بهدوء

بقلم
فيصل العش
هل يفعلها الشباب مرّة أخرى؟

إلى وقت قريب من ثورة الشباب على نظام بن علي الاستبدادي، كانت أغلب أطياف العمـــل السياســـي بمختلف مرجعيتهـــا الفكريــــة والإيديولوجية تبحث عن مدخل لتحريك الساحة السياسية وخلق جوّ من الحريات ولو بصفة نسبية من دون التفكير في إسقاط بن علي أو مواجهته المباشرة. ونظرا لعدم التحام هذه النخبة  بالمظلومين والمحرومين من شباب تونس بالمدن الداخلية والأحياء الفقيرة المحيطة بالمدن الكبرى نتيجة الحصار المضروب عليهـا من بوليس بن علي، فإنها لم تستوعب ما حــدث بعد 17 ديسمبر ولم يقدر جزء كبير منها مواكبة الحراك الثوري الذي برز بعـــــد استشهـاد البوعزيزي والصدامات العنيفة التي حصلت بسيدي بوزيد وتالة والقصرين ولم تستشعــر اللحظة الثورية التـــي بلغـــت أقصاهــا ليلة 14 جانفي 2011 حيث رحّب العديد من المثقفين والسياسيين بما جاء في خطاب بن علي واعتبروه حلاّ للوضع السائد بالبلاد.     

لقد نجح شباب الثورة في إسقاط الطاغية من دون مساعدة أغلب مكونات الطبقة السياسية التي عايشت بن علي والتي لم تكن قادرة على  قراءة المستقبل من خارج دائرته . نجح الشباب نتيجة توفّر إرادة الوحدة لديه لبلوغ هدف مشترك من دون إبراز مرجعياته الفكرية والسياسية وقد تجسّدت هذه الوحدة بطريقة واضحة من خلال العلاقات التي ربطها الشباب في ما بينه عبر شبكات التواصل الاجتماعي. وهو ما تأكد في اعتصامي القصبة وفي الوقوف بحزم أمام  محاولات التكيف والالتفاف التي قامت بها بعض قوى الردّة.

لكـــن الشبـــاب سرعـــان مــا انسحــب مـــن قيــادة الثورة أو أجبر على الانسحاب وترك الساحة للنخبة السياسية بشقيها المعادي والموالـــي للنظـــام القديم التي تحوّلت بين عشية وضحاهـــا إلى ناطقة باسم الثورة فتصدّرت مواقع القيادة والمنابر الإعلامية مدّعية أنها أهل للقيام بعملية الإنقاذ والتخطيط لتحقيق الانتقال الديمقراطي. 

كانت أغلب القوى السياسية منهكة ومتشتتة بفعل قمع بن علي ولم يكن في برامجها أو مخططاتها سوى ما كانت ترفعه من شعارات حرية التعبير والاجتماع وعبارات الصمود والتحدّي. وعوض أن تلتحم بصناع الثورة الحقيقيين ممن عانوا من الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لنظام بن علي وتحاول أن تستجيب إلـــــى تطلعاتهم وتبنــــي برامجهــــا انطلاقـــا من مآسيهم وطموحاتهم، عمدت إلى تأسيس الأحزاب والقيام بحملات انتخابية قبل أوانها معتمدة في ذلك على شرعيتها التاريخية والنضالية وعلى خلق صراعات وهمية محورها الهويّة والحريات الفرديّة. لم تكن أغلب الأحزاب التي تأسست والتي فاق عددها المائة والعشرين ذات تمثيلية ومؤسسات  فعليّة بل كانت حوانيت حزبيـــة يرأسهــــا رمـــوز قديمــــة مــن زمــــن بن علي ومن زمن الراحل بورقيبة،عاش أغلبها فترة طويلة بالمنفى. وكانت أغلب هذه الحوانيت تدار بطريقة غير ديمقراطية وفي بعض الأحيان بشكل عائلي وفئوي. ولم يكن الشباب، ضمن مخططات أغلبها، سوى "جيش احتياط يزج بهم في المعارك الحزبية والفئوية وحتى الشخصية أحيانا مستغلين عجزه على إنتاج رموز وقيادات لها القدرة على تأطير الحراك الشبابي وتوجيهه لصالحه وخدمة أهدافه".

