في الصميم

بقلم
يسري بن ساسي
الإسلام .. والسلام والثورة على العنف البشري
  حقيقة لم أكن يوما ثورية لنقل بالمعنى السائد للّفظ ولا أذكر أنّي هلّلت يوما لثورة على هذا النّحو وإن يكن بيني وبين نفسي..كنت استمرئ في البداية إعجابا ما لثورات غيّرت مجرى وتاريخ أمم وشعوب بأسرها منها الفرنسية  والإيرانية والبلشفية ..إعجاب سرعان ما ينكمش ويتضاءل  وتحلّ محلّه الخيبة والانتكاسة حينما تجنح بي الأخيلة القاتمة تصور لي حجم الخسائر البشرية والدّماء المراقة  والجراح الثخينة التي خلفتها. وحتّى الثّورة الإيرانيّة التي قادها «الخميني» وكانت في بدايتها سلميّة انتهت بعد ذلك بسيل من الدّم كثير ونصب للمشانق أهول.. وبرغم ما كان يشغلني دوما من أمر تخلّف بلادنا في كل مجال وانحطاطنا بعد إشعاع وما قد يقيده ذلك في كل نفس شابّة من رغبة في الإصلاح والتغيير والثورة... كان يحدوني إيمان داخليّ عميق، أن التّغيير لابد أن ينبع من داخلنا..أن التّغيير سيكون بأن نغيّر ما بأنفسنا كما قال ذلك الله في كتابه العزيز.. كنت أشفق أن يقتل أو يسفك دم إنسان واحد ولو في سبيل مجموعة كاملة وشعب بأكمله. ولم يكن ليساندني في ذلك الكثيرون- من ذلك أذكر أن أصدقاء لي من طلبة الحقوق- كانوا يؤمنون أن طريق التّغيير لا يمكن أن يمضي بلا خسائر ولا يمكن أن يحدث بلا مواكب جنازات وأيتام وأرامل ولا يمكن أن يفيض سلاما ومنطقا وعقلا ..لابدّ من الفداء ولا بدّ من الدّماء ولابدّ أن يحترق من يحترق ليكون شمعة تضيء الطّريق على رأي «تشيقيفارا» .. وكنت تارة أستميت في دفاعي  عن فكرة التغيير بالسّلم والسّلام وإيقاظ الوعي الإنساني، وأحيانا كان حماسهم لثورة على النّهج الفرنسي يجعل من حديثي مجّرد فقاقيع من أفلاطونيات وطوباويات المدينة الفاضلة ومن  موقفي موقف المتخاذلين زُيّن لهم الجبن والاستكانة والاستسلام  رفعة إنسانية ونهجا بشريّا قويما وهو درب العاجزين المستضعفين .. ومع ذلك كنت ولازلت أمقت العنف وأمقت الحرب وأربو ببني آدم أن يتغيّر بقوة السّلاح..العنف قد لا يكون حسب البعض اختيارا  ولكن شرّا لا بدّ منه لتستقيم حياة الإنسان وكنت أرى في هذه الفلسفة كل التّضارب والهشاشة. ليس في حياتي شيء أبغضه وينغصني كما ينغصني العنف الذي وللأسف أنما قلبت الطّرف رأيت تجلياته المريرة من الرّكن في البيت الصغير إلى المدى في العالم الكبير.. كنت أتصور أنّ المسار الصحيح لن يكون أساسا بالانقلاب المسلّح على أنظمة الحكم ولكن التغيير الأجدى سيكون بوعي صادق ونقيّ بضرورة تطوير أفهامنا وعقولنا على نحو يستوعب المتغّيرات العالميّة حولنا  ليستفيد من العولمة من جهة ومن جهة أخرى ليواجه نفسه بالحقائق والأهداف والغايات في عملية إعادة بحث عميق للموروث الدّيني المجرّد من المقدّس يمحّص ويجادل ويقيم الدّليل بالحجّة والبرهان، وهذه الحاجة ليست نابعة من اعتقاد  يذهب إليه البعض ينسب تردّينا ويرجع تقهقرنا إلى ابتعادنا عن تطبيق النّصوص كما جاءت  بل بالعكس من منظور من الأكيد يشاركني فيه الكثير قائم على إلزاميّة تخليص مدركاتنا من قوالب الأفكار التقليدية الجاهزة والسّقيمة في معظمها والتي وسمت فترة هامّة من تاريخ اعتلالنا الحضاري..هذه القراءة النقدية المتمعّنة والجادّة لتاريخنا المبتعدة عن النّقل والسلخ وخاصة النائية عن عقلية التّرفع عن باقي الأمم وأحقيتنا بفرض الهيمنة والسيطرة بأسلوب ظاهره إعلاء كلمة الله وباطنه تعطّش للحكم وبسط النّفوذ ونحن ننكر ذلك على القوى التي استعمرتنا واستغلّت ثروات شعوبنا وأذلتنا واستبدت بكياننا ولو كان بأيدينا لعثونا في الأرض حروبا ومجازر كما عثت ولكن تحت طائلة الإسلام.
