من الأعماق

بقلم
يسري بوعوينة
الأساطير الإعلامية المؤسسة للثورة التونسية
 أحرق رجل يوم 17 ديسمبر 2010 نفسه في أحد المدن المنسيّة في تونس... خبر عادي لا يستحقّ الاهتمام، فهذه الحادثة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة.... يوم 14 جانفي 2011 يغادر الرّئيس التّونسي بشكل مفاجئ قصره الذي خلناه منيعا بقرطاج بعد سلسلة من الإحتجاجات الشّعبيّة  وتدخل البلاد حالة من الإضطراب والفوضى مع إعلان الشّغور الوقتي ثم النّهائي لمنصب فخامته. إلى هنا طويت صفحة وبدأت حكايات أخرى يوم 15 جانفي أي اليوم الموالي لرحيل بن علي...يومها تكلّمت الألسن التي سكتت وفتحت العيون التي طويلا نامت واكتشف الشّعب قصيدة «إذا الشّعب يوما أراد الحياة» واكتشف الأمنيّون أنّهم أمن جمهوري وليسوا ميليشيا العائلة الحاكمة واخترعت الصّحافة تكفيرا عن ذنب الصّمت والتّواطىء مع النّظام السّابق أساطيرا أصبحت كلّها تعرف فيما بعد بـ « الثورة».
- الأسطورة الأولى: ثورة
هل شهدت بلادنا فعلا ثورة؟ لماذا أطلق عليها الجميع صفة ثورة في حين لم يكن هناك ثوّار بل مجرّد محتجّين..قد يقول قائل وما الفرق؟ الفرق يا سيّدي أنّ الثوري يناضل من أجل هدف معيّن تستوي من أجله حياته ومماته وله منظومة واضحة من الأهداف التي يسعى لتحقيقها تناغما مع قناعاته أما المحتجون خلال أحداث ديسمبر 2010 وما تلاها، فلم يكن يجمع بينهم رابط....كان هناك من يحتج من أجل المعيشة وغيره ضد الظّلم والتغوّل البوليسي وآخر من أجل البطالة المستفحلة وآخر ضدّ المحسوبيّة وآخرون ضدّ الفقر...الشّعار الأول والأبرز كان «التّشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق» ثم تطوّر إلى «ولد العامل والفلاح أشرف منك يا سفاح» وتغيّر الشّعار مرتبط بالتّعامل الأمني الذي أفرط في إستعمال القوّة مولّدا نقمة متزايدة لدى المحتجّين..لا أحد نادى بإسقاط النّظام ولا أحد كانت له مطالب ثوريّة ولو أنّ نظام بن علي إختار منهج الرّفق لوئدت المشكلة في المهد وطوى النّسيان البوعزيزي. الملاحظ أيضا أنّه حتى بعد هروب رئيسه، بقي النّظام قائما بل إنّ الشعب إستعان بالذي ثار ضدّهم من أجل تحقيق الإنتقال الدّيمقراطي، فالباجي السبسي يعتبر الإبن الشّرعي لنظام بورقيبة ونظام بن علي بإعتبار الأخير إستمرارا لنفس المنهج البورقيبي مع إنفتاح إقتصاديّ أكبر وتصلّب سياسي أشد،ّّ ثم عادت إنتخابات أكتوبر 2014 إلى حزب نداء تونس ذي النفس الدّستوري رغم أنّ أحد أبرز الشّعارات المرفوعة كان «يسقط حزب الدّستور يسقط جلاّد الشعب»..ثورة من وضد من؟ لا أحد يستطيع الإجابة والتغيير الحاصل لا يرقى لأن يكون ثورة بأيّ تعريف كانت. هذه الثّورة المتنازع على تاريخها أهو 17 أم 14 حملت إلينا دستورا لم يشر إلى الثّورة إلا في مناسبة واحدة وكانت في الديباجة.
