الرأي الحرّ

بقلم
عبدالمجيد بن ابراهيم
علاقة القران بالسنة في سياق نقد المنظومة الأصوليّة
 يشكل نقد المنظومة الأصولية الفقهيّة أحد مداخل التّجديد للفكر الاسلامي وهذا المشروع النّقدي يمسح كل أركان هذه المنظومة وسوف نستهل في هذه اللّحظة هذا العمل بتناول مسألة العلاقة بين القرآن والسّنـــة والمعقوليّة التي حظيت بها داخل هذه المنظومـــة وبالطّبـــع سوف نحاول إبراز هنّاتها. فماهي مظاهر هذه المعقوليّة وماهي علامات الهشاشة في تناولها لهّه العلاقة؟ وأي خلفيّات تقف وراء هذه المعقولية؟ 
سوف نركّز في طرحنا لهذا الموضوع على نقطتين أساسيّتين وهما هويّة السّنة في المنظومة الفقهيّة التقليديّة والسنة من حيث الوظيفة والدور.
(1) هوية  السنة 
ذكر التّماهي بين المنظومة الأصولية الفقهيّة التقليديّة وبين فقه الإمام محمد بن ادريس الشّافعي المتوفّي سنة 204هجري، ليس من قبيل ذكر الشئ المستجد، فالمذهب الشّافعي يخترق حقا هذه المنظومة الأصولية ويشكّل هويتها  لذلك لاغرابة أن تجد عدد كبير من النقاد(1) يتّجهون في نقدهم لهذه المنظومة الى مفردات المذهب الشافعي. 
ومادام الأمر بهذه الكيفيّة فإنّنا لا نجد إصرا حين نعود الى الكتاب الركيزة للإمام الشّافعي وهو كتاب الرسالة(2)-والذي يقسم فيه الأصول الفقهيّة الى أربعة وحدات هي التّالية: القرآن، السّنة، الإجماع والقياس وما يهمّنا في عرضنا هذا هما الوحدتان الأوليتان في ترتيب الشّافعي للأصول  أي القرآن والسّنة  وما يضفيه من علاقات بينهما، فما هي هذه العلاقة؟ 
يهب الإمام الشافعي –ودائما حسب كتابه الأخير الرّسالة – ثلاثة علاقات بين القرآن والسّنة وهي كالتالي: 
* علاقة تاكيد وتأييد
* علاقة تفصيل وتبيين
* الاستقلال بالتشريع.
ما يهمّنا في هذا المضمار هو الجانب الثالث إذا يعطي الشّافعي صفة جديدة  للسّنة، فهي حسب كتاب الرّسالة هي «القاء  في الرّوع» أوهي وحي وبالتالي فهي تحتلّ نفس المكانة التي يحتلها الوحي القرآني، هكذا يضفي الشّافعي هويّة مرجعيّة جديدة للسّنة، هويّة نوعيّة متمايزة وهي محلّ منافسة للكتاب الأهم للمسلمين أي القرآن الكريم. إنّ هذا الرأي يقطع مع التّصور الذي كان سائدا في عصر البواكير حيث كان الصّحابة رضوان الله عليهم يستأنسون بالسّنة في فهم القران. 
يتغاضى الإمام الشافعي عن واقع الفروق بين القرآن والسّنة وهي فروق جوهريّة لا يمكن القفز عليها وسوف نذكرها لمزيد توضيح الفكرة: 
- القرآن: إعجاز لغوي - كلام الله المنزل عبر جبريل - يتلى في الصلاة - تلاوته عبادة - قطعي الورود.
