة «الإصلاح» هو جوابها على سؤال الهويّة. هنا يتّفق«العروبي والإصلاحي واليساري المؤمن والنهضاوي ومن ليس لديه أيّ انتماء سياسي» (2) على أنّ الفضاء الذّي نتحرّك فيه هو الفضاء العربي الإسلامي  وعلى أنّ النّهضة تكون عربيّة اسلاميّة أو لا تكون. لذلك لا غرابة أن نرى  منتدى الفارابي - وهو الأخ التّوأم للمجلّة- يعرّف نفسه بأنّه منتدى «عروبيّ إسلامي» ويجعل من أهدافه «تعميق الوعي الجمعي بمعنى الإنتساب إلى العروبة والإسلام وايجاد التّعبيرات الثّقافيّة الكفيلة بتجسيد هذا الإنتساب» (3).
5. لا بدّ أن ننتبه هنا إلى تأكيد  هذا الموقف على الإرتباط الوثيق بين العروبة والإسلام وهو ارتباط له دلالتان مختلفتان. الدّلالة  الأولى هي الدّعوة إلى أن يكون « الإسلام الثّقافي إطارا جامعا لا تتنازع حوله الأحزاب السّياسيّة والتيّارات الفكريّة ولا يحتكره طرف دون الآخرين» (4). الدّلالة الثّانية هي «اعتبار الإسلام (وحيا وتجربة تاريخيّة وأفقا حضاريّا) مرجعيّة تتجذّر فيها البدائل»(5).
هناك اختلاف جوهريّ بين الدّلالتين لا بدّ من الإنتباه إليه أيضا. الدّلالة الأولى لا تفترض ايمانا بعقيدة معيّنة بل تعتمد على التّاريخ والثّقافة لبناء أرضيّة مشتركة تقر بأنّ الإسلام هو العمود الفقريّ للشّخصيّة العربيّة أمّا الدّلالة الثانية فتنطلق من الإلتزام بالإسلام دينا ومنهج حياة إضافة إلى الإنتماء إليه حضارة ومصيرا. 
6. قلنا أعلاه إنّ قدرة خطابات الهويّة على الإقناع لا تتوقّف على صحّتها ونودّ هنا أن نطبّق هذا الملاحظة على الخطاب العروبي الإسلامي الذّي نؤمن بصحّته وبتفوّقه السّاحق على ما عداه من خطابات الهويّة. نلاحظ أوّلا أنّ الفترة الحاليّة تتميّز بطغيان الخطاب الإقليمي وبتفشّي الممارسات المناقضة للهويّة وتحوّلها إلى ممارسات عاديّة لا يستهجنها أحد ولا يترفّع عنها إلّا القليلون. 
7. أمّا عن الممارسات المناقضة للهويّة فيكفي أن نضرب مثلا واحدا هو الأهم والأكثر دلالة على عمق الأزمة التّي يتخبّط فيها هذا البلد الطّيب.  الظّاهرة التي نقصدها هي العلاقة المتوتّرة -نكاد نقول العبثيّة -  بين التّونسيّين ولغتهم الوطنيّة. رئيس الدّولة يستقبل رئيس ايطاليا ويلقي بهذه المناسبة كلمة ترحيب اختار لها أن تكون باللغة الفرنسيّة (6). رئيس الحكومة يجيب على أسئلة صحافيي قناة فرنسيّة بلغتهم لا بلغته (7). للتذكير الرّئيسان عروبيّ واسلاميّ ولا يشكّ في تعلّقهما بهويّة البلاد وحرصهما على تدعيمها. أين المشكلة إذن؟ 
8. يبدو لي أنّ الجّواب على هذا السّـــؤال يمكن تلخيصه في كلمتين : الإزدواج والتّشـــوّه. أمّا الإزدواج (8) فهو تلك الوضعيّة التي بدأت مع دخول الإستعمــــار الفرنسي إلى تونس والتي تمثّلت في وجود تعليــــم تقليدي وآخر حديث وقضاء شرعي وآخر مدني وقس على ذلـــك في ميادين أخرى عديدة. هذا الإزدواج أنتج  - كما أراد له الإستعمار أن ينتج- «انشطارا بين نخب حداثيّة وعصريّة متخرّجة من المعهد الصّادقـــي ونخب تقليديّة متخرّجة من جامع الزّيتونــــة»(9). لم تتغيّــــر الوضعيّة بخروج الإستعمار إلّا قليــــلا، فقد أراد بورقيبة للتّونسييــــن - ولعلّهم أرادوا لأنفسهم - أن يعيشوا بين لغتين وبين مرجعيّتين ثقافيّتين. لا غرابة إذن أن يستحيل الإزدواج صراعا بين نموذجين -أوّلهما عربيّ إسلامي والآخر أوروبّي- لا داخل المجتمع فحسب بل داخل كــــلّ فرد تقريبا. لا غرابة أيضا أن يؤسّس هذا الصّراع لـ «انشقاق شعوريّ وثقافـــي وذهنـــي وقيمي لدى النّخبة التّونسيّة» (10). 