لقد لبس الإنسان ثوب الحضارة بعد عيش الكهوف وعرف منذ آلاف السّنين الحياة المدنية ولكنّه لم يزل يركض في الدّنيا ركض الوحوش الضارية المفترسة في الغاب تقتنص فريستها..لم يزل يرتكب الفظائع والمجازر والإبادات الجماعيّة تحت مسمّيات عدة وألوية متعدّدة..لم يزل يقتل ويتفنّن في التعذيب والويلات والثبور..لم يزل الإنسان متوحّشا فظّا غليظا قاسيا برغم تطويع كل الظروف وتكييفها لرغد له من العيش كريم دافئ ومرفه.. الآدمي يبدو كأفعى جلدها ناعم بل يكاد يكون مخمليّ الملمس وباطنها يقذف السموم والمهالك وهذا هو السّؤال المقض،  كيف بإمكان الإنسان أن يكون حمما من العنف ينفثها في كل مكان ومناسبة وليس بإمكانه أن يكون طاقة نيّرة من الحبّ والحكمة والرّحمة؟ أو ما الذي يجعل العدائيّة عليه تغلب بدل الوداعة والمسالمة وإذّاك ما الفرق بينه وبين السأم والبهائم إن لم يستطع كبح جماح غرائزه الحيوانيّة وقد وهب من العقل صيتا ومن الرّشد باعا؟  وهل العنف بالضّرورة غريزة بهيميّة في الإنسان وطبيعة فطر عليها أم طبع ولدته الحياة الاجتماعية وما تنتجه من اصطدامات وتضييقات كثيرة على كل أنواع الملكيات والحريات ..وجاهرتنا الملائكة ببعض حقيقتنا في كتاب الله «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك» وقد قالت بعضا أو جزءا من حقيقتنا وليس أدلّ على ذلك مما تبعه من قوله تعالى: «إني أعلم ما لا تعلمون» وذاك الدّليل أن في الإنسان بذرتان واحدة للخير والسّلام وأخرى للظّلم والشّر تتفاوتان في التنامي والتّطاول إحداهما على حساب الأخرى وفق كثير من الظروف والمعطيات، بعضها داخلي مرتبط بالإنسان ذاته ككيان مستقل وبعضها مقرون بالظروف والتداعيات الخارجية على تركيبة الإنسان وتنشئته وسنتطرق إلى ذلك مليّا.. ومنذ بدأ تاريخ الإنسان وهذا الأخير يراوح مكانا لم يبرحه كونه كائنا عنيفا وإجراميا بالضرورة ولم تخلو المجتمعات البشرية منذ نشأتها من كافة أشكال العنف والصراع  بدءا بأوّل جريمة قتل  حدثت في التاريخ  ووردت  في القرآن من قضاء   قابيل  على أخيه هابيل نهاية إلى كلّ الجرائم التي تجاوزت كل أشكال الانحطاط والقذارة والبشاعة في عصرنا الحالي ..