- الأسطورة الثانية: ثورة الحرّية
منطلق الاحتجاجات كان مطالب إجتماعية وخاصة الشّغل ولكن وقع تحويل الوجهة والمسار لتصبح هذه الأحداث ثورة الحرّية ومعلوم أن بعض النّخب وقادة الأحزاب هم أكثر من استعمل هذه الكلمة لأنّ ذلك كان مطلبهم، أمّا بقية الناس فأظنّها مازالت ترى أنّ مطلبها الأساسي هو العيش الكريم وهو مطلب مازال بعيد المنال. قدّمت الصحافة الشّعب التونسي في صورة البطل الذي يحسده حتى «تشيغفارا» على ثوريته وتوقه ونضاله من أجل الحرّية وأنا حقيقــــة لا أعرف ما هو المعنى الذي يقصدونه للحرّية، فإذا كانوا يقصدون حرّية السّباب وتطاول الصّحافة على الجميع بوقاحة والثّلب والتجريح، فخذوا حريتكم لا حاجـــة لنا بها..الحرّية ليست أيضا إطالة اللّحى أو ارتــداء «الميني جيب» أو غير ذلك.. إن إختزال الحرّيـــة في هذه المعاني أفقدها كلّ قيمة حتى كرهها النّاس و ملّوا منها.. وإذا قدّر للنّاس أن يختاروا بين الحرّية و «السندويتش» فسيختارون «السندويتش» كما قيل.
 - الأسطورة الثالثة: ثورة الكرامة
الكرامة هي رديف الحرّية، فإنسان مستعبد لن يكون كريما...قيودنا وعبوديتنا هي الفقر والبطالة ومن أجلها صرخت كل الحناجر ذات شتاء ساخن...بنيت ثورة 14 جانفي على أسطورة الكرامة، لكنها لم تحقق لنا منها أي شيء...شبابنا كالجثث الهامدة في المقاهي أو جثث عائمة في مقبرة الأبيض المتوسط وهم يسعون إلى التّسلل كالصراصير إلى فردوس أوروبا فيصطادهم الموت تارة والسجون مرات. بربّكم أي كرامة وأي عزّ نعيش فيه وشبابنا يهرب من وطنه؟ هرب منه في السابق ويهرب منه زمن الثورة والسياسيون مازالوا يتغنّون بكل وقاحة بثورة الكرامة...لن تعرف النّجاح و الكرامة أبدا أمّة مستقبلها يموت في أعماق البحرالأبيض المتوسط...كلمة الكرامة إقترنت بصندوق الكرامة وهو صندوق آخر من جملة الحلول الصندوقية التي لا يجيد غيرها أولو الأمر منا ..ثم هناك  هيئة الحقيقة والكرامة التي ستضيع بين غبار دفاترها وبيروقراطيتها الحقيقة....والكرامة.
 - الأسطورة الرابعة: ثورة الشباب
رغبة منها في نفض الغبار عن شباب روحه ميّتة وجسده حيّ، نسبت هذه الثورة إلى الشّباب مع ما تحمله هذه التّسمية من آمال. فالشّباب هو المستقبل والطموح والأحلام والقاطرة التي ستأخذ البلاد نحو غد أفضل..نعم مات في هذه الثّورة العديد من الشباب لكن أيضا مات الشّيوخ والكهول والنساء والأطفال وحتى لو كان عدد الشّباب أكبر فإنّ الأكثرية العددية لا تعني شيئا ومن المؤسف أنّنا أمّة دائما ما تعدّ الموت مصيرا لخيرة أبنائها...صحيح أنّنا نفخر بهم وقد تقلّدوا وسام الشّجاعة الأكبر الشّهادة وسجّلوا على جبين الوطن والتاريخ كلمتهم الخالدة الباقية، إلاّ أنّنا كنّا سنفخر بهم أكثر وأكثر لو كانوا الآن يعتلون منابر العلم وكانوا رواد التّقدم وحملة مشعل الحضارة والتغيير...إن الأزهار التي تنام اليوم في القبور كانت مدارج الجامعات وورشات المصانع ومخابر المعرفة أولى بها...ذبلت الورود التي كان من المفروض أن يفوح شذاها في حدائق الوطن...والبقية الباقية نفرت من السّياسة أو تركت السّاحة للعجائز يصوغون بعقول القرن الماضي مستقبل الأجيال القادمة...إن الشباب الذين إنتفضوا كانوا قلّة والذين واصلوا المقاومة كانوا أقلّ..أين هم الشّباب من ثورتهم و في ثورتهم؟ عزوف عن الأحزاب والإنتخاب والعمل في المجتمع المدني..إن أكبر حزب يجمع الشّباب هو حزب المقاهي وهي ظاهرة غريبة في بلادنا ولا بأس أن أفتح قوسا حول مركزيّة المقهى في حياة المواطن التّونسي...كل شيء ينطلق من المقهى ويعود إليه...التلاميذ يجلسون في المقاهي لإضاعة الوقت...الطّلاب يجلسون في المقاهي ليتبادلوا الآراء والحديث حول الموضة والرّياضة والبرومسبور والسّهرات وأحيانا الدّراسة...العاطلون حياتهم هي المقهى والسجائر والحيرة...الأصدقاء يلتقون في المقاهي ليتقاسموا الهمّ والأفراح...العشاق يلتقون في المقاهي ليخططوا لحياة زوجيّة سعيدة ولأحلام قد تصدقها أو تنسفها الأقدار...رجال الأعمال يلتقون في المقاهي لإتمام بعض الصفقات...بعض الأحزاب صارت تعقد ما يسمى بمقهى سياسي وكأني بها بعد أن عجزت أن تستقطب النّاس إلى مقراتها حملت نفسها إلى عرينهم... كل شيء في بلادنا يدور حول المقهى...إذا أردت أن تبحث عن شخص في تونس فأول مكان يخطر على بالك هو المقهى....إذا أردت أن تجسّ نبض الشّارع وتعرف آخر الأخبار فعليك بالمقهى وهناك يبثّ النظام عيونه وآذانه... لولا المقاهي لساد النّاس كلهم مع الإعتذار للمتنبي على هذا التحوير الذي أوجبه هذا الزمان الرّديء بناسه...أغلق قوس المقاهي لأعود إلى الشّباب الذي قرن بالثّورة فصرنا نحتفل كل 14 جانفي بعيدي الثورة والشباب...وحسنا فعلوا حينما قرنوا الثّورة بالشّباب فالأولى كلمة لا وجود لها..... والثانية كلمة بلا معنى.
- الأسطورة الخامسة: ثورة العدالة
لا تعليق
- الأسطورة السادسة: ثورة الياسمين
خطّان متوازيان لا يلتقيان كما قال الباجي قايد السبسي...الثورة والياسمين لا يلتقيان أبدا فالأولى تضجّ بعبارات العنف والموت والألم والدموع وتفوح منها رائحة الدّماء والثانية تحيلنا إلى ليالي الأنس في فيانا وعبير الزهور والأحلام الوردية...حينما خرج المتظاهرون للإحتجاج في شهر ديسمبر وجدوا البوليس التّونسي و ما أدراك ما البوليس التونسي...عقولهم في أكفهم وأكفّهم للشرّ ذات حنين حتى لا نقول أكثر...سمعت بعضهم يقول بفخر الحمد لله ثورة تونس مرّت بسلام وكأني بالشّهداء الذين تساقطوا أتوا من المرّيخ....إن وفاة تونسي واحد يجب أن تعتبر كارثة وطنية وتعتبر المنطقة التي مات فيها منطقة منكوبة....هل رمى المحتجون الورود على البوليس أم هل رأيتم وحدات التّدخل تطلق الأزهار على المحتجّين بدل الرّصاص والقنابل المسيلة للدموع؟ لا أدري من أين أتت تسمية الياسمين ولا أحد أظنّه يقبل هذا الوصف الملطّف للعنف الممارس من قبل الدّولة النوفمبريّة على المواطنين وهي تسمية هزليّة كاريكاتوريّة لا تنسجم وفظاعة ما ارتكبته قوات الأمن الياسميني خلال تلك المدّة و يوما ما ستسألهم «يقين القرمازي» الملاك الرضيعة بأي ذنب قتلت؟
أنا لم أؤمن بالثورة...أنا فقط آمنت بالحلم...حلم التغيير والتقدّم والعدالة...حلم تبيّن لي في الأخير أنّه سراب...اللّوم كلّه يقع عليّ..أنا كنت أحلم وهذا يعني أنّني كنت نائما وتركت اللّصوص يسرقون الواقع منّي...إنّ من واجبي الآن أن أستيقظ و أن أبحث عن الحلّ مع من سبقني...فهو موجود وسنهتدي له يوما...في الأثناء عليّ الآن أن لا أكفّ عن الصّراخ...فحولي كثير من النائمين وعليّ إيقاظهم...
-------
طالب مرحلة ثالثة في العلوم السياسية
yosri.bouaouina@gmail.com