في الشأن السياسي

بقلم
صالح عطيّة
المرحلة السياسية المقبلة:هل تفتقر النخبة إلى أفق سياسي جديد ؟
 خلافا لكلّ التوقعات والقراءات والتّحاليل (وما أكثرها)، فإنّ المشهد السّياسي في بلادنا، مرشّح لتحوّلات كبيرة، ومفتوح على تشكّلات مختلفة، قد لا تتّضح ملامحها النّهائية، إلاّ بعد بضع سنوات..
ليست الانتخابات محدّدة لضبط خارطة سياسيّة أو حزبيّة، ففي أوضاع «الدّيمقراطيات الانتقاليّة»، يظلّ المشهد السّياسي، رهن عدّة عوامل متحكّمة فيه، أهمّها :
* المناخ الدّاخلي للأحزاب، وقدرتها على التكيّف مع الأوضاع الجديدة، واستيعاب اللّحظة الرّاهنية..
* الوضع السّياسي العام، باستحقاقاته السّياسية والأمنيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة..
* دور «العامل الخارجي» في ضبط البوصلة الدّاخلية، في سياق لعبة المصالح ومنطق «الغنيمة» بخلفيتها الإقليميّة والدّولية..
ويبدو أن عديد الأحزاب، لم تستوعب هذه «الشّروط» الذّاتية والموضوعيّة، لذلك بقيت سجينة «السّقف» الانتخابي حينا، والارتهان الإيديولوجي حينا آخر، ولم تستطع الانخراط في الوضع الجديد، بخصوصيته وملابساته ومنطقه الداخلي والخطوط المختلفة المتحكمة فيه.
عقل «طائفي»
اعتقد كثيرون أن المشهد السّياسي بعد النّتائج الحاصلة في الانتخابات، ستتقاسمه مكونات «جبهة الإنقاذ الوطني»، وأساسا، نداء تونس والجبهة الشعبيّة والاتّحاد من أجل تونس، وحزب آفاق تونس، و«المبادرة»، ضمن كتلة برلمانيّة وحكوميّة تقود السّلطتين، التشريعيّة والتنفيذية ـ وربّما القضائيّة أيضا ـ فيما تبقى حركة النّهضة وحزب المؤتمر والحزب الجمهوري والتكتل وحركة وفاء والتيار الديمقراطي، وصنوها من الأحزاب «الصّغيرة» والشّخصيات المستقلة، في خانة المعارضة..
كان هذا التّصور، تعبيرا عن حيثيات مرحلة سياسيّة سابقة (زمن الترويكا)، لم يتخلّص أصحابها من سياقاتها وخصوماتها وصراعاتها وتحالفاتها الإقليمية والدوليّة، وربّما ذهب في تفكيرهم أنّ ما تمّت «هندسته» في تلك الفترة، ستكون له «مكافأته» و«عائداته» السّياسية، لذلك جاء تعاملهم مع نتائج الانتخابات التّشريعيّة والرّئاسية، بمنطق الغنيمة، وهاجس الحكم والتموضع ضمن السّلطة الجديدة.. وهو ما عطّل لديهم القدرة على صياغة أفق جديد، بعيدا عن الحسابات القديمة الضّيقة..
هل هذا قصور ذهني أو معرفي لدى نخبنا ؟
لا نعتقد ذلك...
إنّها أزمة العقول «المؤدلجة» التي تنظر للمشهد السّياسي في تونس، من داخل نموذج حزبي أو سياق إيديولوجي، أو تجربة حصلت هنا أو هناك، في ظروف وأوضاع مختلفة..
ثمّة «عقول»، تفكّر من خارج السّياق الوطني، فلا تقرأ المشهد بمكوناته ومآلاته، ولا تحاول أن تفهم تطوراته الذّاتية، بحيث تنضج معه، وتتفاعل مع شروطه، بل تساهم هي في إنتاج «شروط المرحلة»..
على العكس من ذلك تماما...
