أدب الشباب

بقلم
مالك الشعبوني
محال على التقاعد
 قليل فقط من أهل الحي يعرفونه... بعضهم يخال أن بيته مهجور من فرط عزلته... لم أكن لأعرفه لو لم تردني اخباره من الحاج عمر، مؤرخ حينا المسن. هناك من الرجال من ترى في عينيه الخصاصة، هناك من تسعد بمجرد النظر إلى وجهه، من الرجال من يضرب به المثل في الشجاعة... أما هذا فغير ذلك، هو رجل مأساة في حدّ ذاته.
لا يكاد يخرج من بيته إلا للصّلاة أو عند الضرورة. في المسجد يكون أول القادمين وأول المغادرين. يتخير مكانه  في صلاة الصبح بجوار النافذة الشرقية التي تطل منها الشمس لتجفف الزربية يوميا من سيل دموع ساعة من التهجد. لم يخبر أحدا بقصّته. كلّما سأله «الحاج عمر» تهرب من الإجابة. إنّما وصلته أخباره من حيّه القديم الذي غادره منذ أن أحيل على التقاعد المبكر، أو بالأحرى منذ أن تغير مجرى حياته.
لقد قاده حبه لوطنه وتاريخ أبيه في الخدمة العسكرية إلى الإنضمام إلى الجيش. كان سعيدا بعمله، كان يستعد للزواج، لقد إقتنى هذا البيت الجديد لتكوين أسرة... ولكن مشيئة الله غير ما نوى. كان يوما حارا في ذلك الصيف المشؤوم الذي إضطرب فيه البلد. خرج في مهمة لمراقبة مظاهرة ما... إلا أن الأمور خرجت عن السيطرة، وتلقى أوامر بالالتحام مع المتظاهرين... هاته الأشياء تحدث بسرعة، تتطور دون إستئذان كقطع الدومينو المتساقطة. كل ما في الأمر أن احدهم رماهم بالحجر و أنه أمر بإطلاق النار ففعل... يمكن أن يقسم لك ألف مرة أنه لا يجيد الرماية وأنه نواها في رجله، و لكنك لن تصدقه. كيف لك أن تصدقه وهو لا يكاد يصدق نفسه! لقد كان الأمر سريعا، لم يكن ينتظر هذا أبدا! لم يكن مستعدا للقتل، لم يكن مستعدا لإستعمال مجرد مسدس أصلا!
لا داعي لإعلامك أنه لم يحل على التقاعد لأنه إرتكب جريمة. هو أحيل عليه لأنه أصيب بالمرض! في بلده لا يحال العسكري إلى التقاعد من أجل القتل، ذاك واجبهم وعملهم. لطالما تساءل، ماذا كان سيحدث لو أنه رفض الإنصياع للأوامر؟ لا يمكنه أن يمنع نفسه الشريدة من أن تتصور ذلك، رغم أنه يعلم أن لو تفتح عمل الشيطان. لن تصدقه لربما، ولكن دعاءه كل صباح هو أن يعيده الله إلى ذلك الزمان ليبدل ما اقترفه... هكذا يجني الجنون على صاحبه! وكيف له أن لا يجن بعد أن حضر جنازة الفقيد متنكرا وشاهد بناته الثلاث، أكبرهن لم تتجاوز العاشرة! من الطبيعي أن لا يجد الملاذ إلا في الإعتكاف لعله يؤدي للرجل حقه يوم القيامة! ثلاثة أرباع جرايته تذهب إلى حساب اليتامى من مصدر مجهول....
في بعض الأحيان يخرج إلى المقهى ليكتب... يفعلها مرّة في السّنة أو السّنتين. أظنّه يصحو عندها من جنونه فيريد أن يروح عن نفسه. كثيرا ما ينسى أوراقه... فيجمعها «الحاج عمر» ويقرؤها على الصبية الصّغار لما تحتويه من حكم وعبر... لربّما مثلت عصارة حياته. دائما ما يكتب عن ظلم المرء أخيه، كيف أن ّالحياة لعبة لا يعرف حقيقة خطورتها إلاّ من استسهلها...
ما أسهل أن يضغط على الزّناد... وما أصعب أن يزهق روحا، أن يضع حدّا لحياة إنسان آخر ينتظره أحبابه على العشاء.
-------
-  طالب.
chaabouni.malek@gmail.com