إن مقدار العنف الذي يغشي تعاطي الدول فيما بينها وعلى نطاق أصغر تعامل الأفراد فيما بينهم وطريقتهم في التعايش والتواصل وذلك في غالبية المجتمعات شرقيها وغربيها أرهب من الإرهاب ذاته أو هو في الحقيقة المقدمة والنّاصية التي يفل من خلالها هذا الأخير كل أوثقة الأمن والاستقرار بين الشّعوب وداخل الشّعب ذاته فما يدعى إرهابا له قراءتان  قراءة له كردّ فعل عنيف لجماعات مصغرة على عنف موسع تمارسه سياسات الدول والفرق شرعنة هذا الأخير وقانونيته وأحقيته بحكم تموقعها في موقع القوة والرّيادة أو أنه اختلاق وافتعال من قبلها لتبرير كل الممارسات العنجهيّة للقمع والسّيطرة والإملاء تحت طائلة القانون وغطاء العدالة الدّولية، والحقيقة أنّها حلقة مغلقة محكمة لأنّ كل منهما يفضي إلى الآخر ليتوسّع مدارها ويتكثّف قطرها كلّما اتسعت رقعة العنف واحتدم الصّراع وهذا المسمى إرهاب هو أصلا مصطنع لفظيّ لا أساس له سوى العقدة التي سعت إلى إيجادها كل القوى الدّاحضة للإسلام للرّبط بينه وبين العنف. 
   لقد حيّرني  هذا السّؤال كثيرا واستفزتني في الحقيقة مساقات وشواهد كثيرة في القرآن والسّنة ضربها لي بعض الأصدقاء عن الدموّية والحكم بحدّ السّيف وقطع الرؤوس وبتر الأعضاء التي حفل بها تاريخنا وازدخر ما يجعلها مسوغا خطيرا للفظائع والانتهاكات التي ترتكبها «داعش» وشاكلاتها باسم الإسلام، فهل الإسلام فعلا دين العنف والإرهاب ويرعبنا أن نصارح أنفسنا بالحقيقة ونواجه مرابط الأفكار بحقائق التّاريخ المسّجلة والمحسوبة على الإسلام أم أنّ الإسلام دين يُنزّه عن العدوانيّة، فهو دين السّلام؟ أو ترى  العنف  في الحقيقة ضرورة لا غنى عنها لبسط النفوذ والمصالح وإذاك هل كان الإسلام يريد أن تهيمن حضارته وتطغى أم كان يريد الاطراد والتّقدم لكلّ البشريّة؟ وهل أن المصلحة تبرّر أحيانا العنف المنظم وكيف يمكن أن تتواصل الحضارات فيما بينها إذا كان معيار تحقيق المصلحة الأحاديّة هو المحرك والدافع لارتكاب العنف والترهيب كلما أتيحت الوسائل؟ أي أن الحضارات تقوم بدا على أنقاض بعضها بدل تمازج بعضها ببعض؟ الأسئلة يتمخض بعضها عن بعض وتتوالى مؤرقة متدافعة ولكن لعلهّا أمر إيجابي وصحّي فأبلى ما في الأمر تعود الإنسان على العنف كنوع من أنواع المغص الذي يكابده يوميا ويستأنس إليه كما يستأنس مريض إلى وجع حسبه غير مفارقه. وهيهات أن يكون العنف بعضا من مغص أو طفيفا من ألم بل لقد أضحى مسرطنا لكافّة مستويات الحياة البشريّة يقودها على نحو هذا الوتير إلى أسفل درك ...وبدل أن يكون التّعامل المتحضّر قد بلغ مداه مع التّنامي المذهل لكافة أشكال الحضارة الماديّة، يريعنا تقهقر سلوكيات الإنسان العكسي ومنهجه المتحجّر في التعاطي مع الآخر مهما تباينت أو تماهت  كل فروقات بشريّة بينهما  أي أن العنف لا يرد مطلقا إلى اصطدام مبعثه الاختلاف وتعدّد المشارب والأهواء ولا أيضا كلّيا إلى تضارب المصالح واشتعال الأطماع وتوقد الأنانيّة ولا بدا إلى طريقة وأسلوب التنشئة الأسريّة والمجتمعية العليل في جل من نواحيه بل هو في الحقيقة هجين كل ذلك.
