قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
قمّة المأساة
 (1)
أصبح الفضاء الافتراضي مليئا بالصّور البشعة عن إعدامات بالجملة لأناس يقال بشأنهم ما لم يجر إثباته بواسطة أي جهة محايدة، ولا تعدم الجهة القاتلة حجّة في تبرير ما تفعله بأناس يفترض أنّهم لأبرياء حتّى تثبت إدانتهم، فضلا عن كون الجهة التي تعدمهم ليست أهلا لا للمحاكمة ولا لتنفيذ الأحكام،  أمّا صورة التّنفيذ فلا تدلّ إلاّ علي انحطاط قيمي لا تجد له تبريرا سوى شهوة القتل التي تنزع عن الإنسان انسانيته وتحوّله إلى ما دون مرتبة  الحيوان .
لا تستطيع النّفس الرّقيقة أن تتحمّل بشاعة تلك المشاهد ولذلك فلا عجب أن ترى الغالبيّة من النّاس تنصرف عن مشاهدة تلك الصور أو ترويجها. ومن النّاس من أصبح ميّالا  إلى اعتبار تلك المشاهد من قبيل المبالغة أو الخيال أو حتّى الإدّعاء. ولكن الاكتفاء بعدم المشاهدة أو استنكار ذلك السّلوك لم يعد كافيا ولذلك فقد صار من الضّروري إضفاء مزيد من الاهتمام العلمي على  السّلوك الصّادم لهؤلاء الأفراد ولتلك الجماعات بغاية الوصول إلى آليات التفكير عندهم بدل القول دائما بأنّ الموروث الدّيني هو ما يبرّر مثل هذا السّلوك.
إنّ الأمر يتعدّى المبرّر الدّيني ولا يكترث به في بعض الأحيان على اعتبار أنّ جرائم الحرب كانت دائما بشعة وأنّ القتلة كانوا دائما يقتلون بدم بارد فهتلر أو بول بوت على سبيل المثال لم يكونا يقاتلان في سبيل الله  لا هم ولا ستالين ولا ماو ولا بوكاسا بل إنّ كل القتلة إنّما كانوا يقتلون من يختلفون معهم ويسارعون إلى إخفاء جرائمهم بسرعة أو نفي القيام بها  كما فعل القذافي مثلا في مجزرة «بوسليم».
إنّنا بإزاء مفارقة عجيبة، فكلّما ازدادت الإنسانيّة  تطورا  وتمدّنا  كلما ازدادت جرائم الإنسان في حقّ أخيه الانسان والمشكلة لا تتعدّى في الحالات كلّها اختلاف الدّوافع، أمّا حجم الضّحايا فيزداد كل يوم.
(2)
من أبشع ما بثّ على الفضاء نفسه في الآونة الأخيرة مشهد لإعدام رجلين بتهمة التّجسس على دولة الخلافة في العراق والشام كما تسمي نفسها أو داعش كما يسمّيها الإعلام، والبشاعة ليست في فعل القتل العلني فقط ولا في كونه قتل بدون محاكمة تتوفر فيها كل شروط المحاكمة العادلة، ولا هي في الإدّعاء بكون هذا الحكم إنّما كان وفق مقتضيات الشّريعة وإنما البشاعة تعدّت هذه المرّة كلّ الحدود إذ تمّ التنفيذ بواسطة طفل ربّما لم يبلغ الحلم بعد.
