الأولى

بقلم
فيصل العش
في مأزق العائلة الديمقراطيّة وفشل أحزابها
 لم يكن أكثر المتشائمين من العاملين في الحقل السّياسي التّونسي ضمن ما يسمّى بالأحزاب الديمقراطيّة والناشئة يتصوّرون النّتائج التي تحصّلت عليها هذه الأحزاب في الإنتخابات التّشريعيّة الأخيرة التي طويت على إثرها مرحلة الحكم المؤقت وتشكّل من خلالها مجلس نواب الشّعب.
كانت نتائج هذه الأحزاب جدّ هزيلة ولولا قاعدة «أفضل البقايا» لما فاز واحد منها بمقعد في المجلس الجديد، فقد خرج أغلبها من الانتخابات بخفيّ حنين فيما ظفر القليل منهم ببعض المقاعد اليتيمة لا فاعليّة ترجى من أصحابها داخل المجلس بعد تحالف النداء والنهضة والوطني الحرّ وآفاق تونس في كتلة مساندة لحكومة الحبيب الصّيد التي تسلّمت مقاليد حكم البلاد.
ما وعظ امرئ كتجاربه
لم تستفق بعد أغلب ما يسمّى بالأحزاب الديمقراطيّة والوسطيّة، الناشئة منها والعريقة من الصدمة التي أصابتها جرّاء الزلزال السياسي الذي حدث إثر الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة ولم تسع إلى القيام بمراجعات جدّية أو تقييمات عميقة لتجربتها السّياسية ولمسارها خلال الفترة الفارطة حتّى تتّعظ من الأخطاء التي أفقدتها بريقها وتحدّد موقع الخلل لترميم ما يمكن ترميمه أو البناء من جديد على أسس صحيحة، فما وعظ امرئ كتجاربه. ولعلّ طبيعة شخصيّة قياداتها هي التي تقف حجرة عثرة في وجه أيّ تقييم عميق وجريء لتجربة هذه الأحزاب خلال فترة ما بعد بن علي. فهؤلاء مازالوا متمسّكين بمواقعهم القياديّة داخل أحزابهم ولا يجدون حرجا في الإعلان عن خطوات جديدة مستقبليّة من أجل تدعيم موقع أحزابهم داخل النّسيج المجتمعي التّونسي وهم يعلمون جيّدا أن أغلبهم قيادات بدون قاعدة شعبيّة وأنّ هذا النسيج المجتمعي الذي يتحدثون عنه قد أصدر حكمه فيهم وأعلنه على الملإ في انتخابات أكتوبر 2014 (1).
التقيت بأحدهم بعد الانتخابات مباشرة وسألته عن موقفه من نتائج الانتخابات وهل قام بعمليّة تقييميّة لتجربة حزبه السياسيّة فأعلمني بأن الوضع الرّاهن لا يسمح بذلك وأنّه وحزبه منكبّون على وضع استراتيجيّة لدعم الدكتور «المنصف المرزوقي» في حملته الانتخابيّة وبعد الانتخابات الرئيسيّة سيكون لكلّ حادث حديث!!!
بعد خروج «المرزوقي» من السّباق مهزوما واعتلاء السّبسي كرسي الرّئاسة، طرحت نفس السّؤال على «زعيم» آخر فكان جوابه أنّ الوضع صعب ولا يمكن تقييم ما سبق وتخطيط ما سيلحق إلاّ بعد وضوح الرؤية في السّاحة السّياسيّة وتشكّل الحكومة حتّى يُعرف من في خندق الحكم ومن في خندق المعارضة!!!
إنّه الهروب من المسؤوليّة ورفض الإقرار بخطإ التجارب السابقة. ولعلّ القارئ الكريم يرى في ما ذكرت إجحافا في حقّ مناضلين سابقين خاضوا معارك لا تحصى ولا تعدّ ضدّ بن علي وحاشيته أو يرى فيه تقليلا من حجم المحاولات التي يقوم بها بعضهم هنا وهناك من أجل ترميم البيت الدّاخلي أو التّنسيق فيما بينهم من أجل بناء كيان جديد يوحّدهم لمجابهة الاستحقاقات الانتخابيّة القادمة وأهمّها الانتخابات البلدية. 
محاولات فاشلة
كلّ المحاولات التي نسمع بها بين الحين والآخر(2)  سيكون مآلها الفشل لا محالة حتّى وإن خلصت النيّة (وهذا مستبعد)، فأغلب قيادات الأحزاب الخاسرة مازالت مؤمنة بقدراتها النّضاليّة رغم التّغيير الكبير الحاصل في ميدان اللّعبة السياسيّة وقواعدها. فما كان صالحا في عهد الدكتاتوريّة والاستبداد لم يعد له نفعا في الوقت الرّاهن، لكنّ هؤلاء يكابرون ولعلّ ترويجهم لفكرة عودة الدكتاتوريّة والتغوّل السّياسي ورجوع الاستبداد تدخل في إطار محاولاتهم خلق أرضيّة تتماشى وامكانيّاتهم التي لا تتعدّى مجال التكتيك السّياسي بأليّات قديمة فهم لم يستطيعوا ولوج عالم البناء الحقيقي للوطن باقتراح برامج مقنعة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي تشدّ إليها الجماهير المتعطّشة إلى حلول تخرجهم من الوضع رديء الذي تعيشه البلاد.