 لقد رأيت أن أتخيّر لتشعب مسألة العنف وترامي أفنانها وكونها في الحقيقة مسألة وجوديّة فلسفية تباحثها الكثيرون من فلاسفة وعلماء نفس وعلماء اجتماع ومؤرّخين ومفكرين كل بحسب مدخله وزاوية نظره وتكوينه، أن أنتحي نهج الأطباء مع المرض وأتّبع سبيلهم في الفهم والكشف والعلاج، والعنف لا يبتعد في الحقيقة عن كونه مرضا تعدّدت علل الوقوع فيه أو ما يسمّى في الفقه الطّبي عوامل الخطر التي تقود مجتمعة معظمها أو كلّها إلى إحلال المرض وتفشّيه في الجسد. وقبل ذلك نبدأ فنعرف هذه الآفة البشرية المدمرة.
       (1) في ماهية العنف
جاء في الشرح اللّغوي لابن منظور أنّ العنف هو خرق الأمر وتعدّيه وهو ضدّ الرّفق ويبدو هذا التّعريف على اقتضابه دقيقا وشاملا للعنف باختلاف صوره وأشكاله ودرجاته وأبعاده وتعبيراته، فمنه الفيزيائي المحسوس ومنه الرّمزي غير المحسوس ومنه المباشر وغير المباشر ومنه المتعدّي بالضّرورة على الآخر ومنه ما يمارسه الإنسان على ذاته ولنقل أن العنف مرادف للتّطرف والتّشدد والمبالغة في كل شأن وكل مسألة والأضداد كما ذكرها المعجم هي اللين والرفق والاعتدال.
أما في المقابل اللاّتيني لكلمة عنف، فنجد أنّ التفسير يختلف فهو يعني القوة والاقتدار والمرادفات الأخيرة غير منطبقة على كنه العنف بل إنّها في الحقيقة مدلولات إيجابيّة ومطلوبة كيف لها أن ترتبط بجذر العنف السّلبي والمضاد لكلّ الصّفات المحمودة، ولا يأخذ منّي هذا انحيازا للغتنا العربية ودقتها في بسط المفاهيم بقدر ماهو مقارنة صغيرة لعكس أهميّة التفاوت الذي يمكن أن نجده بين الألفاظ ومقابلها في لغات متعدّدة ما يبعث على التّساؤل عن مبعثه ومرده ومدى ارتباطه بالسّياقات التّاريخية والأنساق الحضاريّة لأمم متقادمة في التّاريخ.
و سواء تعلق الأمر باللغة العربية أو غيرها تظلّ الشّروح اللّغوية قصيّة عن الإحاطة بالمفهوم الكلّي والصّميم للعنف ولكنّها تطرق فحسب مداخل لاستقراءات أكثرعمقا قد تنجدنا بها الفلسفة، فهل نعثر فيها فعلا على ضالتنا؟
لدهشتنا لم نستدل في الفلسفة على تعدّد أنساقها وتنوع مسالكها على تعريف قيمي خالص لحقيقة العنف وماهيته بل ظل البحث مرهونا في تداخلات العنف بالسّياسي والاجتماعي وإشكاليات العلاقات القائمة بينها. وفي الحقيقة وجدنا في الولوج إلى تعريف العنف واستئصال معانيه الفلسفية واستقصاء بعض من دلالاته بعض العسر ولا ندري أنعتبر ذلك ضمورا أو بالعكس خصوبة  فكرية تحسب للفلسفة، فالعنف نقيض المبدأ والأخلاق والقيمة والفلسفة مهما بلغت من أقصى تبريرها للعنف إلى أقصى مناهضته قد تكون اعتبرت العنف أداة ووسيلة أكثر منه قيمة مجرّدة أو كينونة فكريّة باعتبار تعارض هذا الأخير مع الحوار والمنطق هذا من جهة ومن جهة أخرى باعتباره قد ينزل في سياقات مختلفة مرتبطة بالحوادث السّياسية والاجتماعيّة أساسا. وبالرغم من عدم إشاعة العنف كمفهوم منفصل ومتجرّد لم يمنع ذلك  الفلسفة الكلاسيكية أو الحديثة من تباحث كثيب لهذه المسألة .