9. قد يكون القول إنّ «الفكر الذي استبطنه بورقيبة [...] لم ينتج لنا إلّا كيانا ممسوخا ومشوّها» (11) حكما شديد القسوة ومبالغا فيه لكنّ  التّشوّه الذي يعاني منه هذا الجّزء من الأمّة حقيقة لا يمكن نفيها. يكفي أن تستمع إلى تونسيّ يحدّثك في الرّياضة أو في السّياسة أو حتّى في  أسعار الطماطم والخيار  لتدرك عمقه : جمل  تبدأ بالعربيّة وتنتهي بالفرنسيّة أو العكس، أفعال فرنسيّة  تصرّف بالعربيّة، كلمات وعبارات  فرنسيّة تستعمل  بدون موجب ولا فهم لمعناها الدّقيق. غنيّ عن البيان أنّ التّشوّه ليس لغويّا فحسب وأنّ التشوّه اللغوي لا يقتصر على هذا الخليط البشع بين 
لغتين صار أغلب مواطنينا أمّيّين في كلتيهما.
10. كلّ شيء في هذا البلد الطّيّب يشي بالتّشوّه. هناك مثلا «التّشوّهــات السّياسيّــة والثّقافيّـــة التي طبعــت المشهد السّياسي العربي على مــدى ستّـــة عقـــود» (12) واالتّي يجب التّخلّـــص منها إذا أردنـــا أن «نؤسّس تجربة سياسيّة وديمقراطيّـــة حقيقيّة»، والتشوّهـــات الإقتصاديّة التي من علاماتهـــا «الإستهلاك الرفاهيّ السّفيـــه» (13) والتّشوّهات الأخلاقيّـــة الّتي تبدأ ببذاءة اللّسان وتنتهـــي بكل الآفات التّي أنتجت لنــا هذا الكـــمّ الهائـــل من الأنــذال واللّصـــوص والمنافقين وغير هذه التشوّهات تشوّهات كثيرة. 
11. كلّ شيء في هذا البلد الطّيّب يشي بالإزدواج أيضا، الموادّ التّي تدرّس في الإعدادي بلغة وفي الثّانوي بلغة أخرى، المثقّفون الذين يشاركون في الحوار الوطني بغير اللّغة الوطنيّة، لافتات المحلّات التّي تكتب بالحروف اللّاتينيّة  حتّى في الجهات التّي لم تطأها رجل أجنبيّة منذ عقود.
12. التّشوّه ليس إلّا الإسم الآخر للإنحطاط والإزدواج نتيجة من نتائجه لذلك فإنّ أمّ المعارك هي معركة الخروج من الإنحطاط. الخروج من الإنحطاط يعني الإنتقال «من الشّعور بالدّونيّة إلى الثّقة بالنّفس ومن الفرديّة إلى الجّماعيّة ومن اللامبالاة إلى المسؤوليّة ومن الإزدواجيّة إلى التّوازن ومن الإنسحاق والتّهميش إلى تحقيق الذّات وإعلاء حقوق الإنسان ومن الإستبداد إلى الدّيمقراطيّة ومن التشتّت إلى الوحدة ومن ثقافة الغلبة إلى ثقافة المواطنة ومن الإتّباع إلى الإبداع» (14).
13. الخروج من الإنحطـــاط يكــــون بـ «التّقدّم نحـــو» لا بـ «الرجوع إلى». لذلك فإنّ أولى المهامّ بالنّسبة لتيّار الهويّة العربيّة الإسلاميّة يكمن في التّخلّص من الأوهام التّي عاش عليها وروّج لها منذ عشريّات عديدة : وهم أمّة عربيّة كانت موحّدة ومزّقها الإستعمار ووهم مجتمع كان الجّميع يحتكم فيه إلى شرع الله ووهم شعوب خيّرة لا يمنعنها من تحقيق الحريّة والعدالة إلّا المستبدّون وحلفاؤهم وغير هذه الأوهام أوهام كثيرة.