- السنة النبوية: لا إعجاز - كلام النبي بشري - فيها الظنّي وفيها الموضوع أصلا -
من خلال هذه الفروقات نلاحظ أنّ الإمام الشّافعي كان هدفه تمرير تصوّر معيّن ولو أدّى ذلك الى القفز على الحقائق والفروقات الأساسيّة بين القرآن والسّنة وهو ما يؤكّد أنّ الشّافعي كان يهدف الى تمرير ايديولوجيّة معينة حتى ولو اضطر الى ليّ أعناق الحقائق. ولكن مقصودات الشافعي سوف تزداد وضوحا كلما تقدمنا في عملية التحليل لا سيّما في مسألة وظائف السّنة
(2) وظيفة السنة
ذكرنا في مستهلّ هذه الدّراسة أنّ الإمام الشافعي كان يدعو الى استقلاليّة السّنة بدافع فرض هويّة جديدة للسّنة وحتى يحافظ على ذلك المنحى فإنّه ساق مسألة النّسخ  جاعلا إيّاها بمثابة الحامي لهذه الهويّة حيث لن ينسخ القرآن الأخبار وهذه الأخيرة بإمكانها نسخ الكتاب أو بلغة أهل الحديث قاضية على الكتاب. 
إنّ الأهمّ من كل ذلك من خلال التأسيس للاستقلالية هو توسيع دور السّنة  فماهو هذا الدور؟ 
وما دمنا قد ذكرنا النّسخ فإنّ الشّافعي يحدّد أنّ السّنة وحدها من تحدد هدا النسخ بالوجود والعدم ولكن هذا مجرد دور ولكنه يفتح بنا الابواب للادوار العديدة التي يشرعها الشافعي  للسّنة وبالتّالي فنحن مع إطلاق العنان للسّنة  الذي سيشكّل أحد أهم خصائص المنظومة الأصولية الفقهيّة التقليدية. سوف تتوضح الصورة لاسيما في علاقة السّنة بالأنظمة الدّلاليّة للخطاب القرآني العام والخاصّ والمجمل .
يحدّد الشّافعي أنّ العام لعمومه هو ظنّي وهو يختلف هنا مع الإمام «ابوحنيفة» الذي يرى أنّه قطعي والشّافعي يرى أنّ تراخي التّخصيص من حيث البيان يكون أساسا بالسّنة  كما يرى ذلك أيضا في المجمل الذي يرى أنّه ظنّي أيضا وتفصيله لا يكون إلاّ من خلال السّنة. إن هذا الهدف ليس اطلاقا لدور السّنة فقط بل هو مدعاة للتقليل من النّصوص القرآنية  وهو ما فهمه «أبو حنيفة» وتجاهله «الشّافعي». 
لم ينتهي الأمر عند هذا الحدّ  بل أنّ الأمر سيزداد توضّحا مع اشكاليّة السّنة ومسألة قطعيّتها وظنّيتها. 
- أخبار الآحاد
تقوم استراتيجية المنظومة الفقهيّة الأصوليّة التقليديّة على الدّفاع على السّنة ونصرها وذلك بهدف الانتصار للنّص ضدّ كل روائح العقل والرّاي  لذلك سوف لن يجد  الإمام الشافعي أي حرج في التشريع لأخبار الآحاد بكل الوانها ومراتبها.
يدخل الشافعي في استراتيجيّة الالغاء والهدم والتّجاوز بأقصى سرعة وذلك من أجل ترتيب البيت الدّاخلي الفقهي طبعا وذلك بهدف الدّفاع عن مشروعية الآحاد. 
يدخل الإمام في مواجهات حامية الوطيس ضد محاولات تبخيس الآحاد أو تنقيص مكانتها وقد تجسّد ذلك في ملاحق كتابه الرّسالة الشافعي ومالك والشافعي ومحمد ابن الحسن، الأول ناقشه في أسبقيّة المصلحة على خبر الآحاد والثّاني وهو التلميذ المباشر للإمام أبي حنيفة زعيم مدرسة الرّأي ناقشه في مسألة أسبقيّة القياس على خبر الآحاد وفنّد آراءه.إنّ الامام الشّافعي يهدف الى إعادة الاعتبار لكلّ النّصوص المراسيل وحتّى الضّعاف وحتى الأحاديث الموضوعة. 