لقد شحذ العنف اهتمام قدماء فلاسفة اليونان وأعرقهم رغم هيمنة التّناول السّياسي لهاته الإشكاليّة على تمثّل شامل لها يأخذ في الحسبان كل الاعتبارات التّاريخية والنفسية والاجتماعية ليردفها إلى الاعتبارات السّياسية، من ذلك أن الفيلسوف الإغريقي «هرقطليس» يذهب في القول بأن الصراع أب وملك لكل شيء وأن المواجهات هي المحرك  الأساسي لعجلة التاريخ وهذا يبيّن عن تأصيل بعض الفلاسفة - رغم ما تستوجبه الفلسفة في حدّ ذاتها من انحياز للحوار- للعنف كطبيعة وأصل لا فكاك للبشريّة منهما كلّما تعلّق الأمر بالعيش والتفاعل مع المجموعة وما يفرضه هذا الأخير من تناقضات وصدامات تفضي حتما إلى المواجهة والصراع ليكون العنف مجاديف القوى المستحكمة لبسط سلطتها وفرض نفوذها أو بالأحرى ليكون العنف جملة من الوسائل والإفرازات السّياسية في ذات الوقت، وهكذا يغتذّي العنف بالسّياسة وتغتذي السّياسة بالعنف وإنّنا نستطيع إذا سلّمنا بهاته المقاربة السلبيّة للسّياسة أن نشبه العنف بقرادة تغتذى على جسد السّياسة المعتل وتنشر العدوى في جميع الأرجاء. 
 ولم يستفئ أفلاطون وسقراط ذات السبيل في ترصّد مسألة العنف خاصة فيما يتعلّق بروابطها بالسّلطة والدّولة و السّياسة، بل اشتملت مباحثهم في ذلك وإضاءتهم الفكريّة على مناهضة وانتقاد شديدين للعنف من خلال فصده عن الفطرة السليمة للإنسان واعتباره انسلاخا عن المنطق الصحيح والعقل المتزن. ولعلّ هاته المدرسة الفلسفيّة القديمة تمايزت عن سالفاتها ولاحقاتها بتخيّر الحاكم المنشود كفيلسوف  أدواته مجالات العقل والحكمة والتفكير، يسود بقوة الحجّة لا بحجّة القوّة ما يضمن قيام دولة العدل والمساواة والتضامن أو المدينة الفاضلة التي حلم بها أفلاطون وهذا الحديث وإن بدا مثاليّا فإنّه على الأقل يقدم الجانب العقلاني الرّشيد للإنسان على جانبه الحيواني إن لم نقل يلغيه ضدّ ما ذهب إليه عديد الفلاسفة حديثهم ومعاصريهم فيما بعد والذين  اعتبروا العنف مقصورا على الإنسان باعتباره كائنا اجتماعيّا أمّا بقية الكائنات فهي غير عنيفة أساسا ولكن العنّف يغدو مسلّطا عليها من الطبيعة وهذا يعدو مفارقة عجيبة جدا وتناقضا غريبا في تركيبة الإنسان على أساس كون هذا الأخير الكائن الذي يمتلك لوحده العقل ولوحده يمارس العنف فعلا باختياره ويعتبره ضرورة للاستمرارية بما يعكس تفاضلا صوريّا وشكليّا للإنسان عن الحيوان، فكيف يمكن الحديث عن تفاضل حقيقي أمام شدق كبير بين مرتكبات الإنسان وأفعاله الشنيعة تهدم وتنشر الحروب البغيضة وما يمكن ان تستبطنه أيقونة العقل من أفكار خلاقة تبني و تعمم السكينة. 
ولم يحد كثيرا فلاسفة العرب كالفارابي وابن رشد وابن سينا عن المدرسة الأفلاطونية رغم اتّسام تدقيقاتهم في المسالة بأكثر قدرا من الواقعية والمرونة في تحليل تركيبة الإنسان بما هي توليفة لا بد من استيعابها جيدا بين متناقضين هما العقل والغريزة أو الوعي واللاوعي.