لم أطّلع على الشّريط لأّنني لا أستطيع مشاهدة هكذا بشاعة ولكنّ الذين شاهدوه أكّدوا أنّ الفتي قتل الرّجلين فعلا وبدم بارد وهذا عمل فضلا عن كونه مدان بالطّبع، فهو عمل إجرامي بحقّ الطّفل نفسه وكل الأطفال في العالم  وأيّ بشاعة وإجرام أشد من قتل البراءة بواسطة الأطفال أنفسهم وأي رسالة كان المراد توجيهها من وراء جريمة كهذه؟
كان من المفترض بداهة أن يكون هذا الطّفل في الصّف المدرسي على طاولة الدّرس قبالة معلّم يأخذ بيده إلى طريق العلم والقيم لا أن يكون قاتلا حاملا لمسدّس ينفّذ به حكما يقصر عن فهمه أو إدراك مدى تأثيره عليه وعلى الأطفال في سنّه أو دونها. إنّ فعل القتل هنا سوف يتعدّى المقتولين ليقتل الطّفل نفسه وينزع عنه إنسانيته ويحوله إلي مجرم معقّد نفسيّا لا يتوانى عن قتل أيّ أحد مهما كان السبب، ولا شكّ أنّ دولة الخلافة لم تقم من قبل من أجل قتل الأطفال ولا هي قائمة الآن كما يدّعون من أجل تحويلهم إلى قتلة ومجرمين وأي قيمة للحياة في دولة كهذه إذا لم يسلم فيها حتى أطفالها؟.
(3)
لقد بذلت الأمم المتّحدة مجهودا جبّارا من أجل رعاية الطفولة في العالم كلّه فبادرت منذ أوائل القرن الماضي إلى إصدار تشريعات خاصّة بالطّفولة وقّعت عليها معظم الدّول من ذلك مثلا إعلان جنيف لحقوق الطّفل سنة 1924 وتمادت في إصدار الكثير من التّشريعات على مدى ما يقرب من القرن وصولا إلى اتّفاقية حقوق الطّفل المعتمدة بموجب قرار الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة بتاريخ عشرين نوفمبر 1989، كما بادرت إلى إنشاء منظمة الأمم المتحدة  لرعاية الطفولة، وهذه المجهودات كلّها غايتها الإحاطة بالأطفال ورعايتهم وحماية حقوقهم المادّية والمعنويّة في العالم كلّه بدون تمييز بسبب الدّين أو اللّون أو العرق. وقد ورد في الاتّفاقية المذكورة آنفا في المادّة التّاسعة عشر على سبيل المثال أن – تتّخذ الدّول الأطراف جميع التّدابير التشريعيّة والاداريّة والاجتماعيّة والتعليميّة الملائمة لحماية الطّفل من كافة أشكال العنف أو الضّرر أو الإساءة البدنيّة أو العقلية أو الإهمال – كما ورد في المادّة الثانية والثلاثون – تعترف الدّول الأطراف بحق الطّفل في حمايته من الاستغلال الاقتصادي ومن أداء أيّ عمل يرجح أن يكون خطيرا أو أن يمثّل إعاقة لتعليم الطّفل أو أن يكون ضارّا بصحّة الطفل أو بنموه البدني أو العقلي أو الروحي أو المعنوي أو الاجتماعي.
(4)
ليس في وارد «داعش» ولا في وارد غيرها أن تطلع على هذه الاتفاقيات، أو أن تسعى إلى تطبيقها، ولا يحتاج المرء أيّ جهد ليبين تفاهة الحجة ولا تهافت أيّ تبرير وراء ما يجري بحقّ الطفولة من إجرام في العالمين العربي والإسلامي وهو إجرام لا تردعه المعاهدات ولا تحول دونه أيّ تشريعات، فمهما كان المبرّر فإنّنا لا نستطيع أن نتقبل موت الأطفال في سوريا جوعا أو بردا أو بواسطة البراميل المتفجرة، كما أنّنا لا نستطيع تبرير حرمان آلاف الأطفال من الحقّ في التنشئة السليمة في أكثر من موضع في العالم الاسلامي وخاصة في مواضع التوتر والحروب. نحن أمّة تزداد تخلّفا كلما ازدادت  عددا و لذلك نزداد بعدا عن القيم الانسانيّة كلها، ولا يستطيع الواحــد منّا أن يفهم حقيقــة ما نعيشه من مأساة ما لــم يفتح عينيــه جيّدا علي مأساة طفولتنا التي بلغت مداها بما ورد في الشّريــط آنف الذّكر حيث يتحوّل الطّفـــل إلى قاتـــل لا يعرف من قتـــل ولا لماذا قتله وهذه قمة المأساة..
------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com