مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
فُرص أن تكون تونس بلدا صاعدا وشُروط تحقق التنمية فيها؟
 كثيرا ما سمعنا بأنّ بلدنا بلدٌ صاعد وأنّ كثيرا يرون في الصّعود تحقّق حتميّ للتّنمية، لذلك كان لابدّ من وضع الأمور في نصابها وأحسب أن ذلك لن يكون بدون معرفة معنى «دول صاعدة» وعلاقة التّنمية بالصّعود إن كانت حتميّة أم غير ذلك؟
ولعل الاستئناس بتجارب «الدّول الصّاعدة» وتحليل مآلات صعودهم من شأنه أن يجعل معرفتنا أكثر واقعيّة قبل أن ننظر في فُرص أن تكون تونس بلدا صاعدا وشروط تحقّق التّنمية فيها تبعا للعبر التي يمكن أن نأخذها من تلك التجارب؟.
وبادئ ذي بدأ نحاول الإجابــة على سؤاليــن إثنيـــن: ما معنى «دول صاعدة»؟ وهل كل دولة صاعدة قد حقّقت حتما تنمية؟
 «الدّول الصّاعدة» هي دول عرفت قفزة في المشهد العالمي تجسّدت بأسواقها الصاعدة واقتصادياتها كذلك. وإذا أردنا أن نبحث في أصل التّسمية عُدنا إلى الوراء أكثر من ثلاثين سنة وبالتّحديد إلى سنة 1980 حين أُطلق ولأول مرّة اقتصاديّ هولنــــديّ من البنــــك الدولــــي أنطوان فان أغتمايل (Antoine van Agtmael) صفــــة «الصاعـــدة» على الدّول التي تعرض فُرصا هائلة للاستثمار والمستثمرين في بلدانها.
وقد كان لكل زمن دولة أو دول صاعدة، ففي أواخر القرن التّاسع عشر صعدت ألمانيا لتصل بعد ذلك الصّعود إلى مرحلة التّنمية وكذلك الحــــال بالنّسبة لليابان في ستّينات القرن الماضي ثم عرفت العشريـّـــة التي تلتها صعود التّنيـــن(DRAGON) الآسيــــوي المتكوّن مـــن «كوريا الجنوبية» و«تايــــوان» و«هون كونغ» و«سنغافورا» والتي اعتبرت منذ تسعينات نفس القــــرن ممن توجوا صعودهم بإحداث تنمية.
وفي المقابل لم يُتوّج بإحداث تنمية كل من صعود من عُرفوا بنمـــور(TIGRES) آسيـــــا سنة 1981 كـ «ماليزيـــــا» و«اندونيسيا» و«الفيليبين» و«تايوان» و«الفياتنام» وصعود مجموعة من يُطلق عليهم إسم البريكــــس (BRICS) سنة 2001 والمتكوّنة من «البرازيل» و«روسيا» و«الهند» و«الصين» و«جنوب إفريقيا».
وما يمكن استنتاجه ممّا سبق أنّه كما تُوّج صعود دول بتحقيق تنمية في بلدانها لم تحدث تنمية في دول أخرى صاعدة مما يؤكّد حقيقة مفادها أنّ الصعود لا يعني بالضرورة تحقيق التّنمية وأنّ لا حتميّة لحدوث تنمية في المطلق بالنسبة لبلد يصنّف على أنّه صاعد، ما يجعلنا نطرح تساؤلا جوهريّا ونحاول الإجابة عنه : «ما العائق الحقيقي وراء إخفاق الصعود في تحقيق التنمية ؟».
يُعتبر تزايـــد التفاوت المشكلـــة الخاصّـــة بالدّول الصّاعدة التي حالت دون حدوث التّنمية ببلدانهـــا حسب دراسة نشرتها «OCDE» منظمة التّعاون والتنميــة الاقتصاديـــة (2) في ديسمبر 2011 ، فقد عرفت هذه الدول حقيقتين: 
- هوّة أكبر على مستوى المداخيل مقارنة بالمداخيل في تلك الدول التي حققت تنمية أو المعروفة بالدّول «المتقدمة».
- نُظما جبائية لم تكن ناجعة في إعادة توزيع الثروة المركزة أصلا عند قلّة قليلة من أفراد المجتمع.
أمّا الخدمات العامّة كالصّحة والتّعليم والنّقل وغيرها والمستفيد منها أساسا الفئات الأكثر حاجة وخصاصة،  فهي عموما سيئة إذا لم تكن منعدمة وذلك بسبب عدم تخصيص ما يلزم من وسائل ومعدّات ومستلزمات.