وبرغم قدر كبير من استماتة الفلسفة القديمة في دحض العنف على اختلاف أشكاله ومجالاته فإنّ الفلسفة الحديثة برغم عجزها هي الأخرى عن تقديم إجابة ضافية عن ماهية العنف عمدت لتبرير أو تنظير للعنف ذلك الذي تمارسه السلطة و تستدعيه السّياسة.
 و قد ذهب «ماركس» في أطروحته إلى التسليم بتاريخية العنف وبالتالي ظرفيته فهو ليس قدرا محتوما ولكن إمكانيّة تجاوزه تتاح إذا تمكّنت الطبقة العاملة من السّيطرة على وسائل الإنتاج والمفارقة كانت استقدام فلاسفة الثّورة للعنف وتشبثهم به كطوق للنّجاة من الاستغلال والاستعباد ثم التّنصل منه واعتباره قرين الحكم الجائر والنظام القاهر لشعبه  ولم يكن «ميشال فوكو» بمنأى عن هذا التحليل التاريخي لظاهرة العنف وانبثاقها كنتاج من نتاجات السّياسات الفاشلة أو السلطة الفاسدة و المستبدة. 
أما «هوبز» فلم يتفوّق سوى في التنظير للعنف وتأجيج الحرب بفلسفته المطبوعة بعدائية الإنسان كحقيقة لا مشروطة ولا متغيرة كما تشي أقواله بذلك «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان» و«حرب الكلّ ضدّ الكلّ» ولا ندري هل من المعقوليّة في شيء ان تنظّر الفلسفة بما هي استنطاق  للتفكير واستفزاز للعقل للعنف أم ان العنف يمكن ان يتقمّص شكلا فلسفيا أيضا وهذا ما يقودنا إلى التّساؤل أيضا عمّا إذا كان التفكير والعقل خاليان من العنف أم هناك إرهابا فكريّ قد تنطوي عليه سجية الإنسان و قد يكون أخطر باعتباره غير مضبوط وغير ملموس. 
وكان الأمل كبيرا في فلاسفة الأنوار كسارتر وروسو في ضرورة التخلي عن العنف كمبدأ وضرورة تاريخيّة ولكن قد تكون الصيرورة الطبيعية الأحداث قادت فلاسفة الحرية والديمقراطية إلى التسليم بمشروعيّة العنف الذي تمارسه الدّولة في إطار القانون الوضعي واستحالة التّخلي عنه كوسيلة لفرض الانضباط والنظام داخل المجموعة.
 وهكذا تدفعنا التحقيقات الفلسفية على تباينها إلى الاستنتاج بأن أقصى ما استطاعه الإنسان بفضل عقله تنظيم مسألة العنف وفي ذلك تضارب كبير،  فيمكن أن يقوم النظام على العنف وهما متضادّان كبيران؟ لأنّ النّظام مرهون بالتّوازن أما العنف فيعني بشكل أو بأخر اختلالا في التّوازن لصالح فئة ما ممّا يبعث الفئة الأخرى للسّعي دوما لترجيح كفّة الميزان لصالحها وسيستدعي ذلك الجنوح للعنف أيضا ولو بطريقة لاتكافئيّة إلى أن تنقلب موازين القوى وهكذا يكون العنف حالة استطراديّة لامتناهية.   
ولا ندري هل هذه إذن واقعيّة فلسفيّة فيها في الحقيقة مسايرة كبيرة للواقع الإنساني وصيرورة التّاريخ التي لم يستطع العقل التفصّي منها كلّيا و لم يزد عن أن قدّم استقصاء لتاريخ العنف البشري؟؟ أم هو إخفاق فلسفي في الغوص داخل ثنايا العنف و تفصيل أصوله الحقيقية ودوافعه الصرفة  قد نجد ما ينافيه في حقول معرفية أخرى كالتّاريخ أوعلم الاجتماع أم علم النفس؟؟   
-------
-  كاتبة تونسية
docyosra@hotmail.fr