14. نتخلّص من الأوهام ثمّ نبدأ أو نواصل معركة البناء. البناء تعمير للأرض وإبداع لثقافة جديدة. الأرض هي الأصل الثّابت والثّقافة هي الفرع الذي في السّماء. الأرض -كما يقول الفرنسيّون- لا تكذب والثّقافة هي ما يصل الأرض بالإنسان ثمّ الإنسان بالإنسان ثمّ الإنسان بالسّماء ثمّ الأرض بالسّماء.هذا إذن مشروع عملاق. لذلك فإنّنا نقول «نتخلّص من الأوهام» ونضيف «ومن ثقافة الثّرثرة». تلك التي تمارس في المقاهي ودور الثّقافة وبلاتوهات التلفزيون بل وفي الجّامعات وفي المساجد.
15. للبناء أداة وحيــــدة هــــي العمــل. المفــــروض إذن أن لا تكون هنــــاك مشكلـــة. ألسنـــا أمّة الإيمــان والعلم والعمل ؟  ألسنا أمّة «الذين آمنوا وعملوا الصّالحات»(15) و«فإذا قضيت الصّلاة فانتشروا في الأرض» و«إنّ الله تعالى يحبّ إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنــه» ؟ ثمّ إنّ الإقبال على العمل  يتطلّب «ردّ الإعتبار لمسألـــة الوقت وعدم هدره وإضاعته» (16) . 
المفروض إذن -مرّة أخرى- أن لا تكون هناك مشكلة فنحن أوّل من يقول بـ «احترام الوقت وتقديس العمل» (17). ألسنا أمّـــة «كتابا موقوتــــا» وأمّــة الذين يقومـــون لصلاة الفجر والنّاس نيام ثمّ ينتشرون في الأرض التي «استعمركم فيها» ؟
16. لو كان ذلك كذلــك لكنّا خير أمّـــة قد أخرجت للنّـــاس ولكنّ «النّهضـــة التي لم تتحقّـــق والحلم المجهـــض والثّورة المغـــدورة والتّقــدّم الذي تأخّــر» (18) شاهدون على أنّ الأمر أبعد ما يكون عن هذه العلاقة الحميمة التي كان من المفروض أن تربطنا بالإسلام نصّا وروحا، قرآنا وسنّة وعقلا.
17. لو كان ذلك كذلك لما كنّا «أمّة عاطلة حضاريّا وعاجزة عن الإبداع الرّوحي والثّقافي» (19) ولما كان هناك ما يدعو  إلى وجود حركات إصلاح  تدعو منذ قرن ونصف إلى «ضرورة التجديد والإجتهاد في الشّريعة الإسلاميّة» أوّلا وإلى «ضرورة الأخذ بالمعارف وأسباب العمران ثانيا» (20) وتصطدم حين تفعل بخصوم يأتون من اليمين ومن اليسار، من الشّرق ومن الغرب، من الحالمين بأن يعودوا بنا إلى الماضي ومن الزاعمين أنّهم سبقونا إلى المستقبل.
الهوامش
(1)   من ذلك أنّ  ما بعد هزيمة 1967  شهد تراجعا كبيرا للخطاب القومي العربي و تناميا أكبر للتيّارات الإنعزاليّة من جهة و للتياّرات الإسلاميّة المعادية للقوميّة العربيّة من جهة أخرى.
(2)  من افتتاحيّة صاحب الفكرة للعدد 26.
(3)  البيان التّأسيسي للمنتدى. عدد 26.
(4)  محمّد القوماني. عدد 10.
(5)  البيان التّأسيسي لمنتدى الفارابي. عدد 26.
(6)  افتتاحيّة العدد السّابع
(7)  نفس المصدر.
(8)  تراجع في هذا الموضوع كتابات الجّامعي والسّياسي التّونسي عزيز كريشان (بالفرنسيّة)
(9)  محرز الدريسي.عدد 4.
(10)  نفس المصدر.
(11)  عبد النّبي العوني. عدد 15.
(12)  مصباح الشّيباني عدد 11.
(13)  علي الطّرهوني. عدد 18.
(14)  محمّد القوماني. عدد 4.
(15)  انظر التحليل الأنيق الذين يقدّمه العلّامة علي عزّت بيجوفيتش رحمه الله لهذه الآية التي تتكرّر كما يقول بصيغتها أو معناها في القرآن أكثر من خمسين مرّة. العدد 22.
(16)  رضا السمين. عدد3.
(17)  عدد 4. القوماني
(18)  مصدّق الجليدي. عدد2.
(19)  سالم العيّادي. عدد 11.
(20)  مصلحون عدد 1
-----------
-  أستاذ جامعي تونسي مقيم بفرنسا.
houcine.senoussi@gmail.com