ربح الشباب معركته مع بن علي لكنه سرعان ما خسر مواقعه المتقدمة في الثورة وانتهت إلى شيوخ السياسة الذين لا يعرفون من السياسة غير فن التناحر والاحتراب تدفعهم في ذلك شخصياتهم المهزومة والمتأزمة من جهة و"زعاماتية" شكلية ومآرب شخصية افتقدوها لفترة طويلة من جهة أخرى. ورغم ادّعاء هؤلاء الشيوخ بأنهم ديمقراطيون وأنهم مؤمنون بمبدإ التداول وإتاحة الفرصة للشباب ليقود مرحلة البناء، فقد تشبّثوا بالمناصب القيادية لأحزابهم مما يؤكد ضعف إيمانهم بفكرة التداول وتبني فكرة الزعيم الملهم والقائد الذي لا يمكن الاستغناء عنه ولعلّ نظرة سريعة لأغلب الأحزاب التونسية تؤكد هذه الفكرة.  

وقد ساهمت بعض وسائل الإعلام في حصول القطيعة بين  قطاع كبير من الشباب والأحزاب السياسية بما قدّمتـــه طيلـــة سنتيـــن من برامج حوارية نمطية لا تختلف كثيرا عن حلبات الصراع والتطاحن ومن تسويق متعمّد لشخصيات سياسية معيّنة.

وبعد سنتين من الثورة، تأزّم المشهد السياسي وأصبحت تونس تعيش أزمة حقيقية تهدد الانتقال الديمقراطي، تتميّز باستقطاب ثنائي  حاد أدى إلى حالات من العنف اللفظي والجسدي وإلى تقسيم المجتمع التونسي إلى فسطاطين متنافرين بين مؤمن وكافر وتقدّمي ورجعي ومعارضة وموالاة. كما تتميّز بتهميش الشباب وذلك بـ:

◄ تشتيت جهوده وهدر طاقاته عبر الزج بطيف منه في أتون المعارك الوهمية ودفعه إلى الانتماء إلى جماعات تؤمن بالعنف وقمع الرأي المخالف

◄ عدم الاهتمام بمشاغلـــه والتعالـــــي عن تشريكـــه في البحث عن حلول لمشاكله ( ارتفاع نسبة البطالة وعدم الشفافية في اعتماد مقاييس للتشغيل) مما خلق غياب التوازن النفسي والاجتماعي لدى طيف كبير من الشباب العاطل عن العمل الأمر الذي دفعه إلى ركوب قوارب الموت في اتجاه المجهول والهروب من واقعه المتعفّن. 

إن نجاح تونس في تحدّي واقعها المضطرب رهين اعتقادنا في وعي شبابها بعدم البقاء خارج دائرة العمل السياسي والاكتفاء بالمتابعة وبضرورة مشاركته الفعلية الميدانية في تحقيق تغيير جوهري في طبيعة العمل السياسي ونوعية الطبقة السياسية وذلك عبر الحسم النهائي مع ثقافة ورموز السياسة القديمة المأزومة سواء كانت أفرادا أو جماعات (أحزابا وجمعيات) ودعم محاولات إنتاج ثقافة سياسية جديدة تقوم على العمل الميداني والتعايش والالتقاء وتوسيع دائرة المشترك وهذا لا يتحقق تحت قيادات تعشق الصراع والتناحر تحكمها إيديولوجيات نمت وترعرعت  في زمن الاستبداد فتطبعت بطبائعه وتميّزت برفض الآخر ومحاربته. إنها حركة تصحيحيّة لمسار الثورة وثورة داخل الثورة يجب أن يقودها الشباب، بعيدا عن أساليب العنف والتخريب، وفاء للشهداء والجرحى وضمانا لحرية الشعب وكرامته. 

فهل يفعلها الشباب مرّة أخرى؟