لقد ظلّ جزء هام من المكونات السّياسية والحزبية، على اليمين كما على اليسار، يتعامل مع الشأن الوطني بكيفية «طائفيّة»، وليس بشكل سياسي، ديدنه الوحيد، كيف يقصي خصمه؟ وكيف ينفذ إلى السّلطة بحزمة تطلعات وكتلة أحزاب مستنسخة بعضها من بعض ؟ وكيف يستحوذ على الحكم ؟ 
وبدلا من «إبداع» شروط لإدارة المرحلة السّياسية المقبلة، بمعايير السّياسة، وبمقتضيات الواقع وإكراهاته، بدت التصورات والمواقف أقرب ما تكون لـ «فقه الطّائفة» و«أقانيم الإيديولوجيا»، وعقدة الخوف، سواء من «الإسلام السّياسي»، أو ممّا يوصف بـ «التغوّل» أو من عودة الاستبداد من الباب الخلفي للثّورة..  
لذلك جاءت سياقات التفاوض ومضمونه حول الحكومة وترتيبات المرحلة القادمة، محدودة من حيث الأفق، ضعيفة من جهة التصور، فقيرة في مستوى البدائل والمقترحات..
يستوي هنا، اليسار الاشتراكي، واليسار الاستئصالي، و«الديمقراطيون»، واليمين الليبرالي أيضا، ربما كان «حراك شعب المواطنين» الذي أطلقه الدكتور المنصف المرزوقي، السياق السياسي المختلف عن تفاصيل المشهد الحزبي، رغم أنه لم يتبلور بعد في أي شكل تنظيمي، ورغم حرص عديد الوجوه على إلباس المبادرة لبوسا قد لا يكون متساوقا مع فكر الدكتور المرزوقي وغايته من «الحراك»، وربما لا يستجيب لها المشهد السياسي ذاته، بل قد لا توجد له الآليات الضرورية، لتحويله إلى رقم في المعادلة السياسية في البلاد..
صورة المشهد الراهن..
في مقابل هذا «الفراغ السياسي» الرهيب، وإصرار الكثيرين على التعامل مع الشأن الوطني، كمجرد كعكة قابلة لقسمة ضيزى، يتّجه المشهد إلى ترتيبات أخرى، ليست بالضرورة من استحقاقات الثّورة أو مآلاتها، ولكنّها إحدى تعبيرات «الواقعيّة السياسيّة»، التي تعاطت مع مجريات الشّأن السّياسي، ببراغماتيّة واضحة، وبسياسة «الانخراط»، بدل خيار القطيعة، وهو ما أنتج أو بدأ يثمر على الأقل المحاور التالية :
1 ـــــ حركة نداء تونس وحركة النّهضة والوطني الحرّ، وآفاق تونس، وحزب المبادرة، ضمن فريق حاكم سيقود المرحلة القادمة، على الأرجح..
2 ـــــ معارضة متشظّية، لا تعرف إلى الآن تركيبتها النهائية.. فثّمة (الجبهة الشعبيّة)، و(الجبهة الديمقراطية) التي تتألف من «الجمهوري» و«التكتل» و«التّيار الديمقراطي» و«حركة الشعب».. وهناك ما يعرف بـ (الاتحاد من أجل تونس) الذي يضمّ أحزابا يساريّة صغيرة، بالإضافة إلى «كتلة» يسميها أصحابها بـ (الأحزاب الثوريّة)، على غرار «حزب المؤتمر من أجل الجمهورية» و«حركة وفاء» وحزب «البناء الوطني» و«حزب الإصلاح والتنمية»....
وإذا أضفنا إلى ذلك، مبادرات «حراك شعب المواطنين» للدكتور المنصف المرزوقي، ومبادرة السيد حمادي الجبالي «حرّيات» التي أطلقها منذ شهر ونيّف، يصبح الأمر أكثر تعقيدا في مشهد المعارضة المرشح للتشكل في المرحلة المقبلة..