إنّ الامام الشّافعي يتغافل مرّة أخرى على الفروق بين أحاديث التّواتر والمقطوعة بصحّتها من قبل الجمهور وبين أخبار الآحاد الأخبار الظنّية. إنّ تواتر العمل بالآحاد معناه إدخال التّشريع في مسار الفوضى  لاسيما أنّ التّركيز تمّ على الاسناد أو ما يسمّى المنهج السّندي في حين وقع التّغاضي على المتون. 
واضح أنّ الشّافعي، ولكي يثبت مزاعمه الايديولوجية واثبات مشروعية النّصوص ضدّ تنمّر فقه الرأي،  اِرتأى اللجوء الى النّسخ لكي يحمي هذه الأخبار أي أخبار الآحاد وهو أمر مثلا لم يقع فيه ابو حنيفة الذي قلّل من استعمال النّصوص وأكثر من استعمال القياس والاستحسان الذي استقضعه الشّافعي قائلا من «استحسن فقد شرع»
خلفيات
يشكل عمل الامام الشافعي بمثابة البحث عن مشروعية جديدة لايديولوجية مغايرة سوف تضفي خصائصها على المنظومة الاصولية التقليدية. هذه الخصائص تواصلت وتوطدت حتى عصرنا الحالي-مثال على سبيل الذكر لا الحصر الإمام أحمد ابن حنبل (توفي سنة 241 هـ) والإمام دواد الاصفهاني (توفي سنة 289 هـ). ومن تجلّيات هذه المنظومة هيمنة النّصوص على الرّأي والعقل، وقد كانت مجهودات الشّافعي من أجل إعطاء مكانة أكبر للسّنة، لذلك أطلق عليه لقب «ناصر السّنة» ومنتصر للسّنة ضدّ فقه الرّأي طبعا.
لكن كل ذلك لايمكن عزله عن الإطار التاريخي والتدافع المذهبي الذي عاشه عصر «الشافعي» لاسيّما تنمّر فصائل التأويل باتجاهيها المعتزلي العقلاني والباطني العرفاني لذلك كان الشافعي متسلّح بهمّ ايديولوجي هو الرّد على هذه التّيارات ولذلك سار في اتجاهين أحدهما القضاء على تيارات العقل والرأي داخل البيت الفقهي لاسيما فقه ابو حنيفة أو فقه العراق وثانيهما تسديد ضربة للفكر الاعتزالي بصفة مخصوصة ولذلك كان كل البناء الايديولوجي يدور حول هذه المسالة حتى الإجماع - الأصل الثالث - جعله إجماع حول نصّ وتحوّل دوره الى توثيق للنّصوص والقياس ليس الاّ مماثلة نازلة جديدة لنصّ قديم. 
يشكل استدعاء العلاقة بين القرآن والسّنة جزءا من نقدنا لكل المنظومة الأصولية الفقهية التقليدية وإعادة تفكيكها ومن ثمّة تجاوزها. إنّ الغاية الأسمى لنا هو تجديد الفكر الإسلامي واستنهاض هذا الفكر وفتح باب الاجتهاد من جديد وربطه بالواقع المعاصر وخلق فكر وفقه دينامي يعيد للأمة حضورها ووجاهتها. 
الهوامش
(1) الاستاذ حامد ابو زيد في كتابه «الامام الشافعي والايديولوجية الوسطية» والاستاذ محمد اركون في كتابه «الفكر الاسلامي نقد واجتهاد» والاستاذ محمد عابد الجابري في كتابه « تكوين العقل العربي».
(2) كتاب الرّسالة وهو الكتاب الثاني الذي كتبه الامام الشافعي ويمثل اخر انجازات الشافعي وزبدة الانتاج الفقهي في ذلك العصر بينما كان كتاب الام هو كتابه الأول الذي كان على مدرسة أهل العراق أو أهل الرأي وقد شكل كتاب الرّسالة الغاءا لكثير من الآراء التي تضمنها كتاب «الأم»
-------
-  أستاذ  التاريخ.
imedfawzi14@yahoo.fr