احرقوا مراكبكم ..
هؤلاء القادة هم جزء من المشكل وهم أحد معيقات نجاح عمليّة إعادة التشكّل الحزبي الذي أصبح ضرورة ملحّة لخلق التّوازن السّياسي بالبلاد وحماية المسار الدّيمقراطي الناشئ. 
إنّ من سنن الحياة أن يترك الفاشل مكانه لغيره لعلّه يحوّل الفشل إلى نجاح والهزيمة إلى فوز. فلا يمكن أن يحصل الفوز بجياد خاسرة ولا يصح بناء العمارات الشاهقة على أسس منزل قديم مهترئ.  
أيّها القادة والزعماء ألا يمكن أن تكون «مهمّتكم» قد انتهت وشكر الله سعيكم كما يقال ؟!!!.. نحيّي فيكم نضالكم وصمودكم ونحترم فيكم تجربتكم وخبرتكم ونبني على نيّتكم الصّادقة في تجاوز الفشل فندعوكم إلى تبنّي مقترحنا الذي قد ينهي حالة التّشرذم الذي تعاني منه العائلة الديمقراطيّة ومختلف القوى المنحازة إلى الثورة. 
احرقوا مراكبكم كلّها بالشّعلة التي تحملونها ثمّ مرّروها إلى الشّباب الذي لم يغادركم وبقي وفيّا للمبادئ التي بنيتم بها تلك المراكب. ذلك الشّباب الذي لم تغره أحجام الأحزاب الكبرى وانتصاراتها المتتالية ولم تحطّم هزائمكم الانتخابيّة  عزائمه وتمسّك بمواصلة المسيرة معكم.
احرقوا مراكبكم كلّها واتركوا هذا الشّباب يصنع مركبا كما يراه هو ، كبيرا يتّسع للجميع، لكلّ من يؤمن بالديمقراطيّة والحرّية والتنمية الشاملة ومبادئ المواطنة والجمهوريّة. شجّعوهم على تجميع الصفوف والدّخول في حوارات تجمع الشّمل وتؤسّس للجديد وابتعدوا بهدوء وفي صمت حتّى لا تشوّشوا عليهم بناءهم . عندها فقط يمكن أن يقف نزيف استقالات الشّباب من العمل السّياسي وينخفض منسوب الإحباط والمرارة التي يعيشها. وعندها فقط يمكن الحديث عن امكانيّة القطع مع التشتّت التنظيمي وتأسيس الحزب الوازن والفاعل، القادر على إحداث التّوازن في المشهد السّياسي والصّمود أمام هجمات المنافسين وتحدّي صعوبات المرحلة.
تأكّدوا أنّ الشّباب الذي سيحمل المشعل لن يرمي بكم في مزابل التّاريخ ولن يقطع روابطه بكم بل سيستحسن فعلكم ويستعين بنصائحكم واستشاراتكم غير أنّه سيكون القائد  الفعلي لعمليّة البناء ووضع الخطط المناسبة لإنجاز تغيير سياسي حقيقي برغم ادراكه لصعوبة المرحلة والظروف التي سيعمل فيها.
وعندها فقط يمكنكم حفظ ماء وجوهكم والاحتفاظ بنقاوة دفاتركم النّضاليّة، فليس من عدالة التّاريخ أن تسوّدوا آخر صفحاتها بالفشل وتخرجوا من السّاحة السّياسية من الشبّاك بعد أن دخلتموها من الباب الواسع العريض. أمّا إذا تمسّكتم بزعاماتكم وواصلتم على نفس النهج الذي ارتأيتموه لأنفسكم فاعلموا أن القطار قد فاتكم ولن يكون مآل محاولاتكم الجديدة إلاّ الفشل وسَيَتِرَكُم الله أعمالكم.
الهوامش
(1) يكفي أن نشير إلى خوض بعض هؤلاء غمار الانتخابات الرئاسيّة رغم خسارة أحزابهم المدويّة في الانتخابات التشريعيّة.
(2) مشاورات من أجل تشكيل جبهة تجمع الجمهوري والتكتل والتيار الديمقراطي والتحالف وبعض الأحزاب الأخرى لتقديم قوائم مشتركة في الانتخابات البلديّة / الحوار  الذي يجمع حزب الإصلاح والتنمية وحركة وفاء وحزب البناء الوطني والحركة الوطنية للعدالة والتنمية وجبهة 17 ديسمبر للتنمية ومستقلون لبناء حزب جديد.
-------
-  مدير مجلّة الإصلاح
faycalelleuch@gmail.com