تبقى مجموعة الأسئلة التي تطرح في هذا السياق: من سيقود هذه المعارضة؟ ومن سيكون الطرف الأقوى فيها؟ وهل تعاد نسخة معدّلة من «جبهة الانقاذ»؟ وضمن أي أفق سيلتقي زعماء، مثل نجيب الشابي وحمة الهمامي والمرزوقي والجبالي وبن جعفر وعبو .. وغيرهم، في مواجهة الحكم الجديد ؟ 
3 ـــــ أما المحور الثالث، فيتمثل في المنظمة النقابية (الاتحاد العام التونسي للشغل)، ومنظمة الأعراف (اتحاد الصناعيين والتجار)، اللتين سيشكلان «المسند» الرئيسي للفريق الحاكم، وليسا مجرد لاعبين معدّلين للوضع الجديد، كما كان يعتقد كثير من المراقبين.. ففي ظلّ الحكم الجديد ثمة أدوار تتبدّل، ومواقع تتحدّد، بصورة مختلفة عن المرحلة الماضية.. 
وضع جديد .... بأي أفق ؟
إنّنا أمام وضع جديد قياسا بما كان بعد انتخابات أكتوبر 2011 :
* حزبان كبيران يقودان الدّولة، بشراكة لم تتّضح معالمها بعد..
* معارضة هشّة وغير مهيكلة، بما قد يضعف قدرتها على المساهمة في صنع القرار السّياسي حتّى من موقع الضّغط على الحكم وليس المشاركة فيه..
* دور محدّد للنّقابات تكون فيه المطلبية «بمقدار»، تحت ذريعة المصلحة الوطنيّة العليا والظّرف الانتقالي..
* مجتمع مدني حيّ لكن السؤال حول مجال تأثيره في المرحلة المقبلة يبقى مطروحا بإلحاح..
واضح من خلال هذه الصورة الجديدة للمشهد، أن ثمة مساحة فراغ واسعة ورهيبة خارج منطقة الحكم، وهي المساحة التي يتنافس عليها أكثر من طرف صلب المعارضة، وسط تقدير عديد المراقبين بأن هذه المساحة هي المحدّد لأفق المشهد السّياسي، سواء باتجاه قوة توازن وتعديل حقيقي، أو مجرد تعبيرات اجتماعية وسياسية لن تقدر على مقاومة عودة الاستبداد و«تغوّل» المنظومة القديمة العائدة لمؤسّسات الدولة وحلفائها الذين جاء بهم صندوق الاقتراع..
وربما يزداد الأمر تعقيدا، إذا ما اتجه نداء تونس نحو الانقسام والوهن، فعندئذ ستكون حركة النّهضة هي الرّقم المهيمن في البلاد، وفي ظل ضعف خصومها السّياسيين، سيؤدي الأمر، إمّا إلى عودة الاستقطاب الإيديولوجي الحادّ، أو هيمنة النّهضة على المشهد، وفي كلاّ الحالتين، سيكون ذلك مهدّدا للمسار الديمقراطي برمته.. 
فهل تتّجه البيئة السّياسية التونسيّة إذن، إلى منطق التّداول على الحكم، بين حزبين رئيسيين، مع اعتماد طرف معدّل (قد يكون النقابات وقد تكون منظمات المجتمع المدني)، أم يكون هاجس الاستقرار الهشّ، هو الجدار الذي ستتحطم عليه صخور التحالفات «المغشوشة»، والائتلافات «المفبركة»، في الحكم كما في المعارضة؟ 
لعل النّتيجة الحاصلة المؤكدة في السّياق السّياسي الجديد، هي خروج الثورة من أسوار الدّولة، وعدم توفّر من يحرسها ويمنع الانحراف عن سياقاتها، داخل السّلطة وخارجها، فهل نتّجه نحو القطع مع مرحلة الثّورة بصورة نهائيّة ؟
لا شكّ أن على الطّبقة السّياسية صلب المعارضة، أن تفكر في المشهد بأفق جديد، لا يختزل الوضع في مجرد حقائب وحكومة، بقدر ما يرسم لها تصورات ومقاربات وبنية تفكير جديدة تحتاجها المرحلة المقبلة..
فهل تعي طبقتنا السياسية طبيعة هذه المرحلة والاستحقاق والمهمة والدور ؟؟؟
في البدء كان السؤال... في انتظار الإجابة........ ..
-----------
-  كاتب وصحفي تونسي
salahtounsi@ymail.com