كما أن تغطية نظم الحماية الاجتماعيّة في الدّول الصّاعدة أضعف من مستوى التغطية في دول منظمة التّعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE).
ورغم أن نصيب الفــرد مـــن الناتـــج الداخلـــي الخـــــام في ازدياد مطرد ومتوقــّـع حتى 2050 في هذه الدول الصّاعدة، إلاّ أنّه سيظلّ أقل من نصيب الفرد في دول منظمة التّعاون والتنمية الاقتصاديّة حسب نفس الدّراسة المُعتمدة سابقا.
أضف إلى ما سبق عوامل أخرى تُفسّر عدم تخطّي الدّول الصّاعدة المنضوية تحت مُسمى «BRICS» إلى مرحلة التّنمية نذكر بعضا منها تباعا:
• نقائص على مستوى البنى التحتيّة في الهند والبرازيل.
• مشاكل الحوكمة في روسيا.
• تفاوت اجتماعي كبير وبين الجهات في الهند وفي جنوب إفريقيا.
• قلّة الشّفافية في الميدان الاقتصادي والمالي خاصة في الصّين.
• جمود الإنتاجيّة في كل من روسيا والبرازيل.
• أزمة الدّيون التي تعاني منها الدول الغربيّة التي تُعتبر أسواقها الوجهة الرئيسية لصادرات الصّين، أزمة من شأنها أن تُهدّد فرص الصّين في التّصدير.
• تفشّي الفساد في دول «البريكس» فحسب منظمة الشّفافية العالميّة فإنّ ترتيب البرازيل هو75 والصين 79 والهند 84 وروسيا 146.
• الخصخصـــة التي لم تكن تعني تحويــــل الملكيّــــة من القطاع العام إلى القطاع الخاص بقدر ما كانت تعني تحويل الثّروة والرّيع والفساد إلى مستوى السّوق ممّا عمّق التّفاوت.
وما يمكن التّأكيد عليه أنّ نسبة النّمو المرتفعة والتي تحقّقت في الصّين على سبيل المثال تزامنت مع ارتفاع سريع في مستوى التّفاوت بين العائلات كما يعكسه الرّسم البياني التالي : 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
ويُقاس مستـــوى التفاوت بالاعتمــــاد على مؤشّر جينـــي للاستهـلاك وهو مؤشّـــر معتمد على المستوى الدّولي لقيس التّفاوت بين مستويات العيـــش بالنّسبـــة لأفـــراد و فئـــات المجتمـــع الواحــــد ويتــــراوح ما بين صفــــر(0) في حالــــة المســــاواة التامـّــة وواحـــد(1) في حالة اللامساواة المطلقـــة.
فرص الاستثمار في تونس
 تؤكّد الرتبة التي احتلّتها تونس (51 من 189 بلد والأولى مغاربيّا) حسب تقرير «Toing Busness» سهولة القيام بالاعمال بتونس.
كما مثّل المنهج التوافقي الذي اتّبع ومكّن البلاد من دستور وهيئات حقوقيّة وتنمويّة ومن إجراء انتخابات ديمقراطيّة، أفرزت مؤسّسات تشريعيّة وتنفيذيّة دائمة مؤشّرا إيجابيّا على توجّه البلاد بخطى ثابتة نحو الاستقرار ممّا يقوّي من فرص الاستثمار في تونس. 
وشكّل الاطار التّشريعي والتّرتيبي الذي وضع، ضمانة لحريّة الاستثمار في جلّ القطاعات. كما وفّرت كلّ من بساطة اجراءات إنشاء المؤسّسات وسهولة الاستيراد والتّصدير فضلا عن حماية الملكيّة الفكريّة والمرونة في إجراءات الانتداب والتّحويل الجاري للدّينار التونسي مناخا مشجّعا للاستثمار في بلدنا.
أضف إلى ذلك التشجيعات الجبائيّة التي نذكر من بينها الإعفاء من الضّريبة على المرابيح لمدّة 10 سنوات للاستثمار في المشاريع الفلاحيّة والإعفاء من الضّريبة لمدّة 5 سنوات في المشاريع الموجّهة لمناطق التّنمية الجهويّة الحبلى بفرص الاستثمار.
ورغم كلّ ذلك بقـــي جهد لابدّ من بذله لإقامــــة استقـــــرار اجتماعيّ على غرار الجهــــد الذي بذل لتحقيق الاستقــــرار السياسي مع مواصلة اليقظة للحفاظ على الاستقرار الأمني، الذي بدون أحدهم نضيّع فرص الاستثمار ونفشل في جلب المستثمرين وبالتالي نفوّت على بلدنا فرصة الصّعود.  
حجم التفاوت في تونس
 بالاعتماد علي تقرير للمعهد العالي للإحصاء تحت عنوان «قيس الفقر والتفاوت والاستقطاب في تونس 2000-2010»(2) يمكن معرفة حالة التفاوت في مجتمعنا عبر الملاحظات التالية : 
* سجل  مؤشر « جيني» العاكس لمستوى التّفاوت على المستوى الوطني نسبا تراوحت من 34.4 % سنة 2000 إلى 32.7 % سنة 2010.
* ارتفاعا للتفاوت بين الجهات من 11.4 % سنة 2000 إلى 12.6 % سنة 2010 .
* تزايـــد الاستقطـــاب مــــن 49.9 % سنــــة 2000  إلى 62.5 % سنة 2010 ممّا يعمّق الشّعور بالغبن والإحساس بالاستلاب لدى المواطنين الأقلّ حظوة واهتماما طيلة العشريّة السّابقة.
 
ملاحظة :
يتم تحليل التّفاوت انطلاقا من الاستهلاك مع الأخذ بعين الاعتبار أن معدّل الأسعار في المدن الكبرى أعلى 10 % من نظيره في المناطق الأخرى.
أهم مصادر التفاوت ببلدنا
• ضعف إعادة التّوزيع للثروة المركّزة أصلا عند قلّة قليلة من أفراد المجتمع نتيجة عدم نجاعة النّظم الجبائيّة وضعف ثقافة « لايؤمن أحدكم حتّى يحب لأخيه ما يحبّ لنفسه».
• تفاوت جهوي عريض (مدن / أرياف -- شريط ساحلي / جهات غربية -- شمال/ جنوب...)
• تفاوت الأجور.
• معيقات الدخول المدرسي والانقطاع الدّراسي المبكّر.
• معيقات التّشغيل. 
• البطالة التي تُعتبر المنبع الأخطر للتفاوت.
متطلبات التخفيف من التفاوت
مقاربة متعددة الأبعاد تشمل أربع مجالات :
1- التشجيع على العمل بعيدا عن مسلك التجارة الموازية لتمكين الدولة من موارد هي في أمسّ الحاجة إليها وذلك لتغطية نفقات الّتنمية في اتّجاه التّخفيف من التّفاوت بين الجهات.
2- وضع الآليات التي تمكّن من توجيه المساعدات الاجتماعيّة لمستحقّيها وإعادة النّظر في سياسة الدّعم بما يحقّق أهداف صندوقه الاجتماعية.
3- تذليل الصّعوبات على مستوى التّعليم والصّحة والنّقل.
4- زيادة الموارد المخصّصة للمصاريف الاجتماعيّة وتفعيــــل موردي الزّكـــاة والوقف عبر عمليّــــة تأسيسيّة وإحكام تنظيمهمـــا وفاعليّة مساهماتهــــا الاجتماعيــّــة ذات فاعليّة قصوى.
ولا يفوتنا التّأكيد على أنّ الصّراع ضدّ التّفاوت لا يقتصر على دفع التشغيل وتقوية الحماية الاجتماعية وحسن بلورة السياسات الجبائيــــة، بل كذلك على رسم سياســــات أخرى لا تقلّ أهمية فضلا عن أنّها ضرورة لتحقيق الآليات السابقة الذكر من بينها:
• تطوير مناخ الأعمال (تجفيف منابــع الفســاد، الرفــع من مستوى الشفافيّة، الحوكمة الرشيدة...)
• تنمية البنى التحتية والرفع من الانتاجيّة
• إصلاح الإدارة العمومية.
وختاما لابدّ مـــن التأكيـــد على أنــــه إذا أردنـــا لبلدنــــا أن تكون ضمـــن الــــدّول الصّاعـــدة الضّامنـــة للعبــور إلى التّنميــة وجب أن تفعــّل الفــرص الهائلـــة التي تملكهـــا للاستثمـــار وتقــوّي قدراتهـــا علـــى جلب المستثمريـــن من جهة والوقوف عند مصادر التّفـــاوت وبذل الجهد لمحاصرة هذا العائق الذي حال دون تحقّق التّنمية في الدّول الصّاعدة.
هوامش
(1) OCDE : منظمة دولية مركزها باريس تضم الدول المتقدمة صناعيا التي لها أنظمة ديمقراطية وتتبع سياسة اقتصاد السوق.
(2) قيس الفقر والتفاوت والاستقطاب في تونس 2010-2000» : تقرير المعهد العالي للإحصاء صادر في أكتوبر 2012.
-------
-  رئيس مركز الدراسات التنموية
najmghorbel@gmail.com